صفحة جزء
إن الذين سبقت لهم منا الحسنى أولئك عنها مبعدون لا يسمعون حسيسها وهم في ما اشتهت أنفسهم خالدون لا يحزنهم الفزع الأكبر وتتلقاهم الملائكة هذا يومكم الذي كنتم توعدون يوم نطوي السماء كطي السجل للكتب كما بدأنا أول خلق نعيده وعدا علينا إنا كنا فاعلين ولقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر أن الأرض يرثها عبادي الصالحون إن في هذا لبلاغا لقوم عابدين وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين .

قوله تعالى : " إن الذين سبقت لهم منا الحسنى " سبب نزولها أنه لما نزلت " إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم " ، شق ذلك على قريش ، وقالوا : شتم آلهتنا ، فجاء ابن الزبعرى فقال : ما لكم ؟ قالوا : شتم آلهتنا ، قال : وما قال ؟ فأخبروه ، فقال : ادعوه لي ، فلما دعي رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قال : يا محمد ; هذا شيء لآلهتنا خاصة ، أو لكل من عبد من دون الله ؟ قال : " لا ، بل لكل من عبد من دون الله " ، فقال ابن الزبعرى : خصمت ورب هذه البنية ، ألست تزعم أن الملائكة عباد صالحون ، وأن عيسى عبد صالح ، وأن عزيرا عبد صالح ، [ ص: 393 ] فهذه بنو مليح يعبدون الملائكة ، وهذه النصارى تعبد عيسى ، وهذه اليهود تعبد عزيرا ، فضج أهل مكة ، فنزلت هذه الآية ، قاله ابن عباس . وقال الحسين بن الفضل : إنما أراد بقوله : " وما تعبدون " : الأصنام دون غيرها ; لأنه لو أراد الملائكة والناس لقال : ( ومن ) . وقيل : " إن " بمعنى ( إلا ) ، فتقديره : إلا الذين سبقت لهم منا الحسنى ، وهي قراءة ابن مسعود وأبي نهيك ، فإنهما قرءا : ( إلا الذين ) . وروي عن علي بن أبي طالب أنه قرأ هذه الآية ، فقال : أنا منهم ، وأبو بكر ، وعمر ، وعثمان ، وطلحة ، والزبير ، وسعد ، وعبد الرحمن .

وفي المراد " بالحسنى " قولان : أحدهما : الجنة ، قاله ابن عباس وعكرمة . والثاني : السعادة ، قاله ابن زيد .

قوله تعالى : " أولئك عنها " ; أي : عن جهنم ، وقد تقدم ذكرها . " مبعدون " والبعد : طول المسافة ، والحسيس : الصوت تسمعه من الشيء إذا مر قريبا منك . قال ابن عباس : لا يسمع أهل الجنة حسيس أهل النار إذا نزلوا منازلهم من الجنة .

قوله تعالى : " لا يحزنهم الفزع الأكبر " وقرأ أبو رزين ، وقتادة ، [ ص: 394 ] وابن أبي عبلة ، وابن محيصن ، وأبو جعفر الشيزري عن الكسائي : ( لا يحزنهم ) بضم الياء وكسر الزاي .

وفي الفزع الأكبر أربعة أقوال :

أحدها : أنه النفخة الآخرة ، رواه العوفي عن ابن عباس ، وبهذه النفخة يقوم الناس من قبورهم ، ويدل على صحة هذا الوجه قوله تعالى: " وتتلقاهم الملائكة " .

والثاني : أنه إطباق النار على أهلها ، رواه سعيد بن جبير عن ابن عباس ، وبه قال الضحاك .

والثالث : أنه ذبح الموت بين الجنة والنار ، وهو مروي عن ابن عباس أيضا ، وبه قال ابن جريج .

والرابع : أنه حين يؤمر بالعبد إلى النار ، قاله الحسن البصري .

وفي مكان تلقي الملائكة لهم قولان :

أحدهما : إذا قاموا من قبورهم ، قاله مقاتل . والثاني : على أبواب الجنة ، قاله ابن السائب .

قوله تعالى : " هذا يومكم " فيه إضمار : يقولون ، هذا يومكم " الذي كنتم توعدون " فيه الجنة .

قوله تعالى : " يوم نطوي السماء " وقرأ أبو العالية ، وابن أبي عبلة ، وأبو جعفر : ( تطوى ) بتاء مضمومة ( السماء ) بالرفع ، وذلك بمحو رسومها ، وتكدير نجومها ، وتكوير شمسها . " كطي السجل للكتب " قرأ الجمهور : ( السجل ) بكسر السين والجيم وتشديد اللام . وقرأ الحسن ، وأبو المتوكل ، [ ص: 395 ] وأبو الجوزاء ، ومحبوب عن أبي عمرو : ( السجل ) بكسر السين وإسكان الجيم خفيفة . وقرأ أبو السماك كذلك ، إلا أنه فتح الجيم .

قوله تعالى : " للكتب " قرأ ابن كثير ، ونافع ، وأبو عمرو ، وابن عامر : ( للكتاب ) . وقرأ حمزة ، والكسائي ، وحفص عن عاصم : ( للكتب ) على الجمع .

وفي ( السجل ) أربعة أقوال :

أحدها : أنه ملك ، قاله علي بن أبي طالب ، وابن عمر ، والسدي .

والثاني : أنه كاتب كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، رواه أبو الجوزاء عن ابن عباس .

والثالث : أن السجل بمعنى : الرجل ، روى أبو الجوزاء عن ابن عباس ، قال : السجل : هو الرجل . قال شيخنا أبو منصور اللغوي : وقد قيل : ( السجل ) بلغة الحبشة : الرجل .

والرابع : أنه الصحيفة ، رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس ، وبه قال مجاهد ، والفراء ، وابن قتيبة . وقرأت على شيخنا أبي منصور ، قال : قال أبو بكر ، يعني - ابن دريد - : السجل : الكتاب ، والله أعلم . ولا ألتفت إلى قولهم : إنه [ ص: 396 ] فارسي معرب ، والمعنى : كما يطوى السجل على ما فيه من كتاب . واللام بمعنى على . وقال بعض العلماء : المراد بالكتاب : المكتوب ، فلما كان المكتوب ينطوي بانطواء الصحيفة ، جعل السجل كأنه يطوي الكتاب .

ثم استأنف ، فقال تعالى : " كما بدأنا أول خلق نعيده " الخلق هاهنا مصدر ، وليس بمعنى المخلوق .

وفي معنى الكلام أربعة أقوال :

أحدها : كما بدأناهم في بطون أمهاتهم حفاة عراة غرلا ، كذلك نعيدهم يوم القيامة ، روي عن ابن عباس عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : " يحشر الناس يوم القيامة عراة حفاة غرلا كما خلقوا ، ثم قرأ : كما بدأنا أول خلق نعيده " ، وإلى هذا المعنى ذهب مجاهد .

والثاني : أن المعنى : إنا نهلك كل شيء كما كان أول مرة ، رواه العوفي عن ابن عباس .

والثالث : أن السماء تمطر أربعين يوما كمني الرجال ، فينبتون بالمطر في قبورهم كما ينبتون في بطون أمهاتهم ، رواه أبو صالح عن ابن عباس .

والرابع : أن المعنى : قدرتنا على الإعادة كقدرتنا على الابتداء ، قاله الزجاج . [ ص: 397 ]

قوله تعالى : " وعدا " قال الزجاج : هو منصوب على المصدر ; لأن قوله تعالى : " نعيده " بمعنى : وعدنا هذا وعدا . " إنا كنا فاعلين " ; أي : قادرين على فعل ما نشاء . وقال غيره : إنا كنا فاعلين ما وعدنا .

قوله تعالى : " ولقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر " فيه أربعة أقوال :

أحدها : أن الزبور : جميع الكتب المنزلة من السماء ، والذكر : أم الكتاب الذي عند الله ، قاله سعيد بن جبير في رواية ، ومجاهد ، وابن زيد ، وهذا معنى قول ابن عباس في رواية ابن جبير ، فإنه قال : الزبور : التوراة والإنجيل والقرآن ، والذكر : الذي في السماء .

والثاني : أن الزبور : الكتب ، والذكر : التوراة ، رواه العوفي عن ابن عباس .

والثالث : أن الزبور : القرآن ، والذكر : التوراة والإنجيل ، قاله سعيد بن جبير في رواية .

والرابع : أن الزبور : زبور داود ، والذكر : ذكر موسى ، قاله الشعبي . وفي الأرض المذكورة هاهنا ثلاثة أقوال :

أحدها : أنه أرض الجنة ، رواه سعيد بن جبير عن ابن عباس ، وبه قال الأكثرون . والثاني : أرض الدنيا ، وهو منقول عن ابن عباس أيضا . والثالث : الأرض المقدسة ، قاله ابن السائب .

وفي قوله تعالى : " يرثها عبادي الصالحون " ثلاثة أقوال :

أحدها : أنهم أمة محمد صلى الله عليه وسلم ، رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس ، وفي رواية : ترث أمة محمد أرض الدنيا بالفتوح .

والثاني : بنو إسرائيل ، قاله ابن السائب . [ ص: 398 ]

والثالث : أنه عام في كل صالح ، قاله بعض فقهاء المفسرين .

قوله تعالى : " إن في هذا " يعني : القرآن ، " لبلاغا " ; أي : لكفاية ، والمعنى : أن من اتبع القرآن وعمل به ، كان القرآن بلاغه إلى الجنة .

وقوله تعالى : " لقوم عابدين " قال كعب : هم أمة محمد صلى الله عليه وسلم الذين يصلون الصلوات الخمس ، ويصومون شهر رمضان .

قوله تعالى : " وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين " قال ابن عباس : هذا عام للبر والفاجر ، فمن آمن به تمت له الرحمة في الدنيا والآخرة ، ومن كفر به صرفت عنه العقوبة إلى الموت والقيامة . وقال ابن زيد : هو رحمة لمن آمن به خاصة .

التالي السابق


الخدمات العلمية