صفحة جزء
فاتقوا الله وأطيعون ولا تطيعوا أمر المسرفين الذين يفسدون في الأرض ولا يصلحون ؛ الفاء هنا للإفصاح؛ أي: إذا كنتم على هذه الحال من النعم التي أحاطت بكم؛ فاتقوا الله؛ أي: فاملؤوا أنفسكم بتقوى الله ومهابته شكرا للنعمة؛ وتوقعا [ ص: 5392 ] للحساب الذي لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها؛ وأطيعوني فيما أنقل إليكم من شرائع ربكم التي فيها استقامة أموركم؛ وصلاح أحوالكم.

وإن الناس هم الذين يفسدون الناس؛ ويخلقون في الأرض أجواء فاسدة؛ وأولئك هم المسرفون؛ ولذا قال - بعد هذا -: ولا تطيعوا أمر المسرفين ؛ و " المسرفون " ؛ هم الذين يخرجون بطبيعتهم البشرية عن حد الاعتدال؛ إلى حد الإسراف؛ فيسرفون في شهواتهم حتى يصيروا عبيدا للشهوات؛ ويسرفون في أوهامهم؛ فيحسبون ما تدفع إليه الأوهام حقيقة؛ وليست إلا وهما باطلا؛ ويسرفون في طلب السلطان فلا يحسبون أنه لإقامة العدل والقسطاس المستقيم؛ ويسرفون في القوة؛ فلا يحسبونها لحماية الضعفاء؛ بل يظنونها للاستعلاء والاستكبار عليهم؛ وليجعلوهم عبيدا أذلاء.

وهكذا كان المسرفون مفسدين لنفوسهم ولمجتمعهم; ولذا قال (تعالى) - في وضعهم العام -: الذين يفسدون في الأرض ولا يصلحون ؛ وصف الله (تعالى) المسرفين في ذات أنفسهم أنهم يفسدون في الأرض ولا يصلحون؛ ذلك بأنهم بإسرافهم على أنفسهم في شهواتهم؛ وقواتهم؛ وغرائزهم يميلون إلى الأثرة؛ فيجعلون كل ما وهبهم الله لأنفسهم؛ وليس لغيرهم حق من الحقوق؛ فيكون الاعتداء الظالم؛ ويكون التغالب لسيطرة الباطل؛ وهضم الحقوق؛ وأي فساد للناس أكثر من أن يكون قانون الغابة هو الحكم بين الناس؟! ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض ولكن الله ذو فضل على العالمين

فالمسرفون يفسدون دائما ولا يصلحون؛ قرر الله لهم وصفين؛ إيجابيا؛ وهو الفساد المترتب على إسرافهم؛ والوصف الثاني سلبي؛ فقال: ولا يصلحون ؛ أي: لا يمكن أن يكون منهم إصلاح كالذي يدعيه الطغاة من الحكام؛ والأقوياء من الأمراء؛ من أنهم يصلحون بين الناس؛ وأن الوجود في حاجة إليهم؛ ولا نشعر؛ فهذا النص السامي يرد كلامهم في أعناقهم؛ إلا أن يخرجوا عن إسرافهم في نفوسهم؛ وعلى مجتمعهم. [ ص: 5393 ] وقوله: الذين يفسدون ؛ بدل من " المسرفين " ؛ أو عطف.

ونلاحظ ملاحظة بيانية؛ وهي أنه (تعالى) عبر عن الإسراف بالوصف؛ للإشارة إلى أن الإسراف إذا استمكن في النفس ترتب عليه ذلك الفساد وعدم الإصلاح.

التالي السابق


الخدمات العلمية