أسرار التكرار في القرآن

الكرماني - محمود بن حمزة الكرماني

صفحة جزء
سورة آل عمران

51 - قوله تعالى : إنك جامع الناس ليوم لا ريب فيه إن الله لا يخلف الميعاد أول السورة ، وفي آخرها : إنك لا تخلف الميعاد ، فعدل من الخطاب إلى لفظ الغيبة في أول السورة ، واستمر على الخطاب في آخرها ؛ لأن ما في أول السورة لا يتصل بالكلام الأول كاتصال ما في آخرها ، فإن اتصال قوله تعالى : إن الله لا يخلف الميعاد بقوله : إنك جامع الناس ليوم لا ريب فيه معنوي ، واتصال قوله : إنك لا تخلف الميعاد بقوله : ربنا وآتنا ما وعدتنا لفظي ومعنوي جميعا لتقدم لفظ الوعد ، ( ولا يجوز أن يكون الأول استئنافا ) ، والآخر من تمام الكلام .

52 - قوله : كدأب آل فرعون والذين من قبلهم كذبوا بآياتنا فأخذهم الله ، كان القياس : فأخذناهم ، ولكن لما عدل في الآية الأولى إلى قوله : إن الله لا يخلف الميعاد عدل في هذه الآية أيضا ؛ لتكون الآيات على منهج واحد .

53 - قوله : شهد الله أنه لا إله إلا هو ، ثم كرر في هذه الآية فقال : لا إله إلا هو ؛ لأن الأول جرى مجرى الشهادة ، وأعاده ليجري الثاني مجرى الحكم بصحة ما شهد به الشهود .

[ ص: 89 ] 54 - قوله : ويحذركم الله نفسه ، كرره مرتين لأنه وعيد عطف عليه وعيد آخر في الآية الأولى ، فإن قوله : وإلى الله المصير معناه : مصيركم إلى الله ، والعذاب معد لديه فاستدركه في الآية الثانية بوعد ، وهو قوله تعالى : والله رءوف بالعباد ، والرأفة أشد من الرحمة . وقيل : من رأفته تحذيره .

55 - قوله : قال رب أنى يكون لي غلام وقد بلغني الكبر وامرأتي عاقر . قدم في هذه السورة ذكر الكبر ، وأخر ذكر المرأة . وقال في سورة مريم : وكانت امرأتي عاقرا وقد بلغت من الكبر عتيا فقدم ذكر المرأة ؛ لأن في مريم قد تقدم ذكر الكبر في قوله : وهن العظم مني ، وتأخر ذكر المرأة في قوله : وإني خفت الموالي من ورائي وكانت امرأتي عاقرا ، ثم أعاد ذكرها فأخر ذكر الكبر ليوافق عتيا ما بعده من الآيات وهي : سويا ، وعشيا ، و صبيا .

56 - قوله : قالت رب أنى يكون لي ولد . وفي مريم : قالت أنى يكون لي غلام ، لأن في هذه السورة تقدم ذكر المسيح ، وهو ولدها ، وفي مريم تقدم ذكر الغلام ، حيث قال : لأهب لك غلاما زكيا .

57 - قوله : فأنفخ فيه . وفي المائدة : فتنفخ فيها . قيل : الضمير في هذه السورة يعود إلى الطير . وقيل : [ ص: 90 ] إلى الطين . وقيل : إلى المهيإ . وقيل : إلى الكاف فإنه في معنى مثل ، وفي المائدة يعود إلى الهيئة . وهذا جواب التذكير والتأنيث ، لا جواب التخصيص ، وإنما الكلام وقع في التخصيص ، وهل يجوز أن يكون كل واحد منهما مكان الآخر أم لا ؟ فالجواب أن يقال : في هذه السورة إخبار قبل الفعل فوحده ، وفي المائدة خطاب من الله له يوم القيامة وقد تقدم من عيسى - عليه السلام - الفعل مرات ، والطير صالح للواحد وصالح للجميع .

58 - قوله : بإذن الله . ذكر في هذه الآية مرتين . وقال في المائدة : بإذني أربع مرات ؛ لأن ما في هذه السورة كلام عيسى ، فما يتصور أن يكون من فعل البشر أضافه إلى نفسه ، وهو : الخلق الذي معناه التقدير ، والنفخ الذي هو : إخراج الريح من الفم . وما يتصور إضافته إلى الله تعالى ( أضافه إليه ) وهو قوله : فيكون طيرا بإذن الله وأبرئ الأكمه والأبرص بما يكون في طوق البشر ، فإن الأكمه عند بعض المفسرين : الأعمش ، وعند بعضهم : الأعشى ، وعند بعضهم : الذي يولد أعمى . وإحياء الموتى من فعل الله فأضافه إليه .

وما في المائدة من كلام الله - سبحانه وتعالى - فأضاف جميع ذلك إلى صنعه إظهارا لعجز البشر ، ولأن فعل العبد مخلوق لله تعالى .

وقيل : بإذن الله يعود إلى الأفعال الثلاثة ، وكذلك [ ص: 91 ] الثاني يعود إلى الثلاثة الأخرى .

59 - قوله : إن الله ربي وربكم ، وكذلك في مريم : ربي وربكم . وفي الزخرف في هذه القصة : إن الله هو ربي وربكم بزيادة " هو " .

قال الشيخ : إذا قلت : زيد هو قائم ، فيحتمل أن يكون تقديره : وعمر قائم . فإذا قلت : زيد هو القائم ، خصصت القيام به ، فهو كذلك في الآية ، وهذا مثاله ، لأن ( هو ) يذكر في مثل هذه المواضع إعلاما أن المبتدأ مقصور على هذا الخبر ، وهذا الخبر مقصور عليه دون غيره .

والذي في آل عمران وقع بعد عشر آيات من قصتها ، وليس كذلك ما في الزخرف ، فإنه ابتداء كلام منه ، فحسن التأكيد بقوله : " هو " ؛ ليصير المبتدأ مقصورا على الخبر المذكور في الآية ، وهو إثبات الربوبية ، ونفي الأبوة ، تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا .

60 - قوله : بأنا مسلمون في هذه السورة ، وفي المائدة : بأننا ؛ لأن ما في المائدة أول كلام الحواريين ، فجاء على الأصل ، وما في هذه السورة تكرار لكلامهم ، فجاز فيه التخفيف ؛ لأن التخفيف فرع ، والتكرار فرع ، والفرع بالفرع أولى .

61 - قوله : الحق من ربك فلا تكن في هذه السورة ، وفي البقرة : فلا تكونن ؛ لأن ما في هذه السورة جاء على الأصل ولم يكن فيها ما أوجب إدخال نون التوكيد في الكلمة ، بخلاف سورة البقرة ، فإن في أول القصة : فلنولينك قبلة ترضاها بنون التوكيد ، فأوجب الازدواج إدخال النون في الكلمة ، فيصير [ ص: 92 ] التقدير : فلنولينك قبلة ترضاها ، فلا تكونن من الممترين . والخطاب في الآيتين للنبي - صلى الله عليه وسلم - ، والمراد به غيره .

62 - قوله : قل إن الهدى هدى الله في هذه السورة ، وفي البقرة : قل إن هدى الله هو الهدى ؛ لأن الهدى في هذه السورة هو الدين ، وقد تقدم في قوله : لمن تبع دينكم ، وهدى الله : الإسلام ، فكأنه قال بعد قولهم : ولا تؤمنوا إلا لمن تبع دينكم . قل : إن الدين عند الله الإسلام كما سبق في أول السورة .

والذي في البقرة معناه : القبلة ؛ لأن الآية نزلت في تحويل القبلة ، وتقديره : قل : إن قبلة الله هي الكعبة .

63 - قوله : من آمن تبغونها عوجا ليس ههنا ( به ) ولا واو العطف ، وفي الأعراف : من آمن به وتبغونها بزيادة ( به ) وواو العطف ؛ لأن القياس : " آمن به " كما في الأعراف ، لكنها حذفت في هذه السورة موافقة لقوله : ومن كفر . فإن القياس أيضا : " كفر به " ، وقوله : تبغونها عوجا ههنا حال ، والواو لا تزداد مع الفعل إذا وقع حالا ، نحو قوله : ولا تمنن تستكثر ، و دابة الأرض تأكل منسأته ، وغير ذلك . وفي الأعراف عطف على الحال ، والحال قوله : توعدون ، و تصدون عطف عليه ، وكذلك تبغونها عوجا .

64 - قوله : وما جعله الله إلا بشرى لكم ولتطمئن قلوبكم به وما النصر إلا من عند الله العزيز الحكيم . ههنا بإثبات " لكم " ، وتأخير " به " ، وحذف " إن الله " . وفي الأنفال " 10 " بحذف " لكم " ، وتقديم " به " ، وإثبات إن الله ؛ لأن البشرى هنا للمخاطبين ، فبين وقال : لكم . وفي الأنفال قد تقدم [ ص: 93 ] لكم في قوله : فاستجاب لكم ، فاكتفى بذلك .

وقدم قلوبكم هنا ، وأخر " به " ازدواجا بين المخاطبين فقال : وما جعله الله إلا بشرى لكم ولتطمئن قلوبكم به .

وقدم " به " في الأنفال ازدواجا بين الغائبين فقال : وما جعله الله إلا بشرى ولتطمئن به قلوبكم .

وحذف " إن الله " ههنا ؛ لأن ما في الأنفال قصة بدر ، وهي سابقة على ما في هذه السورة ، فإنها في قصة أحد ، وأخبر هناك بأن الله عزيز حكيم ، وجعله في هذه السورة صفة ؛ لأن الخبر قد سبق .

65 - قوله : ونعم أجر العاملين ، بزيادة الواو ؛ لأن الاتصال بما قبلها أكثر من غيرها ، وتقديره : ونعم أجر العاملين المغفرة والجنات والخلود .

66 - قوله : رسولا من أنفسهم بزيادة الأنفس ، وفي غيرها : رسولا منكم ؛ لأنه سبحانه من على المؤمنين [ ص: 94 ] به فجعله من أنفسهم ليكون موجب المنة أظهر ، وكذلك قوله : لقد جاءكم رسول من أنفسكم لما وصفه بقوله : عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رءوف رحيم جعله من أنفسهم ليكون موجب الإجابة والإيمان أظهر وأبين .

67 - قوله : جاءوا بالبينات والزبر والكتاب المنير ههنا بباء واحدة ، إلا في قراءة ابن عامر ، وفي فاطر : بالبينات وبالزبر وبالكتاب بثلاث باءات ، لأنه في هذه السورة وقع في كلام مبني على الاختصار ، وهو إقامة لفظ الماضي في الشرط مقام لفظ المستقبل ، ولفظ الماضي أخف ، وبني الفعل للمجهول فلا يحتاج إلى ذكر الفاعل ، وهو قوله : فإن كذبوك فقد كذب رسل من قبلك ، لذلك حذفت الباءات ليوافق الأول في الاختصار ، بخلاف ما في فاطر ، فإن الشرط فيه بلفظ المستقبل ، والفاعل مذكور مع الفعل ، وهو قوله : وإن يكذبوك فقد كذب الذين من قبلهم . ثم ذكر بعدها الباءات ليكون كله على نسق واحد .

68 - قوله : ثم مأواهم جهنم ههنا ، وفي غيرها : " ومأواهم جهنم " " 9 : 73 ، 95 و 66 : 9 " ؛ لأن ما قبلها في هذه السورة : لا يغرنك تقلب الذين كفروا في البلاد متاع قليل أي : ( ذلك ) متاع ( في الدنيا ) قليل ، والقليل يدل على تراخ وإن صغر وقل ، وثم للتراخي فكان طبقا له ، والله تعالى أعلم .

التالي السابق


الخدمات العلمية