صفحة جزء
في جواب ابن عباس السائل عن تقديم العمرة على الحج .

فإن قيل : سئل ابن عباس وقيل له : كيف تأمر بالعمرة قبل الحج والله سبحانه يقول : وأتموا الحج والعمرة لله فقال : كيف تقرءون الدين قبل الوصية أو الوصية قبل الدين ؟ قالوا : الوصية ، قال : فبأيهما تبدءون ؟ قالوا : بالدين ، قال : فهو ذاك . فلولا أن في لسانهم الترتيب في الفعل على حسب وجوده في اللفظ لما سألوه عن ذلك . قيل له : كيف يحتج بقول هذا السائل وهو قد جهل ما فيه الترتيب بلا خلاف بين أهل اللغة فيه ، وهو قوله فمن تمتع بالعمرة إلى الحج وهذا اللفظ لا محالة يوجب ترتيب فعل الحج على العمرة وتقديمها عليه ، فمن جهل هذا لم ينكر منه الجهل بحكم اللفظ في قوله تعالى : وأتموا الحج والعمرة لله وما يدري هذا القائل أن هذا السائل كان من أهل اللغة ، وعسى أن يكون ممن أسلم من العجم ولم يكن من أهل المعرفة باللسان ؛ وأيهما أولى قول ابن عباس في أن ترتيب اللفظ لا يوجب ترتيب الفعل ، أو قول هذا السائل ؟ فلو لم يكن في إسقاط قول القائلين بالترتيب إلا قول ابن عباس لكان كافيا مغنيا .

فإن قيل : قد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : ابدءوا بما بدأ الله به ، وقال تعالى : إن علينا جمعه وقرآنه فإذا قرأناه فاتبع قرآنه فقوله : ابدءوا بما بدأ الله به أمر يقتضي التبدئة بما بدأ الله به في اللفظ والحكم ، وقوله عز وجل : فاتبع قرآنه لزوم في عموم اتباعه مرتبا إذا ورد اللفظ كذلك . قيل له : أما قوله : ابدءوا بما بدأ الله به فإنما ورد في شأن الصفا والمروة ، فذكر بعضهم القصة على وجهها ، وحفظ بعضهم ذكر السبب واقتصر على قوله صلى الله عليه وسلم : ابدءوا بما بدأ الله به وغير جائز لنا أن نجعلهما حديثين ونثبت من النبي صلى الله عليه وسلم القول في حالين إلا بدلالة توجب ذلك .

وأيضا فنحن نبدأ بما بدأ الله به ، وإنما الكلام بيننا وبين مخالفينا في مراد الله من التبدئة بالفعل إذا بدأ به في اللفظ ، فالواجب أن نثبت أن الله قد أراد ترتيب الحكم حتى نبدأ به . وكذلك الجواب في قوله : فاتبع قرآنه لأن اتباع قرآنه أن نبدأ به على ترتيبه ونظامه ، وواجب أن نبدأ بحكم القرآن على حسب مراده من ترتيب أو جمع وغيره ؛ وأنت متى أوجبت الترتيب فيما لا يقتضي المراد ترتيبه فلم تتبع قرآنه ، وترتيب [ ص: 373 ] اللفظ لا يوجب ترتيب الفعل .

فإن قيل : إذا كان القرآن اسما للتأليف والحكم جميعا فواجب علينا اتباعه في الأمرين . قيل له : القرآن اسم للمتلو حكما كان أو خبرا ، فعلينا اتباعه في تلاوته ؛ فأما مراد ترتيب الفعل على ترتيب اللفظ فإن المرجع فيه إلى مقتضى اللغة وليس في اللغة إيجاب ترتيب الفعل على ترتيب اللفظ في المأمور به ، ألا ترى أن كثيرا من القرآن قد نزل بأحكام ثم نزلت بعده أحكام أخر ولم يوجب تقديم تلاوته تقديم فعله على ما نزل بعده ؟ وقد علمنا أنه غير جائز تغيير نظم القرآن والسور والآي عما هي عليه ، وليس يوجب ذلك ترتيب الأحكام المذكورة فيها حسب ترتيب التلاوة ، فبان بذلك سقوط هذا السؤال .

فإن قيل : قد أثبت الترتيب بالواو في قول الرجل لامرأته : " أنت طالق وطالق وطالق " قبل الدخول بها ، فأثبتها بالأولى ولم توقع الثانية والثالثة ، فجعلت " الواو " مرتبة بحكم اللفظ ، فكذلك قوله تعالى : فاغسلوا وجوهكم يلزمك إيجاب الترتيب في غسل هذه الأعضاء حسب ما في نظام التلاوة من الترتيب . قيل له : لم نوقع الأولى قبل الثانية في مسألة الطلاق لما ذكرت من كون ( الواو ) مقتضية للترتيب ، وإنما أوقعنا الأولى قبل الثانية لأنه أوقعها غير معلقة بشرط ولا مضافة إلى وقت ، وحكم الطلاق إذا حصل هكذا أن يقع غير منتظر به حال أخرى ، فلما وقعت الأولى لأنه قد بدأ بها في اللفظ ثم أوقع الثانية صادفتها الثانية وليست هي بزوجة فلم تلحقها ؛ وأما قوله تعالى : فاغسلوا وجوهكم فلم يقع به غسل الوجه قبل اليد ولا اليد قبل المسح ؛ لأن غسل بعض هذه الأعضاء لا يغني ولا يتعلق به حكم إلا بغسل الجميع ، فصار غسل الجميع موجبا معا بحكم اللفظ ، فلم يقتض اللفظ الترتيب ، ألا ترى أنه لو علق الطلاق الأول والثاني والثالث بشرط فقال : ( أنت طالق وطالق وطالق إن دخلت الدار ) لم يقع منه شيء إلا بالدخول ؟ لأنه شرط في كل واحدة ما شرطه في الأخرى من الدخول ، كما شرط في غسل كل واحد من الأعضاء غسل الأعضاء الأخر ؛ ولا يختلف أهل العلم في رجل قال لامرأته : ( إن دخلت هذه الدار وهذه الدار فأنت طالق ) فدخلت الثانية ثم الأولى أنها تطلق ، ولم يكن قوله : ( هذه وهذه ) موجبا لتقديم الأولى في الشرط الذي علق به وقوع الطلاق .

فإن قيل : روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : لا يقبل الله صلاة أحدكم حتى يسبغ الوضوء فيغسل وجهه ثم يديه ثم يمسح برأسه ثم يغسل رجليه و ( ثم ) تقتضي الترتيب بلا خلاف .

قيل له : لا يخلو [ ص: 374 ] قائل ذلك من أن يكون متكذبا أو جاهلا ، وأكثر ظني أن قائله فيه متكذب وقد تعمد ذلك ؛ لأن هذا إنما هو حديث علي بن يحيى بن خلاد عن أبيه عن عمه رفاعة بن رافع ، وقد روي من طرق كثيرة وليس في شيء منها ما ذكر من الترتيب وعطف الأعضاء بعضها على بعض ب ( ثم ) وإنما أكثر ما فيه : يغسل وجهه ويديه ويمسح برأسه ورجليه إلى الكعبين وقال في بعضها : حتى يضع الطهور مواضعه وذلك يقتضي جواز ترك الترتيب ، وأما عطفه ب ( ثم ) فما رواه أحد ولا ذكره بإسناد ضعيف ولا قوي . وعلى أنه لو روي ذلك في الحديث لم يجز الاعتراض به على القرآن في إثبات الزيادة فيه وإيجاب نسخه ، فإذ قد ثبت أنه ليس في القرآن إيجاب الترتيب فغير جائز إثباته بخبر الواحد لما وصفنا

التالي السابق


الخدمات العلمية