صفحة جزء
والعبد إذا اعترف وأقر بأن الله خالق أفعاله كلها فهو على وجهين . إن اعترف به إقرارا بخلق الله كل شيء بقدرته ونفوذ مشيئته وإقرارا بكلماته التامات التي لا يجاوزهن بر ولا فاجر واعترافا بفقره وحاجته إلى الله وأنه إن لم يهده فهو ضال . وإن لم يتب عليه فهو مصر . وإن لم يغفر له فهو هالك : خضع لعزته وحكمته .

فهذا حال [ ص: 317 ] المؤمنين الذين يرحمهم الله ويهديهم ويوفقهم لطاعته . وإن قال ذلك احتجاجا على الرب ودفعا للأمر والنهي عنه وإقامة لعذر نفسه فهذا ذنب أعظم من الأول . وهذا من أتباع الشيطان . ولا يزيده ذلك إلا شرا . وقد ذكرنا أن الرب سبحانه محمود لنفسه ولإحسانه إلى خلقه . ولذلك هو يستحق المحبة لنفسه ولإحسانه إلى عباده . ويستحق أن يرضى العبد بقضائه . لأن حكمه عدل لا يفعل إلا خيرا وعدلا . ولأنه لا يقضي للمؤمن قضاء إلا كان خيرا له { إن أصابته سراء شكر . فكان خيرا له . وإن أصابته ضراء صبر .

فكان خيرا له
} . فالمؤمن يرضى بقضائه لما يستحقه الرب لنفسه - من الحمد والثناء - ولأنه محسن إلى المؤمن . وما تسأله طائفة من الناس وهو أنه صلى الله عليه وسلم قال { لا يقضي الله للمؤمن قضاء إلا كان خيرا له } وقد قضى عليه بالسيئات الموجبة للعقاب . فكيف يكون ذلك خيرا ؟ . وعنه جوابان : أحدهما : أن أعمال العباد لم تدخل في الحديث .

إنما دخل فيه [ ص: 318 ] ما يصيب الإنسان من النعم والمصائب كما في قوله { ما أصابك من حسنة فمن الله وما أصابك من سيئة فمن نفسك } ولهذا قال { إن أصابته سراء شكر . فكان خيرا له . وإن أصابته ضراء صبر . فكان خيرا له } فجعل القضاء : ما يصيبه من سراء وضراء . هذا ظاهر لفظ الحديث . فلا إشكال عليه .

الوجه الثاني : أنه إذا قدر أن الأعمال دخلت في هذا . فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم { من سرته حسنته وساءته سيئته فهو مؤمن } . فإذا قضى له بأن يحسن فهذا مما يسره . فيشكر الله عليه . وإذا قضى عليه بسيئة : فهي إنما تكون سيئة يستحق العقوبة عليها إذا لم يتب منها . فإن تاب أبدلت بحسنة . فيشكر الله عليها . وإن لم يتب ابتلي بمصائب تكفرها فصبر عليها . فيكون ذلك خيرا له .

والرسول صلى الله عليه وسلم قال { لا يقضي الله للمؤمن } والمؤمن هو الذي لا يصر على ذنب بل يتوب منه . فيكون حسنة كما قد جاء في عدة آيات . إن العبد ليعمل الذنب فيدخل به الجنة بعمله . لا يزال يتوب منه حتى يدخل بتوبته منه الجنة . والذنب يوجب ذل العبد وخضوعه ودعاء الله واستغفاره إياه وشهوده بفقره وحاجته إليه وأنه لا يغفر الذنوب إلا هو . [ ص: 319 ] فيحصل للمؤمن - بسبب الذنب - من الحسنات ما لم يكن يحصل بدون ذلك . فيكون هذا القضاء خيرا له . فهو في ذنوبه بين أمرين : إما أن يتوب فيتوب الله عليه فيكون من التوابين الذين يحبهم الله .

وإما أن يكفر عنه بمصائب ; تصيبه ضراء فيصبر عليها . فيكفر عنه السيئات بتلك المصائب وبالصبر عليها ترتفع درجاته . وقد جاء في بعض الأحاديث { يقول الله تعالى أهل ذكري أهل مجالستي . وأهل شكري أهل زيادتي . وأهل طاعتي أهل كرامتي . وأهل معصيتي لا أؤيسهم من رحمتي . إن تابوا فأنا حبيبهم } أي محبهم فإن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين { وإن لم يتوبوا فأنا طبيبهم .

أبتليهم بالمصائب لأكفر عنهم المعائب
} . وفي قوله تعالى { فمن نفسك } من الفوائد : أن العبد لا يركن إلى نفسه ولا يسكن إليها . فإن الشر لا يجيء إلا منها . ولا يشتغل بملام الناس ولا ذمهم إذا أساءوا إليه . فإن ذلك من السيئات التي أصابته . وهي إنما أصابته بذنوبه . فيرجع إلى الذنوب فيستغفر منها . ويستعيذ [ ص: 320 ] بالله من شر نفسه وسيئات عمله . ويسأل الله أن يعينه على طاعته . فبذلك يحصل له كل خير ويندفع عنه كل شر .

ولهذا كان أنفع الدعاء وأعظمه وأحكمه : دعاء الفاتحة { اهدنا الصراط المستقيم } { صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين } فإنه إذا هداه هذا الصراط : أعانه على طاعته وترك معصيته . فلم يصبه شر لا في الدنيا ولا في الآخرة . لكن الذنوب هي من لوازم نفس الإنسان . وهو محتاج إلى الهدى في كل لحظة : وهو إلى الهدى أحوج منه إلى الأكل والشرب . ليس كما يقوله طائفة من المفسرين : إنه قد هداه . فلماذا يسأل الهدى ؟ . وأن المراد بسؤال الهدى : الثبات أو مزيد الهداية .

بل العبد محتاج إلى أن يعلمه ربه ما يفعله من تفاصيل أحواله . وإلى ما يتولد من تفاصيل الأمور في كل يوم . وإلى أن يلهم أن يعمل ذلك . فإنه لا يكفي مجرد علمه إن لم يجعله الله مريدا للعمل بعلمه وإلا [ ص: 321 ] كان العلم حجة عليه . ولم يكن مهتديا .

والعبد محتاج إلى أن يجعله الله قادرا على العمل بتلك الإرادة الصالحة . فإنه لا يكون مهتديا إلى الصراط المستقيم - صراط الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين - إلا بهذه العلوم والإرادات والقدرة على ذلك . ويدخل في ذلك من أنواع الحاجات ما لا يمكن إحصاؤه . ولهذا كان الناس مأمورين بهذا الدعاء في كل صلاة لفرط حاجتهم إليه . فليسوا إلى شيء أحوج منهم إلى هذا الدعاء . وإنما يعرف بعض قدر هذا الدعاء من اعتبر أحوال نفسه ونفوس الإنس والجن والمأمورين بهذا الدعاء . ورأى ما في النفوس من الجهل والظلم الذي يقتضي شقاءها في الدنيا والآخرة . فيعلم أن الله - بفضله ورحمته - جعل هذا الدعاء من أعظم الأسباب المقتضية للخير المانعة من الشر . ومما يبين ذلك : أن الله تعالى لم يقص علينا في القرآن قصة أحد [ ص: 322 ] إلا لنعتبر بها لما في الاعتبار بها من حاجتنا إليه ومصلحتنا . وإنما يكون الاعتبار إذا قسنا الثاني بالأول وكانا مشتركين في المقتضي للحكم . فلولا أن في نفوس الناس من جنس ما كان في نفوس المكذبين للرسل - فرعون ومن قبله - لم يكن بنا حاجة إلى الاعتبار بمن لا نشبهه قط .

ولكن الأمر كما قال تعالى { ما يقال لك إلا ما قد قيل للرسل من قبلك } وكما قال تعالى { كذلك ما أتى الذين من قبلهم من رسول إلا قالوا ساحر أو مجنون } وقال تعالى { كذلك قال الذين من قبلهم مثل قولهم تشابهت قلوبهم } وقال تعالى { يضاهئون قول الذين كفروا من قبل } . ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم { لتسلكن سنن من كان قبلكم حذو القذة بالقذة حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه . قالوا : اليهود والنصارى ؟ قال : فمن ؟ } . وقال { لتأخذن أمتي مأخذ الأمم قبلها : شبرا بشبر وذراعا بذراع . قيل : يا رسول الله فارس والروم ؟ قال : فمن ؟ } وكلا الحديثين في الصحيحين . [ ص: 323 ] { ولما كان في غزوة حنين كان للمشركين شجرة - يقال لها : ذات أنواط يعلقون عليها أسلحتهم وينوطونها بها ويستظلون بها متبركين فقال بعض الناس يا رسول الله اجعل لنا ذات أنواط كما لهم ذات أنواط .

فقال : الله أكبر . قلتم كما قال قوم موسى لموسى : اجعل لنا إلها كما لهم آلهة . إنها السنن . لتركبن سنن من كان قبلكم
}

. وقد بين القرآن : أن السيئات من النفس وإن كانت بقدر الله . فأعظم السيئات : جحود الخالق . والشرك به وطلب النفس أن تكون شريكة وندا له أو أن تكون إلها من دونه . وكلا هذين وقع فإن فرعون طلب أن يكون إلها معبودا دون الله تعالى . وقال { ما علمت لكم من إله غيري } وقال { أنا ربكم الأعلى } وقال لموسى { لئن اتخذت إلها غيري لأجعلنك من المسجونين } و { فاستخف قومه فأطاعوه }

. وإبليس يطلب : أن يعبد ويطاع من دون الله . فيريد : أن يعبد ويطاع هو ولا يعبد الله ولا يطاع . وهذا الذي في فرعون وإبليس هو غاية الظلم والجهل . وفي نفوس سائر الإنس والجن : شعبة من هذا وهذا . إن لم يعن [ ص: 324 ] الله العبد ويهديه وإلا وقع في بعض ما وقع فيه إبليس وفرعون بحسب الإمكان .

قال بعض العارفين : ما من نفس إلا وفيها ما في نفس فرعون غير أن فرعون قدر فأظهر . وغيره عجز فأضمر . وذلك : أن الإنسان إذا اعتبر وتعرف نفسه والناس وسمع أخبارهم : رأى الواحد منهم يريد لنفسه أن تطاع وتعلو بحسب قدرته . فالنفس مشحونة بحب العلو والرياسة بحسب إمكانها فتجد أحدهم يوالي من يوافقه على هواه ويعادي من يخالفه في هواه . وإنما معبوده : ما يهواه ويريده . قال تعالى { أرأيت من اتخذ إلهه هواه أفأنت تكون عليه وكيلا } والناس عنده في هذا الباب : كما هم عند ملوك الكفار من المشركين من الترك وغيرهم . يقولون " يا رباعي " أي صديق وعدو . فمن وافق هواهم : كان وليا وإن كان كافرا مشركا . ومن لم يوافق هواهم : كان عدوا وإن كان من أولياء الله المتقين .

وهذه هي حال فرعون . والواحد من هؤلاء : يريد أن يطاع أمره بحسب إمكانه لكنه [ ص: 325 ] لا يتمكن مما تمكن منه فرعون : من دعوى الإلهية وجحود الصانع . وهؤلاء - وإن كانوا يقرون بالصانع - لكنهم إذا جاءهم من يدعوهم إلى عبادته وطاعته المتضمنة ترك طاعتهم : فقد يعادونه كما عادى فرعون موسى . وكثير من الناس ممن عنده بعض عقل وإيمان لا يطلب هذا الحد بل يطلب لنفسه ما هو عنده . فإن كان مطاعا مسلما : طلب أن يطاع في أغراضه وإن كان فيها ما هو ذنب ومعصية لله .

ويكون من أطاعه في هواه : أحب إليه وأعز عنده ممن أطاع الله وخالف هواه . وهذه شعبة من حال فرعون . وسائر المكذبين للرسل . وإن كان عالما - أو شيخا - أحب من يعظمه دون من يعظم نظيره حتى لو كانا يقرآن كتابا واحدا كالقرآن أو يعبدان عبادة واحدة متماثلان فيها كالصلوات الخمس . فإنه يحب من يعظمه بقبول قوله والاقتداء به : أكثر من غيره .

وربما أبغض نظيره وأتباعه حسدا وبغيا كما فعلت اليهود لما بعث الله محمدا صلى الله عليه وسلم يدعو إلى مثل ما دعا إليه موسى . قال تعالى { وإذا قيل لهم آمنوا بما أنزل الله قالوا نؤمن بما أنزل علينا ويكفرون بما وراءه وهو الحق مصدقا لما معهم } وقال تعالى { وما تفرق الذين أوتوا الكتاب إلا من بعد ما جاءتهم البينة } وقال تعالى { وما تفرقوا إلا من بعد ما جاءهم العلم بغيا بينهم } . ولهذا أخبر الله تعالى عنهم بنظير ما أخبر به عن فرعون . وسلط عليهم من انتقم به منهم .

فقال تعالى عن فرعون { إن فرعون علا في الأرض وجعل أهلها شيعا يستضعف طائفة منهم يذبح أبناءهم ويستحيي نساءهم إنه كان من المفسدين } وقال تعالى عنهم { وقضينا إلى بني إسرائيل في الكتاب لتفسدن في الأرض مرتين ولتعلن علوا كبيرا } ولهذا قال تعالى { تلك الدار الآخرة نجعلها للذين لا يريدون علوا في الأرض ولا فسادا }

التالي السابق


الخدمات العلمية