صفحة جزء
قوله تعالى : يا بني آدم خذوا زينتكم عند كل مسجد قال أبو بكر : هذه الآية تدل على فرض ستر العورة في الصلاة . وقد اختلف الفقهاء في ذلك ، فقال أبو حنيفة وزفر وأبو يوسف ومحمد بن الحسن والحسن بن زياد : { هي فرض في الصلاة إن تركه مع الإمكان فسدت صلاته } ، وهو قول الشافعي . وقال مالك والليث : " الصلاة مجزية مع كشف العورة ويوجبان الإعادة في الوقت والإعادة في الوقت عندهما استحباب . ودلالة هذه الآية على فرض ستر العورة في الصلاة من وجوه :

أحدها : أنه لما قال : خذوا زينتكم عند كل مسجد فعلق الأمر بالمسجد ، علمنا أن المراد الستر للصلاة لولا ذلك لم يكن لذكر المسجد فائدة ، فصار تقديرها : خذوا زينتكم في الصلاة ، ولو كان المراد سترها عن الناس لما خص المسجد بالذكر ؛ إذ كان الناس في الأسواق أكثر منهم في المساجد ، فأفاد بذكر المسجد وجوبه في الصلاة إذ كانت المساجد مخصوصة بالصلاة . وأيضا لما أوجبه في المسجد وجب بظاهر الآية فرض الستر في الصلاة إذا فعلها في المسجد ، وإذا وجب في الصلاة المفعولة في المسجد وجب في غيرها من الصلوات حيث فعلت ؛ لأن أحدا لم يفرق بينهما .

وأيضا فإن المسجد يجوز أن يكون عبارة عن السجود نفسه كما قال الله تعالى : وأن المساجد لله والمراد السجود ، وإذا كان كذلك اقتضت الآية لزوم الستر عند السجود ، وإذا لزم ذلك في السجود لزم في سائر أفعال الصلاة ؛ إذ لم يفرق أحد بينهما ؛ روي عن ابن عباس وإبراهيم ومجاهد وطاوس والزهري : أن المشركين كانوا يطوفون بالبيت عراة ، فأنزل الله تعالى : خذوا زينتكم عند كل مسجد قال أبو بكر : وقيل إنهم إنما كانوا يطوفون بالبيت عراة ؛ لأن الثياب قد دنستها المعاصي في زعمهم فيتجردون منها . وقيل إنهم كانوا يفعلون ذلك تفاؤلا بالتعري من الذنوب . وقال بعض من يحتج لمالك ابن أنس : إن هؤلاء السلف لما ذكروا سبب نزول الآية وهو طواف العريان وجب أن يكون حكمها مقصورا عليه .

وليس هذا عندنا كذلك ؛ لأن نزول الآية عندنا على سبب لا يوجب الاقتصار بحكمها عليه لأن الحكم عندنا لعموم اللفظ لا للسبب . وعلى أنه لو كان كما ذكر لا يمنع ذلك وجوبه في الصلاة ؛ لأنه إذا وجب الستر في الطواف فهو في الصلاة أوجب ؛ إذ لم يفرق أحد بينهما .

فإن قال قائل : فينبغي أن لا يمنع ترك الستر صحة الصلاة كما لم يمنع صحة الطواف الذي فيه نزلت الآية وإن وقع ناقصا . قيل له : ظاهره يقتضي بطلان [ ص: 206 ] الجميع عند عدم الستر ، ولكن الدلالة قد قامت على جواز الطواف مع النهي كما يجوز الإحرام مع الستر وإن كان منهيا عنه ، ولم تقم الدلالة على جواز الصلاة عريانا ؛ ولأن ترك بعض فروض الصلاة يفسدها مثل الطهارة واستقبال القبلة ، وترك بعض فروض الإحرام لا يفسده ؛ لأنه لو ترك الإحرام في الوقت ثم أحرم صح إحرامه ، وكذلك لو أحرم وهو مجامع لامرأته وقع إحرامه ، فصار الإحرام آكدا في بقائه من الصلاة والطواف من موجبات الإحرام فوجب أن لا يفسده ترك الستر ولا يمنع وقوعه . وتدل على أن حكم الآية غير مقصور على الطواف وأن المراد بها الصلاة قوله تعالى : خذوا زينتكم عند كل مسجد والطواف مخصوص بمسجد واحد ولا يفعل في غيره ، فدل على أن مراده الصلاة التي تصح في كل مسجد . ويدل عليه من جهة السنة حديث أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : لا يصل أحدكم في ثوب واحد ليس على فرجه منه شيء .

وروى محمد بن سيرين عن صفية بنت الحارث عن عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : لا يقبل الله صلاة حائض إلا بخمار فنفى قبولها لمن بلغت الحيض فصلتها مكشوفة الرأس ، كما نفى قبولها مع عدم الطهارة بقوله صلى الله عليه وسلم : لا يقبل الله صلاة بغير طهور فثبت بذلك أن ستر العورة من فروضها . وأيضا قد اتفق الجميع على أنه مأمور بستر العورة في الصلاة ؛ ولذلك يأمره مخالفنا بإعادتها في الوقت ، فإذا كان مأمورا بالستر ومنهيا عن تركه وجب أن يكون من فروض الصلاة من وجهين :

أحدهما : أن هذا الحكم مأخوذ عن الآية وأن الآية قد أريد بها الستر في الصلاة ، والثاني : أن النهي يقتضي فساد الفعل إلا أن تقوم الدلالة على الجواز .

فإن قال قائل : لو كان الستر من فروض الصلاة لما جازت الصلاة مع عدمه عند الضرورة إلا ببدل يقوم مقامه مثل الطهارة ، فلما جازت صلاة العريان إذا لم يجد ثوبا من غير بدل على الستر دل على أنه ليس من فرضه .

قيل له : هذا سؤال ساقط لاتفاق الجميع على جواز صلاة الأمي والأخرس مع عدم القراءة من غير بدل عنها ، ولم يخرجها ذلك من أن يكون فرضا . وزعم بعض من يحتج لمالك أنه لو كان الثوب من عمل الصلاة ومن فرضها لوجب على الإنسان أن ينوي بلبس الثوب أنه للصلاة كما ينوي بالافتتاح أنه لتلك الصلاة . وهذا كلام واه جدا فاسد العبارة مع ضعف المعنى وذلك لأن الثوب لا يكون من عمل الصلاة ولا من فروضها ولكن ستر العورة من شروطها التي [ ص: 207 ] لا تصح إلا به كالطهارة ، كما أن استقبال القبلة من شروطها ، ولا يحتاج الاستقبال إلى نية ، والطهارة من شروطها ولا تحتاج عندنا إلى نية ، والقيام في حال الافتتاح من فروضها لمن قدر عليه ولا يحتاج إلى نية ، والقيام والقراءة والركوع والسجود بعد الافتتاح من فروضها ولا يحتاج لشيء من ذلك إلى نية .

فإن قيل : لأن نية الصلاة قد أغنت عن تجديد النية لهذه الأفعال . قيل له : وكذلك نية الصلاة قد أغنت عن تجديد نية للستر . وقوله تعالى : خذوا زينتكم عند كل مسجد يدل على أنه مندوب في حضور المسجد إلى أخذ ثوب نظيف مما يتزين به ؛ وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال ندب إلى ذلك في الجمع والأعياد ، كما أمر بالاغتسال للعيدين والجمعة وأن يمس من طيب أهله .

التالي السابق


الخدمات العلمية