صفحة جزء
قل للذين آمنوا يغفروا للذين لا يرجون أيام الله ليجزي قوما بما كانوا يكسبون . من عمل صالحا فلنفسه ومن أساء فعليها ثم إلى ربكم ترجعون . ولقد آتينا [ ص: 357 ] بني إسرائيل الكتاب والحكم والنبوة ورزقناهم من الطيبات وفضلناهم على العالمين . وآتيناهم بينات من الأمر فما اختلفوا إلا من بعد ما جاءهم العلم بغيا بينهم إن ربك يقضي بينهم يوم القيامة فيما كانوا فيه يختلفون . ثم جعلناك على شريعة من الأمر فاتبعها ولا تتبع أهواء الذين لا يعلمون . إنهم لن يغنوا عنك من الله شيئا وإن الظالمين بعضهم أولياء بعض والله ولي المتقين . هذا بصائر للناس وهدى ورحمة لقوم يوقنون . أم حسب الذين اجترحوا السيئات أن نجعلهم كالذين آمنوا وعملوا الصالحات سواء محياهم ومماتهم ساء ما يحكمون . وخلق الله السماوات والأرض بالحق ولتجزى كل نفس بما كسبت وهم لا يظلمون .

قوله تعالى: قل للذين آمنوا يغفروا . . . [الآية] في سبب نزولها أربعة أقوال .

أحدها: أنهم نزلوا في غزاة بني المصطلق على بئر يقال لها: "المريسيع"، فأرسل عبد الله بن أبي غلامة ليستقي الماء، فأبطأ عليه، فلما أتاه قال له: ما حبسك؟ قال: غلام عمر، ما ترك أحدا يستقي حتى ملأ قرب النبي صلى الله عليه وسلم وقرب أبي بكر، وملأ لمولاه، فقال عبد الله: ما مثلنا ومثل هؤلاء إلا كما قيل: سمن كلبك يأكلك، فبلغ قوله عمر، فاشتمل سيفه يريد التوجه إليه، فنزلت هذه الآية، رواه عطاء عن ابن عباس .

[ ص: 358 ] والثاني: [أنها] لما نزلت: من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا [البقرة: 245] قال يهودي بالمدينة يقال له فنحاص: احتاج رب محمد، فلما سمع بذلك عمر، اشتمل [على] سيفه وخرج في طلبه، فنزل جبريل عليه السلام بهذه الآية، فبعث النبي صلى الله عليه وسلم في طلب عمر، فلما جاء، قال: "يا عمر، ضع سيفك" وتلا عليه الآية، رواه ميمون بن مهران عن ابن عباس .

والثالث: أن ناسا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من أهل مكة كانوا في أذى شديد من المشركين قبل أن يؤمروا بالقتال، فشكوا ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فنزلت هذه الآية، قاله القرظي، والسدي .

والرابع: أن رجلا من كفار قريش شتم عمر بن الخطاب، فهم عمر أن يبطش به، فنزلت هذه الآية، قاله مقاتل .

ومعنى الآية: قل للذين آمنوا: اغفروا، ولكن شبه بالشرط والجزاء، كقوله: قل لعبادي الذين آمنوا يقيموا الصلاة [إبراهيم: 31] وقد مضى بيان هذا .

وقوله: للذين لا يرجون أي: لا يخافون وقائع الله في الأمم الخالية، لأنهم لا يؤمنون به، فلا يخافون عقابه . وقيل: لا يدرون أنعم الله عليهم، أم لا . وقد سبق بيان معنى "أيام الله" في سورة [إبراهيم: 5] .

[ ص: 359 ] فصل

وجمهور المفسرين على أن هذه الآية منسوخة، لأنها تضمنت الأمر بالإعراض عن المشركين . واختلفوا في ناسخها على ثلاثة أقوال .

أحدها: [أنه] قوله: فاقتلوا المشركين [التوبة: 5]، رواه معمر عن قتادة .

والثاني: أنه قوله في [الأنفال: 57]: فإما تثقفنهم في الحرب ، وقوله في [براءة: 36]: وقاتلوا المشركين كافة ، رواه سعيد عن قتادة .

والثالث: [أنه] قوله: أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا [الحج: 39]، قاله أبو صالح .

قوله تعالى: ليجزي قوما وقرأ ابن عامر، وحمزة، والكسائي: "لنجزي" بالنون "قوما" يعني الكفار، فكأنه قال: لا تكافئوهم أنتم لنكافئهم نحن .

وما بعد هذا قد سبق [الإسراء: 7] إلى قوله: ولقد آتينا بني إسرائيل الكتاب يعني التوراة والحكم وهو الفهم في الكتاب، ورزقناهم من الطيبات يعني المن والسلوى وفضلناهم على العالمين أي: عالمي زمانهم .

وآتيناهم بينات من الأمر فيه قولان .

أحدهما: بيان الحلال والحرام، قاله السدي .

والثاني: العلم بمبعث النبي صلى الله عليه وسلم وشواهد نبوته، ذكره الماوردي .

وما بعد هذا قد تقدم بيانه [آل عمران: 19] إلى قوله:

[ ص: 360 ] ثم جعلناك على شريعة من الأمر سبب نزولها أن رؤساء قريش دعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى ملة آبائه، فنزلت هذه الآية، قاله أبو صالح عن ابن عباس .

فأما قوله: على شريعة فقال ابن قتيبة : [أي] على ملة ومذهب، ومنه يقال: شرع فلان في كذا: إذا أخذ فيه، ومنه "مشارع الماء" وهي الفرض التي شرع فيها الوارد .

قال المفسرون: ثم جعلناك بعد موسى على طريقة من الأمر، أي: من الدين فاتبعها و الذين لا يعلمون كفار قريش .

إنهم لن يغنوا عنك أي: لن يدفعوا عنك عذاب الله إن اتبعتهم، وإن الظالمين يعني المشركين . والله ولي المتقين الشرك . والآية التي بعدها [مفسرة] في آخر [الأعراف: 203] .

[ ص: 361 ] أم حسب الذين اجترحوا السيئات سبب نزولها أن كفار مكة قالوا للمؤمنين: إنا نعطى في الآخرة مثلما تعطون من الأجر، قاله مقاتل . والاستفهام هاهنا استفهام إنكار . و "اجترحوا" بمعنى اكتسبوا .

سواء محياهم ومماتهم قرأ حمزة، والكسائي، وحفص عن عاصم، وزيد عن يعقوب: "سواء" نصبا; وقرأ الباقون: بالرفع . فمن رفع، فعلى الابتداء; ومن نصب، جعله مفعولا ثانيا، على تقدير: أن نجعل محياهم ومماتهم سواء; والمعنى: إن هؤلاء يحيون مؤمنين ويموتون مؤمنين، وهؤلاء يحيون كافرين ويموتون كافرين; وشتان ماهم في الحال والمآل ساء ما يحكمون أي: بئس ما يقضون .

ثم ذكر بالآية التي تلي هذه أنه خلق السموات والأرض بالحق، أي: للحق والجزاء بالعدل، لئلا يظن الكافر أنه لا يجزى بكفره .

التالي السابق


الخدمات العلمية