صفحة جزء
قال الله تعالى : فاغسلوا وجوهكم الآية . الذي يقتضيه ظاهر اللفظ غسلها مرة [ ص: 358 ] واحدة ؛ إذ ليس فيها ذكر العدد فلا يوجب تكرار الفعل ، فمن غسل مرة فقد أدى الفرض . وبه وردت الآثار عن النبي صلى الله عليه وسلم منها حديث ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم توضأ مرة مرة وقال : هذا الوضوء الذي افترض الله علينا .

وروى ابن عباس وجابر : أن النبي صلى الله عليه وسلم توضأ مرة مرة ، وقال أبو رافع : توضأ رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثا ومرة مرة .

قال أبو بكر : فما نص الله تعالى عليه في هذه الآية هو فرض الوضوء على ما بيناه ؛ وفيه أشياء مسنونة سنها رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهو ما حدثنا عبد الله بن الحسن قال : حدثنا أبو مسلم قال : حدثنا أبو الوليد قال : حدثنا زائدة قال : حدثنا خالد بن علقمة عن عبد الخير قال : دخل علي الرحبة بعدما صلى الفجر ، فجلس في الرحبة ثم قال لغلامه : إيتني بطهور فأتاه الغلام بإناء وطست قال عبد الخير : ونحن جلوس ننظر إليه فأخذ بيده اليمنى الإناء فأكفأه على يده اليسرى ثم غسل كفيه ، ثم أخذ بيده اليمنى الإناء فأفرغ على يده اليسرى فغسل كفيه ثلاث مرات ، ثم أدخل يده اليمنى الإناء فلما ملأ كفه تمضمض واستنشق ونثر بيده اليسرى فغسل ثلاث مرات ، ثم غسل وجهه ثلاث مرات ، ثم غسل يده اليمنى إلى المرفق ثلاث مرات ، ثم غسل يده اليسرى إلى المرفق ثلاث مرات ، ثم أدخل يديه الإناء حتى غمرهما بالماء ثم رفعهما بما حملتا ، ثم مسح رأسه بيده كلتيهما ، ثم صب بيده اليمنى على قدمه اليمنى ، ثم غسلها بيده اليسرى ثلاث مرات ، ثم صب بيده اليمنى على قدمه اليسرى ، ثم غسلها بيده اليسرى ثلاث مرات ، ثم أخذ غرفة بكفه فشرب منه ثم قال : من سره أن ينظر إلى طهور رسول الله صلى الله عليه وسلم فهذا طهوره .

وهذا الذي رواه علي في صفة وضوء النبي صلى الله عليه وسلم هو مذهب أصحابنا وذكر فيه أنه بدأ فأكفأ الإناء على يديه فغسلهما ثلاثا ؛ وهو عند أصحابنا وسائر الفقهاء مستحب غير واجب ، وإن أدخلهما الإناء قبل أن يغسلهما لم يفسد الماء إذا لم تكن فيهما نجاسة . ويروى عن الحسن البصري أنه قال : ( من غمس يده في إناء قبل الغسل أهراق الماء ) ، وتابعه على ذلك من لا يعتد به . ويحكى عن بعض أصحاب الحديث أنه فصل بين نوم الليل ونوم النهار ؛ لأنه ينكشف في نوم الليل فلا يأمن أن تقع يده على موضع الاستنجاء ، ولا ينكشف في نوم النهار .

قال أبو بكر : والذي في حديث علي من صفة وضوء رسول الله صلى الله عليه وسلم يسقط هذا الاعتبار ويقتضي أن يكون ذلك سنة الوضوء ؛ لأن عليا كرم الله وجهه صلى الفجر ثم توضأ ليعلمهم وضوء رسول الله صلى الله عليه وسلم فغسل يديه قبل إدخالهما في [ ص: 359 ] الإناء .

وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : إذا استيقظ أحدكم من منامه فليغسل يديه قبل أن يدخلهما الإناء ثلاثا ، فإنه لا يدري أين باتت يده . قال محمد بن الحسن : كانوا يستنجون بالأحجار ، فكان الواحد منهم لا يأمن وقوع يده في حال النوم على موضع الاستنجاء وهناك بلة من عرق أو غيره فتصيبها ، فأمر بالاحتياط من تلك النجاسة التي عسى أن تكون قد أصابت يده من موضع الاستنجاء .

وقد اتفق الفقهاء على الندب ، ومن ذكرنا قوله آنفا فهو شاذ ، وظاهر الآية ينفي إيجابه ، وهو قوله تعالى : إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق فاقتضى الظاهر وجوب غسلهما بعد إدخالهما الإناء ؛ ومن أوجب غسلهما قبل ذلك فهو زائد في الآية ما ليس فيها ، وذلك لا يجوز إلا بنص مثله أو باتفاق ، والآية على عمومها فيمن قام من النوم وغيره ؛ وعلى أنه قد روي أن الآية نزلت فيمن قام من النوم ، وقد أطلقت جواز الغسل على سائر الوجوه .

وقد روى عطاء بن يسار عن ابن عباس أنه قال لهم : أتحبون أن أريكم كيف كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتوضأ ؟ فدعا بإناء فيه ماء فاغترف غرفة بيده اليمنى فتمضمض واستنشق ، ثم أخذ أخرى فغسل بها يده اليمنى ، ثم أخذ أخرى فغسل بها يده اليسرى ؛ وذكر الحديث . فأخبر في هذا الحديث أنه أدخل يده الإناء قبل أن يغسلها ، وهذا يدل على أن غسل اليد قبل إدخالها الإناء استحباب ليس بإيجاب وأن ما في حديث علي وحديث أبي هريرة في غسل اليد قبل إدخالها الإناء ندب ، وحديث أبي هريرة في ذلك ظاهر الدلالة على أنه لم يرد به الإيجاب وأنه أراد الاحتياط مما عسى أن يكون قد أصابت يده موضع الاستنجاء ، وهو قوله : فإنه لا يدري أين باتت يده فأخبر أن كون النجاسة على يده ليس بيقين ، ومعلوم أن يده قد كانت طاهرة قبل النوم ، فهي على أصل طهارتها ، كمن كان على يقين من الطهارة فأمره النبي صلى الله عليه وسلم عند الشك أن يبني على يقين من الطهارة ويلغي الشك ؛ فدل ذلك على أن أمره إذا استيقظ من نومه بغسل يديه قبل إدخالهما الإناء استحباب ليس بإيجاب . وقد ذكر إبراهيم النخعي أن أصحاب عبد الله كانوا إذا ذكر لهم حديث أبي هريرة في أمر المستيقظ من نومه بغسل يديه قبل إدخالهما الإناء قالوا : إن أبا هريرة كان مهذارا فما يصنع بالمهراس وقال الأشجعي لأبي هريرة : فما تصنع بالمهراس ؟ فقال : أعوذ بالله من شرك .

[ ص: 360 ] والذي أنكره أصحاب عبد الله من قول أبي هريرة اعتقاده الإيجاب فيه ؛ لأنه كان معلوما أن المهراس الذي كان بالمدينة قد كان يتوضأ منه في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وبعده فلم ينكره أحد ، ولم يكن الوضوء منه إلا بإدخال اليد فيه ، فاستنكر أصحاب عبد الله اعتقاد الوجوب فيه مع ظهور الاغتراف منه باليد من غير نكير من أحد منهم عليه ، ولم يدفعوا عندنا روايته وإنما أنكروا اعتقاد الوجوب .

واختلف الفقهاء في مسح الأذنين مع الرأس ، فقال أصحابنا : ( هما من الرأس تمسحان معه ) ، وهو قول مالك والثوري والأوزاعي ؛ ورواه أشهب عن مالك ، وكذلك رواه ابن القاسم عنه وزاد : ( وإنما تمسحهما بماء جديد ) . وقال الحسن بن صالح : ( يغسل باطن أذنيه مع وجهه ويمسح ظاهرهما مع رأسه ) . وقال الشافعي : ( يمسحهما بماء جديد وهما سنة على حيالهما لا من الوجه ولا من الرأس ) .

والدليل على أنهما من الرأس ويمسحان معه ما حدثنا عبيد الله بن الحسين قال : حدثنا أبو مسلم قال : حدثنا أبو عمر عن حماد بن زيد عن سنان بن ربيعة عن شهر بن حوشب عن أبي أمامة : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم توضأ فغسل كفيه ثلاثا وطهر وجهه ثلاثا وذراعيه ثلاثا ومسح برأسه وأذنيه وقال : الأذنان من الرأس .

وأخبرنا عبد الباقي بن قانع قال : حدثنا أحمد بن النضر بن بحر قال : حدثنا عامر بن سنان قال : حدثنا زياد بن علاقة عن عبد الحكم عن أنس بن مالك قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : الأذنان من الرأس ما أقبل منهما وما أدبر .

وروى ابن عباس وأبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم مثله أيضا . أما الحديث الأول فإنه يدل على صحة قولنا من وجهين :

أحدهما : قوله إنه مسح برأسه وأذنيه ، وهذا يقتضي أن يكون مسح الجميع بماء واحد ولا يجوز إثبات تجديد ماء لهما بغير رواية .

والثاني : قوله : ( الأذنان من الرأس ) لأنه لا يخلو من أن يكون مراده تعريفنا موضع الأذنين من الرأس أو أنهما تابعتان له ممسوحتان معه ، وغير جائز أن يكون مراده تعريفنا موضع الأذنين ؛ لأن ذلك بين معلوم بالمشاهدة ، وكلام النبي صلى الله عليه وسلم لا يخلو من الفائدة ، فثبت أن المراد الوجه الثاني .

فإن قيل : يجوز أن يكون مراده أنهما ممسوحتان كالرأس . قيل له : لا يجوز ذلك ؛ لأن اجتماعهما في الحكم لا يوجب إطلاق الحكم بأنهما منه ، ألا ترى أنه غير جائز أن يقال الرجلان من الوجه من حيث كانتا مغسولتين كالوجه ؟ فثبت أن قوله : ( الأذنان من الرأس ) إنما مراده أنهما كبعض الرأس وتابعتان له .

ووجه آخر ، وهو أن ( من ) بابها التبعيض إلا أن تقوم الدلالة [ ص: 361 ] على غيره ، فقوله : ( الأذنان من الرأس ) حقيقته أنهما بعض الرأس ، فواجب إذا كان كذلك أن تمسحا معه بماء واحد كما يمسح سائر أبعاض الرأس ؛ وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : إذا مسح المتوضئ برأسه خرجت خطاياه من رأسه حتى تخرج من تحت أذنيه ، وإذا غسل وجهه خرجت خطاياه من تحت أشفار عينيه فأضاف الأذنين إلى الرأس كما جعل العينين من الوجه .

فإن قيل : روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : عشر من الفطرة : خمس في الرأس فذكر منها المضمضة والاستنشاق ، ولم يدل ذلك على دخولهما في حكم الرأس ، كذلك قوله : ( الأذنان من الرأس ) . قيل له : لم يقل الفم والأنف من الرأس ، وإنما قال : ( خمس في الرأس ) فوصف ما يفعل من الخمس في الرأس ؛ ونحن نقول : إن هذه الجملة هو الرأس ، ونقول : العينان في الرأس ، وكذلك الفم والأنف ، قال الله تعالى : لووا رءوسهم والمراد هذه الجملة . على أن ما ذكرته هو لنا ؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لما سمى ما تشتمل عليه هذه الجملة رأسا فوجب أن تكون الأذنان من الرأس لاشتمال هذه الجملة عليهما وأن لا يخرج شيء منها إلا بدلالة ، ولما قال تعالى : وامسحوا برءوسكم وكان معلوما أنه لم يرد به الوجه وإن كان في الرأس وإنما أراد ما علا منه مما فوق الأذنين ، ثم قال صلى الله عليه وسلم : ( الأذنان من الرأس ) كان ذلك إخبارا منه بأنهما من الرأس الممسوح .

فإن قيل : روي أن النبي صلى الله عليه وسلم أخذ لهما ماء جديدا ، وروت الربيع بنت معوذ أن النبي صلى الله عليه وسلم مسح برأسه وصدغيه ثم مسح أذنيه وهذا يقتضي تجديد الماء لهما .

قيل له : أما قولك ( إنه أخذ لهما ماء جديدا ) فلا نعلمه روي من جهة يعتمد عليها ، ولو صح لم يدل على قولك ؛ لأنهما إذا كانتا من الرأس فالماء الجديد الذي أخذه لهما هو الذي أخذه لجميع الرأس ، ولا فرق بين قول القائلين : ( أخذ للأذنين ماء جديدا ) وبين قوله : ( أخذ للرأس ماء جديدا ) إذا كانتا من الرأس ، والماء المأخوذ للرأس هو للأذنين ؛ وقول الربيع بنت معوذ : ( مسح برأسه ثم مسح أذنيه ) لا دلالة فيه على تجديد الماء للأذنين ؛ لأن ذكر المسح لا يقتضي تجديد الماء لهما ؛ لأن اسم المسح يقع على هذا الفعل مع عدم الماء ؛ وهو مثل ما روي أنه مسح رأسه مرتين بماء واحد أقبل بهما وأدبر وقد علمنا أنه أقبل بهما وأدبر ولم يوجب ذلك تجديد الماء ؛ كذلك الأذنان ؛ إذ غير ممكن مسح الرأس مع الأذنين في وقت واحد كما لا يمكن مسح مقدم الرأس ومؤخره في حال واحدة ، فلا دلالة في ذكر مسح الأذنين بعد مسح الرأس على تجديد الماء لهما دون الرأس .

فإن [ ص: 362 ] احتجوا بأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول في سجوده : سجد وجهي للذي خلقه وشق سمعه وبصره فجعل السمع من الوجه . قيل له : لم يرد بالوجه في هذا الموضع العضو المسمى بذلك ، وإنما أراد به أن جملة الإنسان هو الساجد لله لا الوجه ، وهو كقوله تعالى : كل شيء هالك إلا وجهه يعني به ذاته . وأيضا فإنه ذكر السمع ، وليس الأذنان هما السمع ، فلا دلالة فيه على حكم الأذنين ؛ وقد قال الشاعر :

إلى هامة قد وقر الضرب سمعها وليست كأخرى سمعها لم يوقر

فأضاف السمع إلى الهامة .

ويدل على أنهما تمسحان مع الرأس على وجه التبع أنه ليس في الأصول مسح مسنون إلا على وجه التبع للمفروض منه ، ألا ترى أن من سنة المسح على الخفين أن يمسح من أطراف الأصابع إلى أصل الساق والمفروض منه بعضه أما على قولنا فمقدار ثلاثة أصابع وعلى قول المخالف مقدار ما يسمى مسحا ؟ وقد روي في حديث عبد خير عن علي أنه مسح رأسه مقدمه ومؤخره ثم قال : هذا وضوء رسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ وروى عبد الله بن زيد المازني والمقدام بن معد يكرب : أن النبي صلى الله عليه وسلم مسح رأسه بيديه أقبل بهما وأدبر ، بدأ بمقدم رأسه ثم ذهب بهما إلى قفاه ثم ردهما حتى رجع إلى المكان الذي بدأ منه ، ومعلوم أن القفا ليس بموضع مفروض المسح ؛ لأن مسح ما تحت الأذنين لا يجزي من المفروض ، وإنما مسح ذلك الموضع على جهة التبع للمفروض .

فإن قيل : لما لم تكن الأذنان موضع فرض المسح أشبهتا داخل الفم والأنف ، فيجدد لهما ماء جديدا كالمضمضة والاستنشاق فيكون سنة على حيالها . قيل له : هذا غلط ؛ لأن القفا ليس بموضع لفرض المسح ، والنبي صلى الله عليه وسلم قد مسحه مع الرأس على وجه التبع ، فكذلك الأذنان . وأما المضمضة والاستنشاق فكانا سنة على حيالهما من قبل أن داخل الفم والأنف ليسا من الوجه بحال فلم يكونا تابعين له فأخذ لهما ماء جديدا ، والأذنان والقفا جميعا من الرأس وإن لم يكونا موضع الفرض فصارا تابعين له .

فإن قيل : لو كانت الأذنان من الرأس لحل بحلقهما من الإحرام ولكان حلقهما مسنونا مع الرأس إذا أراد الإحلال من إحرامه . قيل له : لم يسن حلقهما ولا حل بحلقهما ؛ لأن في العادة أن لا شعر عليهما ، وإنما الحلق مسنون في الرأس في الموضع الذي يكون عليه الشعر في العادة ، فلما كان وجود الشعر على الأذنين شاذا نادرا أسقط حكمهما في الحلق ولم يسقط في المسح .

وأيضا [ ص: 363 ] فإنا قلنا : إن الأذنين تابعتان للرأس على ما بينا لا على أنهما الأصل ، ألا ترى أنا لا نجيز المسح عليهما دون الرأس ؟ فكيف يلزمنا أن نجعلهما أصلا في الحلق وأما قول الحسن بن صالح في غسل باطن الأذنين ومسح ظاهرهما فلا وجه له لأنه لو كان باطنهما مغسولا لكانتا من الوجه فكان يجب غسلهما ، ولما وافقنا على أن ظاهرهما ممسوح من الرأس دل ذلك على أنهما من الرأس ، ولأنا لم نجد عضوا بعضه من الرأس وبعضه من الوجه . وقال أصحابنا : لو مسح ما تحت أذنيه من الرأس لم يجزه من الفرض لأن ذلك من القفا وليس هو من مواضع فرض المسح فلا يجزيه ، ألا ترى أنه لو كان شعره قد بلغ منكبه فمسح ذلك الموضع من شعره لم يجزه عن مسح رأسه ؟

واختلف الفقهاء في تفريق الوضوء ، فقال أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد وزفر والأوزاعي والشافعي : ( هو جائز ) . وقال ابن أبي ليلى ومالك والليث : ( إن تطاول أو تشاغل بعمل غيره ابتدأ الوضوء من أوله ) . والدليل على صحة ما قلناه قوله تعالى : فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق الآية فإذا أتى بالغسل على أي وجه فعله فقد قضى عهدة الآية ، ولو شرطنا فيه الموالاة وترك التفريق كان فيه إثبات زيادة في النص ، والزيادة في النص توجب نسخه ويدل عليه أيضا قوله تعالى : ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج ولكن يريد ليطهركم والحرج الضيق فأخبر تعالى أن المقصد حصول الطهارة ونفي الحرج ، وفي قول مخالفينا إثبات الحرج مع وقوع الطهارة المذكورة في الآية . ويدل عليه قوله تعالى : وينزل عليكم من السماء ماء ليطهركم به الآية ، فأخبر بوقوع التطهير بالماء من غير شرط الموالاة ، فحيثما وجد كان مطهرا بحكم الظاهر ويدل عليه قوله تعالى : وأنزلنا من السماء ماء طهورا ومعناه مطهرا ، فحيثما وجد فواجب أن يكون هذا حكمه ؛ ولو منعنا الطهارة مع وجود الغسل لأجل التفريق كنا قد سلبناه الصفة التي وصفه الله تعالى بها من كونه طهورا ويدل عليه ما حدثنا عبد الباقي بن قانع قال : حدثنا علي بن محمد بن أبي الشوارب قال : حدثنا مسدد قال : حدثنا أبو الأحوص قال : حدثنا محمد بن عبيد الله عن الحسين بن سعيد عن أبيه عن علي قال : جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله إني اغتسلت من الجنابة وصليت الفجر فلما أصبحت رأيت بذراعي قدر موضع الظفر لم يصبه الماء ؟ فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : لو مسحت عليه بيدك أجزأك فأجاز له أن يمسح عليه بعد تراخي الوقت ولم يأمره [ ص: 364 ] باستئناف الطهارة .

وروى عبد الله بن عمر وغيره أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى قوما وأعقابهم تلوح ، فقال : ويل للأعقاب من النار أسبغوا الوضوء . ويدل عليه حديث رفاعة بن رافع عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : لا تتم صلاة أحدكم حتى يضع الوضوء مواضعه . والتفريق لا يخرجه من أن يكون وضعه مواضعه لأن مواضعه هذه الأعضاء المذكورة في القرآن ، ولم يشرط فيه الموالاة وترك التفريق . ويدل عليه من وجه آخر قوله في لفظ آخر : حتى يسبغ الوضوء فيغسل وجهه ويديه ويمسح برأسه ويغسل رجليه ولم يذكر فيه التتابع ، فهو على الأمرين من تفريق أو موالاة .

فإن قيل : لما كان قوله تعالى : فاغسلوا وجوهكم وأيديكم أمرا يقتضي الفور وجب أن يكون مفعولا على الفور ، فإذا لم يفعل استقبل ؛ إذ لم يفعل المأمور به . قيل له : الأمر على الفور لا يمنع صحة فعله على المهلة ، ألا ترى أن تارك الوضوء رأسا لا تفسد طهارته إذا فعله بعد ذلك على التراخي ؟ وكذلك سائر الأوامر التي ليست موقتة فإن تركها في وقت الأمر بها لا يفسدها إذا فعلها ولا يمنع صحتها ؛ وعلى أن هذا المعنى لأن يكون دليلا على صحة قولنا أولى وذلك لأن غسل العضو المفعول على الفور قد صح عندنا جميعا وتركه لغسل باقي الأعضاء ينبغي أن لا يغير حكم الأول ولا تلزمه إعادته ، لأن في إيجاب إعادته إبطاله عن الفور وإيجاب فعله على التراخي ، فواجب أن يكون مقرا على حكمه في صحة فعله بديا على الفور . واحتج أيضا القائلون بذلك بحديث ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم توضأ مرة وقال : هذا وضوء من لا يقبل الله له صلاة إلا به قالوا : ومعلوم أن فعله كان على وجه المتابعة . قيل له : هذا دعوى ، ومن أين لك أنه فعله متتابعا ؟ وجائز أن يكون غسل وجهه في وقت ثم غسل يديه بعد ساعات وكذلك سائر أعضائه ليفيد الحاضرين حكم جواز فعله متفرقا ، وعلى أنه لو تابع لم يدل قوله ذلك على وجوب التتابع ؛ لأن قوله : ( هذا وضوء ) إنما إشارة إلى الغسل لا إلى الزمان .

فإن قيل : لما كان بعضه منوطا ببعض حتى لا يصح لبعضه حكم إلا بجميعه أشبه أفعال الصلاة . قيل له : هذا منتقض بالحج ؛ لأن بعضه منوط ببعض ، ألا ترى أنه لو لم يقف بعرفة بطل إحرامه وطوافه الذي قدمه ولم يجب من أجل ذلك متابعة أفعاله ؟ وأيضا فإنه قد ثبت لغسل بعض الأعضاء حكم دون بعض ، ألا ترى أنه لو كان بذراعه عذر لسقط فرض طهارته عنه ؟ وليس كذلك الصلاة لأن أفعالها كلها منوطة بعضها ببعض ، فإما أن يسقط جميعها أو يثبت جميعها على [ ص: 365 ] الحال التي يمكن فعلها ، فمن حيث جاز سقوط بعض أعضاء الطهارة وبقي البعض أشبه الصلاة والزكاة وسائر العبادات إذا اجتمع وجوبها عليه فيجوز تفريقها عليه . وأيضا فإن الصلاة إنما لزم فيها الموالاة من غير فصل لأنه يدخل فيها بتحريمة ولا يصح بناء أفعالها إلا على التحريمة التي دخل بها في الصلاة ، فمتى أبطل التحريمة بكلام أو فعل لم يصح له بناء باقي أفعالها بغير تحريمة ، والطهارة لا تحتاج إلى تحريمة ، ألا ترى أنه يصح في أضعافها الكلام وسائر الأفعال ولا يبطلها ذلك ؟ وإنما شرط فيه من قال ذلك عدم جفاف العضو قبل إتمام الطهارة وجفاف العضو لا تأثير له في حكم رفع الطهارة ، ألا ترى أن جفاف جميع الأعضاء لا يؤثر في رفعها ؟ كذلك جفاف بعضها . وأيضا فلو كان هذا تشبيها صحيحا وقياسا مستقيما لما صح في هذا الموضع ؛ إذ غير جائز الزيادة في النص بالقياس فلا مدخل للقياس ههنا . وأيضا فإنه لا خلاف أنه لو كان في الشمس ووالى بين الوضوء إلا أنه كان يجف العضو منه قبل أن يغسل الآخر أنه لا يوجب ذلك بطلان الطهارة ، كذلك إذا جف بتركه إلى أن يغسل الآخر .

التالي السابق


الخدمات العلمية