صفحة جزء
القول في تأويل قوله تعالى:

ومن يقتل مؤمنا متعمدا فجزاؤه جهنم خالدا فيها وغضب الله عليه ولعنه وأعد له عذابا عظيما [93]

ومن يقتل مؤمنا متعمدا لقتله فجزاؤه جهنم خالدا فيها وغضب الله عليه إذ قتل وليه عمدا ولعنه أي: أبعده عن الرحمة وأعد له وراء ذلك عذابا عظيما أي: فوق عذاب سائر الكبائر، سوى الشرك.

قال الإمام ابن كثير : هذا تهديد شديد ووعد أكيد لمن تعاطى هذا الذنب العظيم، الذي هو مقرون بالشرك بالله في غير ما آية في كتاب الله، حيث يقول سبحانه في سورة (الفرقان): والذين لا يدعون مع الله إلها آخر ولا يقتلون النفس التي حرم الله إلا بالحق [الفرقان: من الآية 68] الآية، وقال تعالى: قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم ألا تشركوا به شيئا [الأنعام: من الآية 151] الآية، والآيات والأحاديث في تحريم القتل كثيرة جدا.

فمن ذلك ما ثبت [ ص: 1452 ] في الصحيحين، عن ابن مسعود قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أول ما يقضى بين الناس يوم القيامة في الدماء .

وفي الحديث الآخر الذي رواه أبو داود ، عن عبادة بن الصامت قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: لا يزال المؤمن معنقا صالحا ما لم يصب دما حراما، فإذا أصاب دما حراما بلح .

وفي حديث آخر: لزوال الدنيا أهون عند الله من قتل رجل مسلم قلت: رواه الترمذي والنسائي عن ابن عمرو

وفي الحديث الآخر: لو اجتمع أهل السماوات والأرض على قتل رجل مسلم لكبهم الله في النار .

قلت: رواه الترمذي ، عن أبي سعيد ، وأبي هريرة بلفظ: لو أن أهل السماء والأرض اشتركوا في دم مؤمن لأكبهم الله عز وجل في النار .

وفي الحديث الآخر: من أعان على قتل المسلم ولو بشطر كلمة جاء يوم القيامة مكتوبا بين عينيه: آيس من رحمة الله .

قلت: رواه ابن ماجه عن أبي هريرة .

وقد كان ابن عباس يرى أنه لا توبة لقاتل المؤمن عمدا .

[ ص: 1453 ] وقال البخاري : حدثنا آدم ، حدثنا شعبة ، حدثنا المغيرة بن النعمان قال: سمعت ابن جبير ، قال: اختلف فيها أهل الكوفة ، فرحلت إلى ابن عباس فسألته عنها، فقال: نزلت هذه الآية: ومن يقتل مؤمنا متعمدا فجزاؤه جهنم هي آخر ما نزل وما نسخها شيء.

وكذا رواه هو أيضا ومسلم والنسائي من طرق عن شعبة به.

ورواه أبو داود ، عن أحمد بن حنبل ، عن ابن مهدي، عن سفيان الثوري ، عن مغيرة بن النعمان، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس في قوله: ومن يقتل مؤمنا متعمدا فجزاؤه جهنم فقال: ما نسخها شيء.

وقال ابن جرير : حدثنا ابن بشار قال حدثنا ابن أبي عدي، عن سعيد ، عن أبي بشر، عن سعيد بن جبير قال: قال لي عبد الرحمن بن أبزى: سئل ابن عباس عن قوله: ومن يقتل مؤمنا متعمدا الآية؟ فقال: لم ينسخها شيء، وقال في هذه الآية: والذين لا يدعون مع الله إلها آخر إلى آخرها، قال: نزلت في أهل الشرك.

وروى ابن جرير - أيضا - عن سعيد بن جبير قال: سألت ابن عباس عن قوله تعالى: ومن يقتل مؤمنا متعمدا فجزاؤه جهنم قال: إن الرجل إذا عرف الإسلام وشرائع الإسلام، ثم قتل مؤمنا متعمدا فجزاؤه جهنم، ولا توبة له، فذكرت ذلك لمجاهد فقال: إلا من ندم.

وروى الإمام أحمد، عن سالم بن أبي الجعد، عن ابن عباس أن رجلا أتى إليه فقال: أرأيت رجلا قتل رجلا عمدا؟ فقال: فجزاؤه جهنم خالدا فيها الآية، قال: لقد نزلت من آخر ما نزل، ما نسخها [ ص: 1454 ] شيء حتى قبض رسول الله - صلى الله عليه وسلم -وما نزل وحي بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: أرأيت إن تاب وآمن وعمل صالحا ثم اهتدى؟ قال: وأنى له بالتوبة؟ وقد سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: ثكلته أمه، رجل قتل رجلا متعمدا يجيء يوم القيامة آخذا قاتله بيمينه أو بيساره أو آخذا رأسه بيمينه أو بشماله تشخب أوداجه دما قبل العرش يقول: يا رب سل عبدك فيم قتلني ورواه النسائي وابن ماجه .

وقد روي هذا الحديث عن ابن عباس من طرق كثيرة.

وممن ذهب إلى أنه لا توبة له من السلف زيد بن ثابت ، وأبو هريرة ، وعبد الله بن عمر ، وأبو سلمة بن عبد الرحمن، وعبيد بن عمير، والحسن، وقتادة ، والضحاك بن مزاحم ، نقله ابن أبي حاتم .

وفي الباب أحاديث كثيرة، فمن ذلك ما رواه الحافظ أبو بكر بن مردويه، عن ابن مسعود ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: يجيء المقتول متعلقا بقاتله يوم القيامة آخذا رأسه بيده الأخرى، فيقول: يا رب سل هذا فيم قتلني؟ قال: فيقول: قتلته لتكون العزة لك فيقول: فإنها لي.

قال: ويجيء آخر متعلقا بقاتله، فيقول: رب سل هذا فيم قتلني؟ قال: فيقول: قتلته لتكون العزة لفلان، قال: فإنها ليست له بؤ بإثمه، قال فيهوى به في النار سبعين خريفا
ورواه النسائي .

وأخرج الإمام أحمد والنسائي عن معاوية قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: كل ذنب عسى الله أن يغفره إلا الرجل يموت كافرا أو الرجل يقتل مؤمنا متعمدا .

وقال الإمام أحمد : حدثنا النضر ، حدثنا سليمان بن المغيرة، حدثنا حميد، قال: أتاني أبو العالية أنا وصاحب لي، فقال لنا: هلما فأنتما أشب سنا مني، وأوعى للحديث مني، فانطلق بنا إلى بشر بن عاصم، فقال له أبو العالية: حدث هؤلاء حديثك، فقال: حدثنا عقبة بن مالك الليثي قال: بعث النبي - صلى الله عليه وسلم - سرية فأغارت على قوم فشد مع القوم رجل [ ص: 1455 ] فاتبعه رجل من السرية شاهرا سيفه، فقال الشاد من القوم: إني مسلم، فلم ينظر فيما قال، فضربه فقتله، فنمى الحديث إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال فيه قولا شديدا، فبلغ القاتل، فبينا رسول الله - صلى الله عليه وعلى آله وسلم - يخطب إذ قال القاتل: والله ما قال الذي قال إلا تعوذا من القتل، قال فأعرض رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - عنه وعمن قبله من الناس، وأخذ في خطبته، ثم قال أيضا: يا رسول الله ما قال الذي قال إلا تعوذا من القتل، فأعرض عنه وعمن قبله من الناس وأخذ في خطبته، ثم لم يصبر حتى قال الثالثة: والله يا رسول الله ما قال الذي قال إلا تعوذا من القتل، فأقبل عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تعرف المساءة في وجهه، فقال: إن الله أبى على من قتل مؤمنا (ثلاث مرات) ورواه النسائي .

ثم قال ابن كثير : والذي عليه الجمهور من سلف الأمة وخلفها أن القاتل له توبة فيما بينه وبين الله عز وجل، فإن تاب وأناب وخشع وخضع، وعمل عملا صالحا بدل الله سيئاته حسنات، وعوض المقتول من ظلامته وأرضاه عن ظلامته، قال الله تعالى: والذين لا يدعون مع الله إلها إلى قوله: إلا من تاب وآمن وعمل عملا صالحا [الفرقان: 68 - 70] الآية، وهذا خبر لا يجوز نسخه، وحمله على المشركين وحمل هذه الآية على المؤمنين خلاف الظاهر، ويحتاج حمله إلى دليل، والله أعلم.

وقال تعالى: قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله [الزمر: من الآية 53] الآية، وهذا عام في جميع الذنوب، من كفر وشرك وشك ونفاق وقتل وفسق وغير ذلك، كل من تاب من أي ذلك تاب الله عليه، قال الله تعالى: إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء [النساء: من الآية 48 و 116] فهذه الآية عامة في جميع الذنوب ما عدا الشرك، وهي مذكورة في هذه السورة الكريمة بعد هذه الآية وقبلها؛ لتقوية الرجاء، والله أعلم.

[ ص: 1456 ] وثبت في الصحيحين خبر الإسرائيلي الذي قتل مائة نفس، ثم سأل عالما هل لي من توبة؟ فقال: ومن يحول بينك وبين التوبة؟ ثم أرشده إلى بلد يعبد الله فيه فهاجر إليه فمات في الطريق، فقبضته ملائكة الرحمة.

وإذا كان هذا في بني إسرائيل فلأن يكون في هذه الأمة التوبة مقبولة بطريق الأولى والأحرى؛ لأن الله وضع عنا الآصار والأغلال التي كانت عليهم، وبعث نبينا بالحنيفية السمحة. فأما الآية الكريمة وهي قوله تعالى: ومن يقتل مؤمنا متعمدا الآية، فقد قال أبو هريرة وجماعة من السلف: هذا جزاؤه إن جازاه.

وقد رواه ابن مردويه بإسناده مرفوعا، ولكن لا يصح، ومعنى هذه الصيغة أن هذا جزاؤه إن جوزي عليه، وكذا كل وعيد على ذنب، لكن قد لا يكون لذلك معارض من أعمال صالحة تمنع وصول ذلك الجزاء إليه، على قولي أصحاب الموازنة والإحباط، وهذا أحسن ما يسلك في باب الوعيد، والله أعلم بالصواب.

وبتقدير دخول القاتل في النار، إما على قول ابن عباس - ومن وافقه - أنه لا توبة له، أو على قول الجمهور حيث لا عمل له صالحا ينجو به - فليس بمخلد فيها أبدا، بل الخلود هو المكث الطويل، وقد تواترت الأحاديث عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه يخرج من النار من كان في قلبه أدنى مثقال ذرة من الإيمان.

[ ص: 1457 ] ثم قال ابن كثير : وأما مطالبة المقتول القاتل يوم القيامة فإنه من حقوق الآدميين، وهي لا تسقط بالتوبة، ولكن لا بد من ردها إليهم، ولا فرق بين المقتول والمسروق منه والمغصوب منه والمغبون والمقذوف وسائر حقوق الآدميين، فإن الإجماع منعقد على أنها لا تسقط بالتوبة، ولكن لا بد من ردها إليهم في صحة التوبة، فإن تعذر ذلك فلا بد من المطالبة يوم القيامة، لكن لا يلزم من وقوع المطالبة وقوع المجازاة، إذ قد يكون للقاتل أعمال صالحة تصرف إلى المقتول، أو بعضها، ثم يفضل له أجر يدخل به الجنة، أو يعوض الله المقتول بما يشاء من فضله من قصور الجنة ونعيمها ورفع درجته فيها ونحو ذلك، والله أعلم. انتهى.

وقال النووي في "شرح مسلم " في شرح حديث الإسرائيلي الذي قتل مائة نفس: استدل به على قبول توبة القاتل عمدا ، وهو مذهب أهل العلم وإجماعهم، ولم يخالف أحد منهم إلا ابن عباس، وأما ما نقل عن بعض السلف من خلال هذا فمراد قائله الزجر والتوبة، لا أنه يعتقد بطلان توبته.

وهذا الحديث وإن كان شرع من قبلنا وفي الاحتجاج به خلاف - فليس هذا موضع الخلاف، وإنما موضعه إذا لم يرد شرعنا بموافقته وتقريره، فإن ورد كان شرعا لنا بلا شك، وهذا قد ورد شرعنا به، وذلك قوله تعالى: والذين لا يدعون مع الله إلها آخر ولا يقتلون النفس إلى قوله: إلا من تاب [الفرقان: 68] الآية.

وأما قوله تعالى: ومن يقتل مؤمنا متعمدا الآية، فالصواب في معناها: أن جزاءه جهنم، فقد يجازى بذلك وقد يجازى بغيره، وقد لا يجازى بل يعفى عنه، فإن قتل عمدا مستحلا بغير حق ولا تأويل فهو كافر مرتد، يخلد في جهنم بالإجماع، وإن كان غير مستحل بل معتقدا تحريمه فهو فاسق عاص، مرتكب كبيرة، جزاؤها جهنم خالدا فيها، لكن تفضل الله تعالى وأخبر أنه لا يخلد من مات موحدا فيها، فلا يخلد هذا، ولكن قد يعفى عنه ولا يدخل النار أصلا، وقد لا يعفى عنه [ ص: 1458 ] بل يعذب كسائر عصاة الموحدين، ثم يخرج معهم إلى الجنة، ولا يخلد في النار.

قال: فهذا هو الصواب في معنى الآية، ولا يلزم من كونه يستحق أن يجازى بعقوبة مخصوصة أن يتحتم ذلك الجزاء، وليس في الآية إخبار بأنه يخلد في جهنم، وإنما فيها أنها جزاؤه، أي: يستحق أن يجازى بذلك، وقيل: وردت الآية في رجل بعينه، وقيل: المراد بالخلود طول المدة لا الدوام، وقيل: معناها: هذا جزاؤه إن جازاه، وهذه الأقوال كلها ضعيفة أو فاسدة؛ لمخالفتها حقيقة لفظ الآية، فالصواب ما قدمناه. انتهى.

وقال علاء الدين الخازن : اختلف العلماء في حكم هذه الآية، هل هي منسوخة أم لا؟ وهل لمن قتل متعمدا توبة أم لا؟ فروي عن سعيد بن جبير قال: قلت لابن عباس : ألمن قتل مؤمنا متعمدا من توبة؟ قال: لا، فتلوت عليه الآية التي في الفرقان: والذين لا يدعون مع الله إلها آخر ولا يقتلون النفس التي حرم الله إلا بالحق [الفرقان: من الآية 68] إلى آخر الآية، قال: هذه آية مكية، نسختها آية مدنية: ومن يقتل مؤمنا متعمدا فجزاؤه جهنم

وفي رواية قال: اختلف أهل الكوفة في قتل المؤمن، فرحلت إلى ابن عباس [ ص: 1459 ] فقال: نزلت في آخر ما نزل، ولم ينسخها شيء.

وفي رواية أخرى: قال ابن عباس : نزلت هذه الآية بالمدينة : والذين لا يدعون مع الله إلها آخر إلى قوله: مهانا فقال المشركون: وما يغني عنا الإسلام، وقد عدلنا بالله، وقد قتلنا النفس التي حرم الله، وأتينا الفواحش؟ فأنزل الله تعالى: إلا من تاب وآمن وعمل عملا [الفرقان: من الآية 70] إلى آخر الآية.

زاد في رواية: فأما من دخل في الإسلام وعقله ثم قتل فلا توبة له، أخرجاه في الصحيحين.

وروي عن علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه أنه ناظر ابن عباس في هذه الآية فقال: من أين لك أنها محكمة؟ فقال ابن عباس: تكاثف الوعيد فيها.

وقال ابن مسعود: إنها محكمة، وما تزداد إلا شدة، وعن خارجة بن زيد قال: سمعت زيد بن ثابت يقول: أنزلت هذه الآية: ومن يقتل مؤمنا متعمدا فجزاؤه جهنم خالدا فيها بعد التي في الفرقان: والذين لا يدعون مع الله إلها آخر ولا يقتلون النفس التي حرم الله إلا بالحق بستة أشهر، أخرجه أبو داود والنسائي، وزاد النسائي في رواية: بثمانية أشهر.

وقال زيد بن ثابت: لما نزلت هذه الآية في الفرقان: والذين لا يدعون مع الله إلها آخر [ ص: 1460 ] عجبنا من لينها، فلبثنا سبعة أشهر ثم نزلت الغليظة بعد اللينة فنسخت اللينة، وأراد بالغليظة هذه الآية التي في سورة النساء، وباللينة آية الفرقان.

وذهب الأكثرون من علماء السلف والخلف إلى أن هذه الآية منسوخة، واختلفوا في ناسخها، فقال بعضهم: نسختها التي في الفرقان، وليس هذا بالقوي؛ لأن آية الفرقان نزلت قبل آية النساء، والمتقدم لا ينسخ المتأخر، وذهب جمهور من قال بالنسخ إلى أن ناسخها الآية التي في النساء أيضا، وهي قوله تعالى: إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء [النساء: من الآية 48].

وأجاب من ذهب إلى أنها منسوخة عن حديث ابن عباس المتقدم المخرج في الصحيحين: بأن هذه الآية خبر عن وقوع العذاب بمن فعل ذلك الأمر المذكور في الآية، والنسخ لا يدخل الأخبار، ولئن سلمنا أنه يدخلها النسخ لكن الجمع بين الآيتين ممكن بحيث لا يكون بينهما تعارض، وذلك بأن يحمل مطلق آية النساء على تقييد آية الفرقان، فيكون المعنى: فجزاؤه جهنم إلا من تاب.

وقال بعضهم: ما ورد عن ابن عباس إنما هو على سبيل التشديد والمبالغة في الزجر عن القتل، فهو كما روي عن سفيان بن عيينة أنه قال: إن لم يقتل يقال له: لا توبة لك، وإن قتل ثم ندم وجاء تائبا يقال له: لك توبة.

وقيل: إنه قد روي عن ابن عباس مثله، وروي عنه أيضا أن توبته تقبل، وهو قول أهل السنة، ويدل عليه الكتاب والسنة، أما الكتاب فقوله تعالى: وإني لغفار لمن تاب وآمن وعمل صالحا ثم اهتدى [طه: 82] وقوله: إن الله يغفر الذنوب جميعا [الزمر: من الآية 53].

وأما السنة فما روي عن جابر بن عبد الله قال: جاء رجل أعرابي إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا رسول الله [ ص: 1461 ] ما الموجبتان؟ قال: من مات لا يشرك بالله شيئا دخل الجنة، ومن مات يشرك به شيئا دخل النار أخرجه مسلم.

وروى الشيخان عن عبادة بن الصامت قال: كنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في مجلس فقال: تبايعوني على أن لا تشركوا بالله شيئا ولا تسرقوا ولا تزنوا ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق .

وفي رواية: ولا تقتلوا أولادكم ولا تأتوا ببهتان تفترونه بين أيديكم وأرجلكم ولا تعصوني في معروف، فمن وفى منكم فأجره على الله، ومن أصاب من ذلك فستره الله عليه فأمره إلى الله، إن شاء عفا عنه وإن شاء عذبه فبايعناه على ذلك. انتهى.

وقال العلامة أبو السعود : تمسكت الخوارج والمعتزلة بها في خلود من قتل المؤمن عمدا في النار ، ولا متمسك لهم فيها، لا لما قيل من أنها في حق المستحل - كما هو رأي عكرمة وأضرابه، بدليل أنها نزلت في مقيس بن صبابة الكناني المرتد، فإن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب - بل لأن المراد بالخلود هو المكث الطويل لا الدوام؛ لتظاهر النصوص الناطقة بأن عصاة المؤمنين لا يدوم عذابهم.

وما روي عن ابن عباس - رضي الله تعالى عنهما -: أنه لا توبة لقاتل المؤمن عمدا، وكذا ما روي عن سفيان : أن أهل العلم إذا سئلوا قالوا: لا توبة له - محمول على الاقتداء بسنة الله تعالى في التشديد والتغليظ، وعليه يحمل ما روي عن أنس - رضي الله تعالى عنه -: أن النبي - عليه الصلاة والسلام - قال: أبى الله أن يجعل لقاتل المؤمن توبة وقال عون بن عبد الله وبكر بن عبد الله وأبو صالح : المعنى هو جزاؤه إن جازاه، قالوا: قد يقول لمن يزجره عن أمر: إن فعلته فجزاؤك القتل والضرب، ثم إن لم يجازه بذلك لم يكن ذلك منه كذبا.

[ ص: 1462 ] قال الواحدي : والأصل في ذلك أن الله عز وجل يجوز أن يخلف الوعيد، وإن امتنع أن يخلف الوعد، والتحقيق أنه لا ضرورة إلى تفريع ما نحن فيه على الأصل المذكور؛ لأنه إخبار منه تعالى أن جزاءه ذلك، لا بأنه يجزيه بذلك، كيف لا؟ وقد قال الله تعالى: وجزاء سيئة سيئة مثلها [الشورى: من الآية 40] ولو كان هذا إخبارا بأنه تعالى يجزي كل سيئة بمثلها لعارضه قوله تعالى: ويعفو عن كثير [الشورى: من الآية 30] انتهى.

وقال العلامة الشوكاني في "نيل الأوطار": وأما بيان الجمع بين هذه الآية وما خالفها فنقول: لا نزاع أن قوله تعالى: ومن يقتل مؤمنا من صيغ العموم الشاملة للتائب وغير التائب، بل للمسلم والكافر، والاستثناء المذكور في آية الفرقان - أعني قوله تعالى: إلا من تاب [الفرقان: من الآية 60] بعد قوله تعالى: ولا يقتلون النفس التي حرم الله إلا بالحق [الفرقان: من الآية 68] - مختص بالتائبين، فيكون مخصصا لعموم قوله تعالى: ومن يقتل مؤمنا

أما على ما هو المذهب الحق من أنه ينبني العام على الخاص مطلقا تقدم أو تأخر أو قارن - فظاهر، وأما على مذهب من قال: إن العام المتأخر ينسخ الخاص المتقدم، فإذا سلمنا تأخر قوله تعالى: ومن يقتل مؤمنا على آية الفرقان - فلا نسلم تأخرها من العمومات القاضية بأن القتل مع التوبة من جملة ما يغفره الله، كقوله تعالى: قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعا [الزمر: من الآية 53] وقوله تعالى: إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء [النساء: من الآية 116].

[ ص: 1463 ] ومن ذلك ما أخرجه مسلم عن أبي هريرة ، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: من تاب قبل طلوع الشمس من مغربها تاب الله عليه .

وما أخرجه الترمذي وصححه من حديث صفوان بن عسال ، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: باب [ ص: 1464 ] من قبل المغرب يسير الراكب في عرضه أربعين أو سبعين سنة - خلقه الله تعالى يوم خلق السماوات والأرض - مفتوح للتوبة، لا يغلق حتى تطلع الشمس من مغربها .

وأخرج الترمذي أيضا عن ابن عمر ، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: إن الله عز وجل يقبل توبة العبد ما لم يغرغر .

وأخرج مسلم من حديث أبي موسى أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: إن الله عز وجل يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار، ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل حتى تطلع الشمس من مغربها ونحو هذه الأحاديث مما يطول تعداده.

لا يقال: إن هذه العمومات مخصصة بقوله تعالى: ومن يقتل مؤمنا متعمدا الآية؛ لأنا نقول: الآية أعم من وجه وهو شمولها للتائب وغيره، وأخص من وجه وهو كونها في القاتل، وهذه العمومات أعم من وجه وهو شمولها لمن كان ذنبه القتل ولمن كان ذنبه غير القتل، وأخص من وجه وهو كونها في التائب، وإذا تعارض عمومان لم يبق إلا الرجوع إلى الترجيح، ولا شك أن الأدلة القاضية بقبول التوبة مطلقا أرجح لكثرتها.

وهكذا أيضا يقال: إن الأحاديث بخروج الموحدين من النار وهي متواترة المعنى - كما يعرف ذلك من له إلمام بكتب الحديث - تدل على خروج كل موحد، سواء كان ذنبه القتل أو غيره، والآية القاضية بخروج من قتل نفسا هي أعم من أن يكون القاتل موحدا أو غير موحد، فيتعارض عمومان، وكلاهما ظني الدلالة، ولكن عموم آية القتل قد عورض بما سمعته، بخلاف أحاديث خروج الموحدين، فإنها إنما عورضت بما هو أعم منها مطلقا، كآيات الوعيد للعصاة الدالة على الخلود الشاملة للكافر والمسلم، ولا حكم لهذه المعارضة، أو بما هو أخص منها مطلقا، كالأحاديث القاضية بتخليد بعض أهل المعاصي، نحو: (من قتل نفسه) وهو يبني العام على الخاص، وبما قررناه يلوح لك انتهاض القول بقبول توبة القاتل إذا تاب، [ ص: 1465 ] وعدم خلوده في النار إذا لم يتب ويتبين لك أيضا أنه لا حجة فيما احتج به ابن عباس من أن آية الفرقان مكية منسوخة بقوله تعالى: ومن يقتل مؤمنا متعمدا الآية، كما أخرج ذلك عنه البخاري ومسلم وغيرهما، وكذلك لا حجة له فيما أخرجه النسائي والترمذي عنه: أنه سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: يجيء المقتول متعلقا بالقاتل يوم القيامة ناصيته ورأسه بيده وأوداجه تشخب دما يقول يا رب قتلني هذا حتى يدنيه من العرش وفي رواية للنسائي فيقول: سل هذا فيم قتلني؟ لأن غاية ذلك وقوع المنازعة بين يدي الله عز وجل، وذلك لا يستلزم أخذ التائب بذلك الذنب، ولا تخليده في النار، على فرض عدم التوبة.

والتوبة النافعة ههنا هي الاعتراف بالقتل عند الوارث إن كان له وارث، أو السلطان إن لم يكن له وارث، والندم على ذلك الفعل، والعزم على ترك العود إلى مثله - لا مجرد الندم والعزم بدون اعتراف - وتسليم للنفس أو الدية إن اختارها مستحقها؛ لأن حق الآدمي لا بد فيه من أمر زائد على حقوق الله، وهو تسليمه أو تسليم عوضه بعد الاعتراف به.

فإن قلت: فعلام تحمل حديث أبي هريرة وحديث معاوية المذكورين في أول الباب؟ فإن الأول يقضي بأن القاتل أو المعين على القتل يلقى الله مكتوبا بين عينيه: الإياس من الرحمة، والثاني يقضي بأن ذنب القتل لا يغفره الله؟

قلت هما محمولان على عدم صدور التوبة من القاتل، والدليل على هذا التأويل ما في الباب من الأدلة القاضية بالقبول عموما وخصوصا، ولو لم يكن من ذلك إلا حديث الرجل القاتل للمائة، الذي تنازعت فيه ملائكة الرحمة وملائكة العذاب، وحديث عبادة بن الصامت المذكور قبله، فإنهما يلجئان إلى المصير إلى ذلك التأويل، ولا سيما مع ما قدمنا من تأخر حديث عبادة ، [ ص: 1466 ] ومع كون الحديثين في الصحيحين بخلاف حديث أبي هريرة ومعاوية ، وأيضا في حديث معاوية نفسه ما يرشد إلى هذا التأويل، فإنه جعل الرجل القاتل عمدا مقترنا بالرجل الذي يموت كافرا، ولا شك أن الذي يموت كافرا مصرا على ذنبه غير تائب منه من المخلدين في النار، فيستفاد من هذا التقييد أن التوبة تمحو ذنب الكفر ، فيكون ذلك القرين الذي هو القتل أولى بقبولها.

وقد قال العلامة الزمخشري في "الكشاف": إن هذه الآية فيها من التهديد والإبعاد والإبراق والإرعاد أمر عظيم وخطب غليظ، قال: ومن ثم روي عن ابن عباس ما روي، من أن توبة قاتل المؤمن عمدا غير مقبولة، وعن سفيان : كان أهل العلم إذا سئلوا قالوا: لا توبة له، وذلك محمول منهم على الاقتداء بسنة الله في التغليظ والتشديد، وإلا فكل ذنب ممحو بالتوبة، وناهيك بمحو الشرك دليلا.

ثم ذكر حديث: لزوال الدنيا أهون على الله من قتل رجل مسلم وهو عند النسائي من حديث ابن عمرو ، أخرجه أيضا الترمذي ، انتهى كلام الشوكاني .

وقال الإمام ابن القيم في "الجواب الكافي": لما كان الظلم والعدوان منافيين للعدل الذي قامت به السماوات والأرض، وأرسل الله سبحانه رسله - عليهم الصلاة والسلام - وأنزل كتبه ليقوم الناس بالقسط - كان (أي: الظلم) من أكبر الكبائر عند الله، وكانت درجته في العظمة بحسب مفسدته في نفسه، وكان قتل الإنسان المؤمن من أقبح الظلم وأشده، ثم قال: ولما [ ص: 1467 ] كانت مفسدة القتل هذه المفسدة قال الله تعالى: من أجل ذلك كتبنا على بني إسرائيل أنه من قتل نفسا بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعا [المائدة: من الآية 32].

ثم قال: وفي صحيح البخاري عن سمرة بن جندب قال: أول ما ينتن من الإنسان بطنه، فمن استطاع منكم أن لا يأكل إلا طيبا فليفعل، ومن استطاع أن لا يحول بينه وبين الجنة ملء كف من دم أهرقه فليفعل.

وفي جامع الترمذي عن نافع ، قال: نظر عبد الله [ ص: 1468 ] بن عمر يوما إلى الكعبة فقال: ما أعظمك وأعظم حرمتك والمؤمن أعظم حرمة منك ، قال الترمذي : هذا حديث حسن.

وفي صحيح البخاري أيضا عن ابن عمر قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: لا يزال المؤمن في فسحة من دينه ما لم يصب دما حراما وذكر البخاري أيضا عن ابن عمر قال: من ورطات الأمور التي لا مخرج لمن أوقع نفسه فيها سفك الدم الحرام بغير حله.

وفي الصحيحين عن أبي هريرة يرفعه: سباب المؤمن فسوق وقتاله كفر .

وفيهما أيضا عنه - صلى الله عليه وسلم -: لا ترجعوا بعدي كفارا يضرب بعضكم رقاب بعض .

وفي صحيح البخاري عنه - صلى الله عليه وسلم -: من قتل معاهدا لم يرح رائحة الجنة، وإن ريحها توجد من مسيرة أربعين عاما .

هذه عقوبة قاتل عدو الله، إذا كان معاهدا في عهده وأمانه، فكيف بعقوبة قاتل عبده المؤمن؟!

[ ص: 1469 ] وإذا كانت امرأة قد دخلت النار في هرة حبستها حتى ماتت جوعا وعشطا، فرآها النبي - صلى الله عليه وسلم - في النار والهرة تخدشها في وجهها وصدرها، فكيف عقوبة من حبس مؤمنا حتى مات بغير جرم؟!

وفي بعض السنن عنه - صلى الله عليه وسلم -: لزوال الدنيا أهون على الله من قتل مؤمن بغير حق .

وقال ابن القيم أيضا قبل ذلك: وقد جعل الله سبحانه وتعالى جزاء قتل النفس المؤمنة عمدا الخلود في النار، وغضب الجبار ولعنته، وإعداد العذاب العظيم له، هذا موجب قتل المؤمن عمدا ما لم يمنع منه مانع.

ولا خلاف أن الإسلام الواقع بعد القتل - طوعا واختيارا - مانع من نفوذ ذلك الجزاء، وهل تمنع توبة المسلم منه بعد وقوعه؟ فيه قولان للسلف والخلف، وهما روايتان عن أحمد .

والذين قالوا: لا تمنع التوبة من نفوذه رأوا أنه حق لآدمي لم يستوفه في دار الدنيا وخرج منه بظلامته فلا بد أن يستوفى له في دار العدل، قالوا: فما استوفاه الوارث فإنما استوفى محض حقه الذي خيره الله، من استيفائه والعفو عنه، وما ينفع المقتول من استيفاء وارثه؟! وأي استدراك لظلامته حصل له باستيفاء وارثه؟ وهذا أصح القولين في المسألة أن حق المقتول لا يسقط باستيفاء الوارث، وهي وجهان لأصحاب الشافعي وأحمد وغيرهما، ورأت طائفة أنه يسقط بالتوبة واستيفاء الوارث، فإن التوبة تهدم ما قبلها ، والذنب الذي قد جناه قد أقيم عليه حده.

قالوا: وإذا كانت التوبة تمحو أثر الكفر والسحر - وهما أعظم إثما من القتل - فكيف تقصر عن محو أثر القتل؟ وقد قبل الله توبة الكفار الذين قتلوا أولياءهم، وجعلهم من خيار عباده، ودعا الذين أحرقوا أولياءه وفتنوهم عن دينهم ودعاهم إلى التوبة.

[ ص: 1470 ] وقال تعالى: يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعا وهذا في حق القاتل، وهي تتناول الكفر فما دونه، قالوا: وكيف يتوب العبد من الذنب ويعاقب عليه بعد التوبة؟ هذا معلوم انتفاؤه في شرع الله وجزائه، قالوا: وتوبة هذا المذنب تسليم نفسه، ولا يمكن تسليمها إلى المقتول، فأقام الشارع وليه مقامه، وجعل تسليم النفس إليه كتسليمها إلى المقتول، بمنزلة تسليم المال الذي عليه لوارثه، فإنه يقوم مقام تسليمه للموروث.

والتحقيق في المسألة أن القتل يتعلق به ثلاثة حقوق:

حق لله، وحق للمظلوم المقتول، وحق للولي، فإذا سلم القاتل نفسه طوعا واختيارا إلى الولي؛ ندما على ما فعل، وخوفا من الله، وتوبة نصوحا - فقطع حق الله بالتوبة، وحق الولي بالاستيفاء أو الصلح أو العفو، وبقي حق المقتول يعوضه الله عنه يوم القيامة عن عبده التائب المحسن، ويصلح بينه وبينه، فلا يبطل حق هذا ولا تبطل توبة هذا.

التالي السابق


الخدمات العلمية