صفحة جزء
وإن من شيعته لإبراهيم. إذ جاء ربه بقلب سليم. إذ قال لأبيه وقومه: ماذا تعبدون؟ أإفكا آلهة دون الله تريدون؟ فما ظنكم برب العالمين؟ ..

هذا هو افتتاح القصة، والمشهد الأول فيها، نقلة من نوح إلى إبراهيم، وبينهما صلة من العقيدة والدعوة والطريق، فهو من شيعة نوح على تباعد الزمان بين الرسولين والرسالتين; ولكنه المنهج الإلهي الواحد، الذي يلتقيان عنده ويرتبطان به ويشتركان فيه.

ويبرز من صفة إبراهيم سلامة القلب وصحة العقيدة وخلوص الضمير:

إذ جاء ربه بقلب سليم ..

وهي صورة الاستسلام الخالص، تتمثل في مجيئه لربه، وصورة النقاء والطهارة والبراءة والاستقامة تتمثل في سلامة قلبه، والتعبير بالسلامة تعبير موح مصور لمدلوله، وهو في الوقت ذاته بسيط قريب المعنى واضح المفهوم، ومع أنه يتضمن صفات كثيرة من البراءة والنقاوة، والإخلاص والاستقامة، إلا أنه يبدو بسيطا غير معقد، ويؤدي معناه بأوسع مما تؤديه هذه الصفات كلها مجتمعات! وتلك إحدى بدائع التعبير القرآني الفريد.

وبهذا القلب السليم، استنكر ما عليه قومه واستبشعه، استنكار الحس السليم لكل ما تنبو عنه الفطرة الصادقة من تصور ومن سلوك:

إذ قال لأبيه وقومه: ماذا تعبدون؟ أإفكا آلهة دون الله تريدون؟ فما ظنكم برب العالمين؟ .. وهو يراهم يعبدون أصناما وأوثانا، فيهتف بهم هتاف الفطرة السليمة في استنكار شديد. ماذا تعبدون؟ ماذا؟ فإن ما تعبدون ليس من شأنه أن يعبد، ولا أن يكون له عابدون! وما يعبده الإنسان في شبهة من حق، إنما هو الإفك المحض، والافتراء الذي لا شبهة فيه، فهل أنتم تقصدون إلى الإفك قصدا وإلى الافتراء عمدا:أإفكا آلهة دون الله تريدون؟ وما هو تصوركم لله؟ وهل يهبط وينحرف إلى هذا المستوى الذي تنكره الفطرة لأول وهلة: فما ظنكم برب العالمين؟ .. وهي كلمة يبدو فيها استنكار الفطرة السليمة البريئة، وهي تطلع على الأمر البين الذي يصدم الحس والعقل والضمير.

ويسقط السياق هنا ردهم عليه، وحوارهم معه; ويمضي مباشرة في المشهد التالي إلى عزيمته التي قررها في نفسه تجاه هذا الإفك المكشوف:

فنظر نظرة في النجوم. فقال: إني سقيم. فتولوا عنه مدبرين. فراغ إلى آلهتهم فقال: ألا تأكلون؟ ما لكم لا تنطقون؟ فراغ عليهم ضربا باليمين ..

ويروى أنه كان للقوم عيد - ربما كان هو عيد النيروز - يخرجون فيه إلى الحدائق والخلوات، بعد أن يضعوا الثمار بين يدي آلهتهم لتباركها، ثم يعودون بعد الفسحة والمرح فيأخذون طعامهم المبارك! وأن إبراهيم - عليه السلام - بعد أن يئس من استجابتهم له; وأيقن بانحراف فطرتهم الانحراف الذي لا صلاح له، اعتزم أمرا، وانتظر هذا اليوم الذي يبعدون فيه عن المعابد والأصنام لينفذ ما اعتزم، وكان الضيق بما هم فيه من انحراف قد بلغ منه أقصاه وأتعب قلبه وقواه، فلما دعي إلى مغادرة المعبد، قلب نظره إلى السماء، وقال:إني [ ص: 2993 ] سقيم .. لا طاقة لي بالخروج إلى المتنزهات والخلوات، فإنما يخرج إليها طلاب اللذة والمتاع، أخلياء القلوب من الهم والضيق - وقلب إبراهيم لم يكن في راحة ونفسه لم تكن في استرواح.

قال ذلك معبرا عن ضيقه وتعبه، وأفصح عنه ليتركوه وشأنه.ولم يكن هذا كذبا منه، إنما كان له أصل في واقع حياته في ذلك اليوم، وإن الضيق ليمرض ويسقم ذويه!.

وكان القوم معجلين ليذهبوا مع عاداتهم وتقاليدهم ومراسم حياتهم في ذلك العيد; فلم يتلبثوا ليفحصوا عن أمره، بل تولوا عنه مدبرين، مشغولين بما هم فيه، وكانت هذه هي الفرصة التي يريد.

لقد أسرع إلى آلهتهم المدعاة، وأمامها أطايب الطعام وبواكير الثمار، فقال في تهكم: ألا تأكلون؟ .. ولم تجبه الأصنام بطبيعة الحال؛ فاستطرد في تهكمه وعليه طابع الغيظ والسخرية: ما لكم لا تنطقون؟ .. وهي حالة نفسية معهودة، أن يوجه الإنسان كلامه إلى ما يعلم حقيقته، ويستيقن أنه لا يسمع ولا ينطق! إنما هو الضيق بما وراء الآلهة المزعومة من القوم وتصورهم السخيف!. ولم تجبه الآلهة مرة أخرى!!. وهنا أفرغ شحنة الغيظ المكتوم حركة لا قولا: فراغ عليهم ضربا باليمين .. وشفى نفسه من السقم والهم والضيق...!.

وينتهي هذا المشهد فيليه مشهد جديد، وقد عاد القوم فاطلعوا على جذاذ الآلهة! ويختصر السياق ما يفصله في سورة أخرى من سؤالهم عمن صنع بآلهتهم هذا الصنع، واستدلالهم في النهاية على الفاعل الجريء، يختصر هذا ليقفهم وجها لوجه أمام إبراهيم!.

فأقبلوا إليه يزفون ..

لقد تسامعوا بالخبر، وعرفوا من الفاعل، فأقبلوا إليه يسرعون الخطى ويحدثون حوله زفيفا، وهم جمع كثير غاضب هائج، وهو فرد واحد، ولكنه فرد مؤمن، فرد يعرف طريقه، فرد واضح التصور لإلهه، عقيدته معروفة له محدودة يدركها في نفسه، ويراها في الكون من حوله، فهو أقوى من هذه الكثرة الهائجة المائجة، المدخولة العقيدة، المضطربة التصور، ومن ثم يجبههم بالحق الفطري البسيط لا يبالي كثرتهم وهياجهم وزفيفهم!.

قال: أتعبدون ما تنحتون؟ والله خلقكم وما تعملون؟ ..

إنه منطق الفطرة يصرخ في وجههم: أتعبدون ما تنحتون؟ .. والمعبود الحق ينبغي أن يكون هو الصانع لا المصنوع: والله خلقكم وما تعملون .. فهو الصانع الوحيد الذي يستحق أن يكون المعبود.

ومع وضوح هذا المنطق وبساطته، إلا أن القوم في غفلتهم وفي اندفاعهم لم يستمعوا له - ومتى استمع الباطل إلى صوت الحق البسيط؟!. - واندفع أصحاب الأمر والنهي فيهم يزاولون طغيانهم في صورته الغليظة:

قالوا: ابنوا له بنيانا فألقوه في الجحيم ..

إنه منطق الحديد والنار الذي لا يعرف الطغاة منطقا سواه; عندما تعوزهم الحجة وينقصهم الدليل، وحينما تحرجهم كلمة الحق الخالصة ذات السلطان المبين.

ويختصر السياق هنا ما حدث بعد قولتهم تلك، ليعرض العاقبة التي تحقق وعد الله لعباده المخلصين ووعيده لأعدائهم المكذبين:

فأرادوا به كيدا فجعلناهم الأسفلين ..

وأين يذهب كيد العباد إذا كان الله يريد؟ وماذا يملك أولئك الضعاف المهازيل - من الطغاة والمتجبرين وأصحاب السلطان وأعوانهم من الكبراء - إذا كانت رعاية الله تحوط عباده المخلصين؟..

[ ص: 2994 ] ثم تجيء الحلقة الثانية من قصة إبراهيم.. لقد انتهى أمره مع أبيه وقومه، لقد أرادوا به الهلاك في النار التي أسموها الجحيم، وأراد الله أن يكونوا هم الأسفلين ونجاه من كيدهم أجمعين.

عندئذ استدبر إبراهيم مرحلة من حياته ليستقبل مرحلة وطوى صفحة لينشر صفحة:

وقال: إني ذاهب إلى ربي سيهدين ..

هكذا؛ إني ذاهب إلى ربي، إنها الهجرة، وهي هجرة نفسية قبل أن تكون هجرة مكانية، هجرة يترك وراءه فيها كل شيء من ماضي حياته، يترك أباه وقومه وأهله وبيته ووطنه وكل ما يربطه بهذه الأرض، وبهؤلاء الناس.ويدع وراءه كذلك كل عائق وكل شاغل، ويهاجر إلى ربه متخففا من كل شيء، طارحا وراءه كل شيء، مسلما نفسه لربه لا يستبقي منها شيئا، موقن أن ربه سيهديه، وسيرعى خطاه، وينقلها في الطريق المستقيم.

إنها الهجرة الكاملة من حال إلى حال، ومن وضع إلى وضع، ومن أواصر شتى إلى آصرة واحدة لا يزحمها في النفس شيء، إنه التعبير عن التجرد والخلوص والاستسلام والطمأنينة واليقين.

وكان إبراهيم حتى هذه اللحظة وحيدا لا عقب له; وهو يترك وراءه أواصر الأهل والقربى، والصحبة والمعرفة، وكل مألوف له في ماضي حياته، وكل ما يشده إلى الأرض التي نشأ فيها، والتي انحسم ما بينه وبين أهلها الذين ألقوه في الجحيم! فاتجه إلى ربه الذي أعلن أنه ذاهب إليه. اتجه إليه يسأله الذرية المؤمنة والخلف الصالح:

رب هب لي من الصالحين ..

واستجاب الله دعاء عبده الصالح المتجرد، الذي ترك وراءه كل شيء، وجاء إليه بقلب سليم.

فبشرناه بغلام حليم .

هو إسماعيل - كما يرجح سياق السيرة والسورة - وسنرى آثار حلمه الذي وصفه ربه به وهو غلام، ولنا أن نتصور فرحة إبراهيم الوحيد المفرد المهاجر المقطوع من أهله وقرابته، لنا أن نتصور فرحته بهذا الغلام، الذي يصفه ربه بأنه حليم.

والآن آن أن نطلع على الموقف العظيم الكريم الفريد في حياة إبراهيم، بل في حياة البشر أجمعين، وآن أن نقف من سياق القصة في القرآن أمام المثل الموحي الذي يعرضه الله للأمة المسلمة من حياة أبيها إبراهيم..

فلما بلغ معه السعي. قال: يا بني إني أرى في المنام أني أذبحك، فانظر ماذا ترى. قال: يا أبت افعل ما تؤمر: ستجدني إن شاء الله من الصابرين ..

يا لله! ويا لروعة الإيمان والطاعة والتسليم

هذا إبراهيم الشيخ، المقطوع من الأهل والقرابة، المهاجر من الأرض والوطن، ها هو ذا يرزق في كبرته وهرمه بغلام، طالما تطلع إليه، فلما جاءه جاء غلاما ممتازا يشهد له ربه بأنه حليم، وها هو ذا ما يكاد يأنس به، وصباه يتفتح، ويبلغ معه السعي، ويرافقه في الحياة، ها هو ذا ما يكاد يأنس ويستروح بهذا الغلام الوحيد، حتى يرى في منامه أنه يذبحه، ويدرك أنها إشارة من ربه بالتضحية، فماذا؟ إنه لا يتردد، ولا يخالجه إلا شعور الطاعة، ولا يخطر له إلا خاطر التسليم، نعم إنها إشارة، مجرد إشارة، وليست وحيا صريحا، ولا أمرا مباشرا، ولكنها إشارة من ربه، وهذا يكفي، هذا يكفي ليلبي ويستجيب. ودون أن يعترض، ودون أن [ ص: 2995 ] يسأل ربه، لماذا يا ربي أذبح ابني الوحيد؟!

ولكنه لا يلبي في انزعاج، ولا يستسلم في جزع، ولا يطيع في اضطراب، كلا إنما هو القبول والرضا والطمأنينة والهدوء، يبدو ذلك في كلماته لابنه وهو يعرض عليه الأمر الهائل في هدوء وفي اطمئنان عجيب:

قال: يا بني إني أرى في المنام أني أذبحك. فانظر ماذا ترى ..

فهي كلمات المالك لأعصابه، المطمئن للأمر الذي يواجهه، الواثق بأنه يؤدي واجبه، وهي في الوقت ذاته كلمات المؤمن، الذي لا يهوله الأمر فيؤديه، في اندفاع وعجلة ليخلص منه وينتهي، ويستريح من ثقله على أعصابه!.

والأمر شاق - ما في ذلك شك - فهو لا يطلب إليه أن يرسل بابنه الوحيد إلى معركة، ولا يطلب إليه أن يكلفه أمرا تنتهي به حياته، إنما يطلب إليه أن يتولى هو بيده، يتولى ماذا؟ يتولى ذبحه، وهو - مع هذا - يتلقى الأمر هذا التلقي، ويعرض على ابنه هذا العرض ويطلب إليه أن يتروى في أمره، وأن يرى فيه رأيه!.

إنه لا يأخذ ابنه على غرة لينفذ إشارة ربه، وينتهي، إنما يعرض الأمر عليه كالذي يعرض المألوف من الأمر، فالأمر في حسه هكذا، ربه يريد، فليكن ما يريد، على العين والرأس، وابنه ينبغي أن يعرف، وأن يأخذ الأمر طاعة وإسلاما، لا قهرا واضطرارا، لينال هو الآخر أجر الطاعة، وليسلم هو الآخر ويتذوق حلاوة التسليم! إنه يحب لابنه أن يتذوق لذة التطوع التي ذاقها; وأن ينال الخير الذي يراه هو أبقى من الحياة وأقنى..

فماذا يكون من أمر الغلام، الذي يعرض عليه الذبح، تصديقا لرؤيا رآها أبوه؟.

إنه يرتقي إلى الأفق الذي ارتقى إليه من قبل أبوه:

قال: يا أبت افعل ما تؤمر. ستجدني - إن شاء الله - من الصابرين ..

إنه يتلقى الأمر لا في طاعة واستسلام فحسب، ولكن في رضا كذلك وفي يقين..

يا أبت .. في مودة وقربى، فشبح الذبح لا يزعجه ولا يفزعه ولا يفقده رشده. بل لا يفقده أدبه ومودته.

افعل ما تؤمر .. فهو يحس ما أحسه من قبل قلب أبيه، يحس أن الرؤيا إشارة، وأن الإشارة أمر، وأنها تكفي لكي يلبي وينفذ بغير لجلجة ولا تمحل ولا ارتياب.

ثم هو الأدب مع الله، ومعرفة حدود قدرته وطاقته في الاحتمال; والاستعانة بربه على ضعفه ونسبة الفضل إليه في إعانته على التضحية، ومساعدته على الطاعة:

ستجدني إن شاء الله من الصابرين ..

ولم يأخذها بطولة، ولم يأخذها شجاعة، ولم يأخذها اندفاعا إلى الخطر دون مبالاة، ولم يظهر لشخصه ظلا ولا حجما ولا وزنا، إنما أرجع الفضل كله لله إن هو أعانه على ما يطلب إليه، وأصبره على ما يراد به:

ستجدني - إن شاء الله - من الصابرين ..

يا للأدب مع الله! ويا لروعة الإيمان، ويا لنبل الطاعة، ويا لعظمة التسليم!.

ويخطو المشهد خطوة أخرى وراء الحوار والكلام، يخطو إلى التنفيذ:

فلما أسلما وتله للجبين ..

ومرة أخرى يرتفع نبل الطاعة، وعظمة الإيمان، وطمأنينة الرضا وراء كل ما تعارف عليه بنو الإنسان، إن الرجل يمضي فيكب ابنه على جبينه استعدادا، وإن الغلام يستسلم فلا يتحرك امتناعا، وقد وصل الأمر [ ص: 2996 ] إلى أن يكون عيانا.

لقد أسلما، فهذا هو الإسلام، هذا هو الإسلام في حقيقته، ثقة وطاعة وطمأنينة ورضا وتسليم، وتنفيذ، وكلاهما لا يجد في نفسه إلا هذه المشاعر التي لا يصنعها غير الإيمان العظيم.

إنها ليست الشجاعة والجراءة، وليس الاندفاع والحماسة، لقد يندفع المجاهد في الميدان، يقتل ويقتل، ولقد يندفع الفدائي وهو يعلم أنه قد لا يعود، ولكن هذا كله شيء والذي يصنعه إبراهيم وإسماعيل هنا شيء آخر، ليس هنا دم فائر، ولا حماسة دافعة ولا اندفاع في عجلة تخفي وراءها الخوف من الضعف والنكوص! إنما هو الاستسلام الواعي المتعقل القاصد المريد، العارف بما يفعل، المطمئن لما يكون. لا بل هنا الرضا الهادئ المستبشر المتذوق للطاعة وطعمها الجميل!.

وهنا كان إبراهيم وإسماعيل قد أديا، كانا قد أسلما، كانا قد حققا الأمر والتكليف، ولم يكن باقيا إلا أن يذبح إسماعيل، ويسيل دمه، وتزهق روحه، وهذا أمر لا يعني شيئا في ميزان الله، بعد ما وضع إبراهيم وإسماعيل في هذا الميزان من روحهما وعزمهما ومشاعرهما كل ما أراده منهما ربهما.

كان الابتلاء قد تم، والامتحان قد وقع، ونتائجه قد ظهرت، وغاياته قد تحققت. ولم يعد إلا الألم البدني، وإلا الدم المسفوح، والجسد الذبيح، والله لا يريد أن يعذب عباده بالابتلاء، ولا يريد دماءهم وأجسادهم في شيء، ومتى خلصوا له واستعدوا للأداء بكلياتهم فقد أدوا، وقد حققوا التكليف، وقد جازوا الامتحان بنجاح.

وعرف الله من إبراهيم وإسماعيل صدقهما، فاعتبرهما قد أديا وحققا وصدقا:

وناديناه أن يا إبراهيم قد صدقت الرؤيا. إنا كذلك نجزي المحسنين. إن هذا لهو البلاء المبين. وفديناه بذبح عظيم ..

قد صدقت الرؤيا وحققتها فعلا، فالله لا يريد إلا الإسلام والاستسلام بحيث لا يبقى في النفس ما تكنه عن الله أو تعزه عن أمره أو تحتفظ به دونه، ولو كان هو الابن فلذة الكبد. ولو كانت هي النفس والحياة، وأنت - يا إبراهيم - قد فعلت جدت بكل شيء وبأعز شيء، وجدت به في رضا وفي هدوء وفي طمأنينة وفي يقين، فلم يبق إلا اللحم والدم، وهذا ينوب عنه ذبح، أي ذبح من دم ولحم! ويفدي الله هذه النفس التي أسلمت وأدت، يفديها بذبح عظيم، قيل: إنه كبش وجده إبراهيم مهيأ بفعل ربه وإرادته ليذبحه بدلا من إسماعيل!.

وقيل له: إنا كذلك نجزي المحسنين .. نجزيهم باختيارهم لمثل هذا البلاء، ونجزيهم بتوجيه قلوبهم ورفعها إلى مستوى الوفاء، ونجزيهم بإقدارهم وإصبارهم على الأداء، ونجزيهم كذلك باستحقاق الجزاء!.

ومضت بذلك سنة النحر في الأضحى ذكرى لهذا الحادث العظيم الذي يرتفع منارة لحقيقة الإيمان، وجمال الطاعة، وعظمة التسليم.والذي ترجع إليه الأمة المسلمة لتعرف فيه حقيقة أبيها إبراهيم، الذي تتبع ملته، والذي ترث نسبه وعقيدته، ولتدرك طبيعة العقيدة التي تقوم بها أو تقوم عليها، ولتعرف أنها الاستسلام لقدر الله في طاعة راضية واثقة ملبية لا تسأل ربها لماذا؟ ولا تتلجلج في تحقيق إرادته عند أول إشارة منه وأول توجيه.ولا تستبقي لنفسها في نفسها شيئا، ولا تختار فيما تقدمه لربها هيئة ولا طريقة لتقديمه إلا كما يطلب هو إليها أن تقدم!

ثم لتعرف أن ربها لا يريد أن يعذبها بالابتلاء; ولا أن يؤذيها بالبلاء، إنما يريد أن تأتيه طائعة ملبية وافية مؤدية، مستسلمة لا تقدم بين يديه، ولا تتألى عليه، فإذا عرف منها الصدق في هذا أعفاها من التضحيات [ ص: 2997 ] والآلام، واحتسبها لها وفاء وأداء، وقبل منها وفداها، وأكرمها كما أكرم أباها.

وتركنا عليه في الآخرين ..

فهو مذكور على توالي الأجيال والقرون، وهو أمة، وهو أبو الأنبياء، وهو أبو هذه الأمة المسلمة، وهي وارثة ملته، وقد كتب الله لها وعليها قيادة البشرية على ملة إبراهيم، فجعلها الله له عقبا ونسبا إلى يوم الدين.

سلام على إبراهيم ..

سلام عليه من ربه، سلام يسجل في كتابه الباقي، ويرقم في طوايا الوجود الكبير.

كذلك نجزي المحسنين ..

كذلك نجزيهم بالبلاء، والوفاء والذكر، والسلام والتكريم.

إنه من عبادنا المؤمنين ..

وهذا جزاء الإيمان، وتلك حقيقته فيما كشف عنه البلاء المبين.

ثم يتجلى عليه ربه بفضله مرة أخرى ونعمته فيهب له إسحاق في شيخوخته. ويباركه ويبارك إسحاق، ويجعل إسحاق نبيا من الصالحين.

وبشرناه بإسحاق نبيا من الصالحين. وباركنا عليه وعلى إسحاق ..

وتتلاحق من بعدهما ذريتهما، ولكن وراثة هذه الذرية لهما ليست وراثة الدم والنسب إنما هي وراثة الملة والمنهج: فمن اتبع فهو محسن، ومن انحرف فهو ظالم لا ينفعه نسب قريب أو بعيد:

ومن ذريتهما محسن وظالم لنفسه مبين ..

ومن ذريتهما موسى وهارون:

ولقد مننا على موسى وهارون. ونجيناهما وقومهما من الكرب العظيم. ونصرناهم فكانوا هم الغالبين. وآتيناهما الكتاب المستبين. وهديناهما الصراط المستقيم. وتركنا عليهما في الآخرين. سلام على موسى وهارون. إنا كذلك نجزي المحسنين. إنهما من عبادنا المؤمنين ..

وهذه اللمحة من قصة موسى وهارون تعنى بإبراز منة الله عليهما باختيارهما واصطفائهما، وبنجاتهما وقومهما من الكرب العظيم الذي تفصله القصة في السور الأخرى، وبالنصر والغلبة على جلاديهم من فرعون وملئه، وبإعطائهما الكتاب الواضح المستبين، وهدايتهما إلى الصراط المستقيم، صراط الله الذي يهدي إليه المؤمنين، وبإبقاء ذكرهما في الأجيال الآتية والقرون الأخيرة وتنتهي هذه اللمحة بالسلام من الله على موسى وهارون. والتعقيب المتكرر في السورة لتقرير نوع الجزاء الذي يلقاه المحسنون، وقيمة الإيمان الذي يكرم من أجله المؤمنون..

التالي السابق


الخدمات العلمية