صفحة جزء
[ ص: 251 ] سورة الجاثية

قوله تعالى: أفرأيت من اتخذ إلهه هواه

وجاء من مراسيل الحسن عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: "من قال: لا إله إلا الله مخلصا دخل الجنة" قيل: وما إخلاصها؟ قال: "أن تحجزك عما حرم الله " وروي ذلك مسندا من وجوه أخر ضعيفة .

ولعل الحسن أشار بكلامه الذي حكيناه عنه من قبل إلى هذا، فإن تحقيق القلب بمعنى: "لا إله إلا الله " وصدقه فيها وإخلاصه بها يقتضي أن يرسخ فيه تأله الله وحده، إجلالا، وهيبة، ومخافة، ومحبة، ورجاء، وتعظيما . وتوكلا، ويمتلئ بذلك، وينتفي عنه تأله ما سواه من المخلوقين، ومتى كان كذلك لم يبق فيه محبة ولا إرادة، ولا طلب لغير ما يريده الله ويحبه ويطلبه، وينتفي بذلك من القلب جميع أهواء النفوس وإرادتها ووساوس الشيطان، فمن أحب شيئا وأطاعه، وأحب عليه وأبغض عليه، فهو إلهه . فمن كان لا يحب ولا يبغض إلا لله، ولا يوالي ولا يعادي إلا له، فالله إلهه حقا، ومن أحب لهواه، وأبغض له ووالى عليه، وعادى عليه، فإلهه هواه، كما قال تعالى: أفرأيت من اتخذ إلهه هواه وقال الحسن: هو الذي لا يهوى شيئا إلا ركبه . وقال قتادة : هو الذي كلما هوى شيئا ركبه، وكلما اشتهى شيئا أتاه . لا يحجزه عن ذلك ورع ولا تقوى . ويروى من حديث أبي أمامة مرفوعا: "ما تحت ظل السماء إله يعبد أعظم عند الله من هوى متبع " . [ ص: 252 ]

وكذلك من أطاع الشيطان في معصية الله، فقد عبده كما قال عز وجل: ألم أعهد إليكم يا بني آدم أن لا تعبدوا الشيطان إنه لكم عدو مبين فتبين بهذا أنه لا يصح تحقيق معنى قول: لا إله إلا الله، إلا لمن لم يكن في قلبه إصرار على محبة ما يكرهه الله، ولا على إرادة ما لا يريده الله . ومتى كان في القلب شيء من ذلك، كان ذلك نقصا في التوحيد، وهو من نوع الشرك الخفي، ولهذا قال مجاهد في قوله تعالى: (لا تشركوا به شيئا) قال: لا تحبوا غيري .

وفي "صحيح الحاكم " عن عائشة - رضي الله عنها -، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "الشرك أخفى من دبيب الذر على الصفا في الليلة الظلماء، وأدناه أن تحب على شيء من الجور، وتبغض على شيء من العدل، وهل الدين إلا الحب والبغض؟ قال الله عز وجل: قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله " . وهذا نص في أن محبة ما يكرهه الله، وبغض ما يحبه متابعة للهوى . والموالاة على ذلك والمعاداة عليه من الشرك الخفي " .

* * *

وقد ورد إطلاق الإله على الهوى المتبع، قال الله تعالى: أفرأيت من اتخذ إلهه هواه قال الحسن رحمه الله: هو الذي لا يهوى شيئا إلا ركبه . وقال قتادة : هو [ ص: 253 ] الذي كلما هوى شيئا ركبه، وكلما اشتهى شيئا أتاه، لا يحجزه عن ذلك ورع ولا تقوى .

وروي من حديث أبي أمامة بإسناد ضعيف: "ما تحت ظل سماء إله يعبد أعظم عند الله من هوى متبع " .

وفي حديث آخر: "لا تزال لا إله إلا الله تدفع عن أصحابها حتى يؤثروا دنياهم على دينهم، فإذا فعلوا ذلك ردت عليهم، ويقال لهم: كذبتم " .

ويشهد لهذا: الحديث الصحيح عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: "تعس عبد الدينار، تعس عبد الدرهم، تعس عبد القطيفة، تعس عبد الخميصة، تعس وانتكس، وإذا شيك فلا انتقش " . فدل هذا على أن كل من أحب شيئا وأطاعه وكان غاية قصده ومطلوبه، ووالى لأجله، وعادى لأجله، فهو عبده، وكان ذلك الشيء معبوده وإلهه . ويدل عليه أيضا أن الله تعالى سمى طاعة الشيطان في معصيته عبادة للشيطان، كما قال الله تعالى: ألم أعهد إليكم يا بني آدم أن لا تعبدوا الشيطان وقال تعالى حاكيا عن خليله إبراهيم عليه السلام لأبيه: يا أبت لا تعبد الشيطان إن الشيطان كان للرحمن عصيا فمن لم يتحقق بعبودية الرحمن وطاعته فإنه يعبد الشيطان بطاعته له، ولم يخلص من عبادة الشيطان إلا من أخلص عبودية الرحمن، وهم الذين قال فيهم: إن عبادي ليس لك عليهم سلطان فهم الذين حققوا قول: " لا إله إلا الله " . [ ص: 254 ] وأخلصوا في قولها، وصدقوا قولهم بفعلهم، فلم يلتفتوا إلى غير الله محبة ورجاء وخشية وطاعة وتوكلا، وهم الذين صدقوا في قول: "لا إله إلا الله " وهم عباد الله حقا، فأما من قال: "لا إله إلا الله " بلسانه، ثم أطاع الشيطان وهواه في معصية الله ومخالفته فقد كذب فعله قوله، ونقص من كمال توحيده بقدر معصية الله في طاعة الشيطان والهوى ومن أضل ممن اتبع هواه بغير هدى من الله ولا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله فيا هذا كن عبدا لله لا عبدا للهوى، فإن الهوى يهوي بصاحبه في النار: أأرباب متفرقون خير أم الله الواحد القهار

تعس عبد الدرهم! تعس عبد الدينار! والله لا ينجو غدا من عذاب الله إلا من حقق عبودية الله وحده، ولم يلتفت إلى شيء من الأغيار، من علم أن إلهه فرد، فليفرده بالعبودية ولا يشرك بعبادة ربه أحدا " .

كان بعض العارفين يتكلم على أصحابه على رأس جبل، فقال في كلامه: لا ينال أحد مراده حتى ينفرد فردا بفرد، فانزعج واضطرب، حتى رأى أصحابه أن الصخور قد تدكدكت، وبقي على ذلك ساعة، فلما أفاق فكأنه نشر من قبره .

قول: "لا إله إلا الله " تقتضي أن لا يحب سواه، فإن الإله هو الذي يطاع، فلا يعصى محبة وخوفا ورجاء، ومن تمام محبته محبة ما يحبه . وكراهة ما يكرهه، فمن أحب شيئا مما يكرهه الله، أو كره شيئا مما يحبه الله لم يكمل توحيده وصدقه في قول: "لا إله إلا الله "، كان فيه من الشرك الخفي بحسب ما كرهه مما يحبه الله، وما أحبه مما يكرهه الله، [ ص: 255 ] قال الله تعالى: ذلك بأنهم اتبعوا ما أسخط الله وكرهوا رضوانه فأحبط أعمالهم

قال الليث عن مجاهد في قوله: لا يشركون بي شيئا قال: لا يحبون غيري .

وفي "صحيح الحاكم " عن عائشة - رضي الله عنها - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "الشرك في هذه الأمة أخفى من دبيب النمل على الصفا في الليلة الظلماء، وأدناه أن تحب على شيء من الجور، أو تبغض على شيء من العدل، وهل الدين إلا الحب والبغض؟ قال الله عز وجل: قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله " . وهذا نص في أن محبة ما يكرهه الله، وبغض ما يحبه متابعة للهوى . والموالاة على ذلك والمعاداة فيه من الشرك الخفي .

وقال الحسن: اعلم أنك لن تحب الله حتى تحب طاعته .

وسئل ذو النون: متى أحب ربي؟ قال: إذا كان ما يبغضه عندك أمر من الصبر .

وقال بشر بن السري: ليس من أعلام الحب أن تحب ما يبغض حبيبك .

وقال أبو يعقوب النهرجوري: كل من ادعى محبة الله ولم يوافق الله في أمره فدعواه باطلة .

وقال يحيى بن معاذ : ليس بصادق من ادعى محبة الله ولم يحفظ حدوده .

وقال رويم: المحبة: الموافقة في جميع الأحوال، وأنشد: [ ص: 256 ]

ولو قلت لي مت قلت سمعا وطاعة . وقلت لداعي الموت أهلا ومرحبا



ويشهد لهذا المعنى أيضا قوله تعالى: قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله

قال الحسن: قال أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إنا نحب ربنا حبا شديدا، فأحب الله أن يجعل لحبه علما، فأنزل الله تعالى هذه الآية .

ومن هاهنا يعلم أنه لا تتم شهادة أن لا إله إلا الله إلا بشهادة أن محمدا رسول الله، فإنه إذا علم أنه لا تتم محبة الله إلا بمحبة ما يحبه، وكراهة ما يكرهه، فلا طريق إلى معرفة ما يحبه وما يكرهه إلا من جهة محمد المبلغ عن الله ما يحبه وما يكرهه باتباع ما أمر به، واجتناب ما نهى عنه، فصارت محبة الله مستلزمة لمحبة رسوله - صلى الله عليه وسلم - وتصديقه ومتابعته، ولهذا قرن الله بين محبته ومحبة رسوله في قوله تعالى: قل إن كان آباؤكم وأبناؤكم وإخوانكم إلى قوله: أحب إليكم من الله ورسوله كما قرن طاعته وطاعة رسوله - صلى الله عليه وسلم - في مواضع كثيرة . وقال - صلى الله عليه وسلم -: "ثلاث من كن فيه وجد بهن حلاوة الإيمان: أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، وأن يحب الرجل لا يحبه إلا لله، وأن يكره أن يرجع إلى الكفر بعد أن أنقذه الله منه كما يكره أن يلقى في النار" .

هذه حال السحرة لما سكنت المحبة قلوبهم سمحوا ببذل النفوس وقالوا لفرعون: فاقض ما أنت قاض ومتى تمكنت المحبة في القلب لم [ ص: 257 ] تنبعث الجوارح إلا إلى طاعة الرب، وهذا هو معنى الحديث الإلهي الذي خرجه البخاري في "صحيحه " وفيه: "ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها" وقد قيل: إن في بعض الروايات: "فبي يسمع وبي يبصر وبي يبطش وبي يمشي " . والمعنى: أن محبة الله إذا استغرق بها القلب واستولت عليه لم تنبعث الجوارح إلا إلى مراضي الرب، وصارت النفس حينئذ مطمئنة بإرادة مولاها عن مرادها وهواها . يا هذا، اعبد الله لمراده منك لا لمرادك منه، فمن عبده لمراده منه فهو ممن يعبد الله على حرف، إن أصابه خير اطمأن به، وإن أصابته فتنة انقلب على وجهه خسر الدنيا والآخرة، ومتى قويت المعرفة والمحبة لم يرد صاحبها إلا ما يريد مولاه . وفي بعض الكتب السالفة: من أحب الله لم يكن شيء عنده آثر من رضاه، ومن أحب الدنيا لم يكن شيء عنده آثر من هوى نفسه .

وروى ابن أبي الدنيا بإسناده عن الحسن قال: ما نظرت ببصري ولا نطقت بلساني، ولا بطشت بيدي، ولا نهضت على قدمي، حتى أنظر على طاعة الله أو على معصيته، فإن كانت طاعة تقدمت، وإن كانت معصية تأخرت .

هذا حال خواص المحبين الصادقين، فافهموا رحمكم الله هذا، فإنه من دقائق أسرار التوحيد الغامضة . [ ص: 258 ] وإلى هذا المقام أشار النبي - صلى الله عليه وسلم - في خطبته لما قدم المدينة حيث قال: "أحبوا الله من كل قلوبكم " .

وقد ذكرها ابن إسحاق وغيره، فإن من امتلأ قلبه من محبة الله، لم يكن فيه فراغ لشيء من إرادات النفس والهوى، وإلى ذلك أشار القائل، بقوله:

أروح وقد ختمت على فؤادي .     بحبك أن يحل به سواكا
فلو أني استطعت غضضت طرفي .     فلم أنظر به حتى أراكا
أحبك لا ببعضي بل بكلي .     وإن لم يبق حبك لي حراكا
وفي الأحباب مخصوص بوجد .     وآخر يدعي معه اشتراكا
إذا اشتبكت دموع في خدود .     تبين من بكى ممن تباكى
فأما من بكى فيذوب وجدا .     وينطق بالهوى من قد تشاكا



متى بقي للمحب حظ من نفسه فما بيده من المحبة إلا الدعوى، إنما المحب من يفنى عن هوى نفسه كله، ويبقى بحبيبه، فبي يسمع وبي يبصر .

وفي الإسرائيليات يقول الله: "ما وسعني سمائي ولا أرضي، ووسعني قلب عبدي المؤمن " فمتى كان القلب فيه غير الله فالله أغنى الأغنياء عن الشرك، وهو لا يرضى بمزاحمة أصنام الهوى . . الحق غيور يغار على عبده المؤمن أن يسكن في قلبه سواه، أو يكن فيه شيئا ما يرضاه .

أردناكم صرفا فلما مزجتم .     بعدتم بمقدار التفاتكم عنا
وقلنا لكم لا تسكنوا القلب غيرنا .     فأسكنتم الأغيار ما أنتم منا



لا ينجو غدا إلا من لقي الله بقلب سليم ليس فيه سواه، قال الله تعالى: يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم [ ص: 259 ] القلب السليم: هو الطاهر من أدناس المخالفات، فأما المتلطخ بشيء من المكروهات فلا يصلح لمجاورة حضرة القدوس إلا بعد أن يطهر في كير العذاب، فإذا زال عنه الخبث صلح حينئذ للمجاورة .

"إن الله طيب لا يقبل إلا طيبا" . فأما القلوب الطيبة فتصلح للمجاورة من أول الأمر: سلام عليكم بما صبرتم فنعم عقبى الدار سلام عليكم طبتم فادخلوها خالدين الذين تتوفاهم الملائكة طيبين يقولون سلام عليكم ادخلوا الجنة من لم يحرق اليوم قلبه بنار الأسف على ما سلف أو بنار الشوق إلى لقاء الحبيب فنار جهنم له أشد حرا .

التالي السابق


الخدمات العلمية