صفحة جزء
[ ص: 74 - 76 ] باب تفويض الطلاق فصل في الاختيار ( وإذا قال لامرأته : اختاري ينوي بذلك الطلاق أو قال لها : طلقي نفسك فلها أن تطلق نفسها ما دامت في مجلسها ذلك ، فإن قامت منه أو أخذت في عمل آخر خرج الأمر من يدها ) لأن المخيرة لها المجلس بإجماع الصحابة رضي الله عنهم أجمعين ، [ ص: 77 ] ولأنه تمليك الفعل منها ، والتمليكات تقتضي جوابا في المجلس كما في البيع ، لأن ساعات المجلس اعتبرت ساعة [ ص: 78 ] واحدة ، إلا أن المجلس تارة يتبدل بالذهاب عنه وتارة بالاشتغال بعمل آخر ، إذ مجلس الأكل غير مجلس [ ص: 79 ] المناظرة ومجلس القتال غيرهما .

ويبطل خيارها بمجرد القيام لأنه دليل الإعراض ، بخلاف الصرف والسلم لأن المفسد هناك الافتراق من غير قبض ، ثم لا بد من النية في قوله : اختاري لأنه يحتمل تخييرها في نفسها ويحتمل تخييرها في تصرف آخر غيره ( فإن اختارت نفسها في قوله اختاري كانت واحدة بائنة ) .

والقياس أن لا يقع بهذا شيء ، وإن نوى الزوج الطلاق لأنه لا يملك الإيقاع بهذا اللفظ فلا يملك التفويض إلى غيره إلا أنا استحسناه لإجماع الصحابة رضي الله عنهم ، ولأنه بسبيل من أن يستديم نكاحها أو يفارقها فيملك إقامتها مقام نفسه في حق هذا الحكم ، ثم الواقع بها بائن لأن اختيارها نفسها بثبوت اختصاصها بها وذلك في البائن ( ولا يكون ثلاثا وإن [ ص: 80 ] نوى الزوج ذلك ) لأن الاختيار لا يتنوع ، بخلاف الإبانة لأن البينونة قد تتنوع .


[ ص: 76 ] ( باب تفويض الطلاق ) ( فصل في الاختيار ) . لما فرغ من بيان الطلاق بولاية المطلق نفسه شرع في بيانه بولاية مستفادة من غيره ، وتحت هذا الصنف ثلاثة أصناف : التفويض بلفظ التخيير وبلفظ الأمر باليد وبلفظ المشيئة ( قوله : إذا قال لامرأته : اختاري ينوي بذلك الطلاق ) يعني ينوي تخييرها فيه ( أو قال لها : طلقي نفسك فلها أن تطلق نفسها ما دامت في مجلسها ذلك ) وإن طال يوما أو أكثر ولم يتبدل بالأعمال ( فإن قامت منه أو أخذت في عمل آخر خرج الأمر من يدها ; لأن المخيرة لها خيار المجلس بإجماع الصحابة رضوان الله عليهم ) قال ابن المنذر : واختلفوا في الرجل يخير زوجته ، فقالت طائفة : أمرها بيدها فإن قامت من مجلسها فلا خيار لها ، روينا هذا القول عن عمر بن الخطاب وعثمان وابن مسعود رضوان الله تعالى عنهم أجمعين ، وفي أسانيدها مقال ، وبه قال جابر بن عبد الله ، وقال به عطاء وجابر بن زيد ومجاهد والشعبي والنخعي ومالك وسفيان الثوري والأوزاعي والشافعي وأبو ثور وأصحاب الرأي ، وفيه قول ثان وهو أن أمرها بيدها في ذلك المجلس وفي غيره ، وهذا قول الزهري وقتادة وأبي عبيد وابن نصر وبه نقول ، ويدل على صحته { قول النبي صلى الله عليه وسلم لعائشة رضي الله عنها لا تعجلي حتى تستأمري أبويك } وحكى صاحب [ ص: 77 ] المغني هذا القول عن علي فاعترض على نقل الإجماع .

والجواب أن الرواية عن علي لم تستقر ، فقد روي عنه كقول الجماعة ، ولذا نص في بلاغات محمد رحمه الله أنه قائل بالاقتصار على المجلس قال : بلغنا عن عمر وعثمان وعلي وابن مسعود وجابر رضي الله عنهم في الرجل يخير امرأته أن لها الخيار ما دامت في مجلسها ذلك ، فإذا قامت من مجلسها فلا خيار لها فيكون إجماعا سكوتيا من قول المذكورين وسكوت غيرهم ، وأين من نقل عنهم من التابعين القول الأول ممن نقل عنهم الثاني . وقوله : في أسانيدها مقال لا يضر بعد تلقي الأمة بالقبول ، مع أن رواية عبد الرزاق عن ابن مسعود وجابر بن عبد الله جيدة .

وأما التمسك بقوله صلى الله عليه وسلم لعائشة " لا تعجلي إلخ " فضعيف ; لأنه صلى الله عليه وسلم لم يكن تخييره ذلك هذا التخيير المتكلم فيه وهي أن توقع بنفسها بل على أنها إن اختارت نفسها طلقها ; ألا ترى إلى قوله تعالى الآية التي هي سبب التخيير منه صلى الله عليه وسلم { إن كنتن تردن الحياة الدنيا وزينتها فتعالين أمتعكن وأسرحكن سراحا جميلا } ( قوله : ولأنه تمليك الفعل منها والتمليكات تستدعي جوابا في المجلس ) أو رد لو كان تمليكا لم يبق الزوج مالكا للطلاق في ذلك المجلس لاستحالة كون الشيء مملوكا كله لأكثر من واحد في زمان واحد وهو منتف ، فإنه لو طلقها بعد التخيير وقع .

وأيضا لو صارت مالكة كان من قال لامرأته : طلقي نفسك ثم حلف أن لا يطلقها فطلقت نفسها لا يحنث . وقد نص محمد على أنه يحنث وهو يقتضي أن تكون نائبة عنه لا مالكة . وأيضا يصح عندنا توكيل المديون بإبراء نفسه ، وهذا يرد على تعليل كونه تمليكا بأنها عاملة لنفسها . وأجيب بأن المراد بالمالك هنا من يقدر على الفعل لاختياره بحيث لا يلحقها [ ص: 78 ] إثم على نفس الفعل ولا خلف في عدم فعله ، بخلاف الوكيل فإنه مخلف إن لم يفعل ويتصور الملك على هذا الوجه من اثنين فإن تمليك الفعل هكذا ، ولزوم انتفاء الملك بالتمليك في الأعيان لا في ملك الأفعال للقطع بثبوت ملك كل من مائة رجل لفعل واحد كملا وهو الاقتصاص ، ومسألة اليمين ممنوعة ، والحنث قول محمد ، والمنع مذكور في الزيادات لصاحب المحيط ، وأما المديون فوكيل ، وإنما وقع عمله في الإبراء لرب الدين باعتبار أمره ، وثبت أثر التصرف لنفسه في ضمنه وهو فراغ ذمته ، وفي هذا نظر نبريه في تطليقها نفسها بأن يقال : هي وكيلة فهي في نفس فعل الإيقاع عاملة له ، وثبوت الحاصل لها ضمنا ، ولو التزم كون المديون مملكا لم يصح لانتفاء لازمه لأن للدائن أن يرجع قبل الإبراء وسنذكر ما هو الأوجه .

واعلم أن الجواب الذي يستدعيه التمليك هو القبول في المجلس ، والجواب المتكلم فيه هو تطليقها نفسها وهو بعد تمام التمليك فليس هذا الوجه مستلزما للمطلوب ، ولهذا قال في الذخيرة : إن هذا التمليك يخالف سائر التمليكات من حيث إنه يبقى إلى ما وراء المجلس إن كانت غائبة ، ولا يتوقف على القبول ، فظهر أن هذا التمليك بخصوصه لا يستدعي الجواب الذي يتم به التمليكات ، ولكونه تمليكا يتم بالمملك وحده بلا قبول لا يقدر على الرجوع لا لكونه متضمنا معنى التعليق لأنه اعتبار يمكن في سائر الوكالات لتضمنها معنى إن بعته فقد أجزته ، والولايات لتضمنها إذا حكمت بين من شئت فقد أجزته فكان يقتضي أن لا يصح الرجوع والعزل فيهما فلا حاجة إليه لهذا المعنى لابتنائه على ما ذكرنا ، لكن إذا كان الملك يثبت فيه بالمملك وحده لم يصح القول بأنه يخالف سائر التمليكات من حيث إنه يبقى إلى ما وراء المجلس ، بل بقاؤه هو الموافق لسائر التمليكات التي يثبت الملك عندها ، وإنما خالفها بما ذكرنا وباعتبار اقتصاره على المجلس ، والمستند فيه إجماع الصحابة .

واعلم أن الاقتصار على المجلس في الخطاب المطلق ، أما لو قال : طلقي نفسك متى شئت فهو لها في المجلس وغيره ، وإذا فوض وهي غائبة اعتبر مجلس علمها ، ولو قال : جعلت لها أن تطلق نفسها اليوم اعتبر مجلس علمها في ذلك اليوم ، فلو مضى اليوم ثم علمت يخرج الأمر من يدها ، وكذا كل وقت قيد التفويض به وهي غائبة ولم تعلم حتى انقضى بطل خيارها في المجلس ، وليس للزوج أن يرجع قبل انقضاء المجلس لأنه بمعنى اليمين ، إذ هو تعليق الطلاق بتطليقها نفسها وقد علمت ما هو التحقيق ( قوله : إذ مجلس إلخ ) لو كانا يتحدثان فأخذا [ ص: 79 ] في الأكل انقضى مجلس الحديث وجاء مجلس الأكل ، فلو انتقلا إلى المناظرة انقضى مجلس الأكل وجاء مجلس المناظرة ، ولو خيرها فلبست ثوبا أو شربت لا يبطل خيارها لأن العطش قد يكون شديدا يمنع التأمل ، ولبس الثوب قد يكون لتدعو شهودا ، بخلاف ما لو أكلت ما ليس قليلا أو امتشطت أو أقامها الزوج قسرا فإنه يخرج الأمر من يدها لظهور الإعراض به .

ووجه بأن في الإقامة أنها يمكنها ممانعته في القيام أو تبادر الزوج باختيارها نفسها فعدم ذلك دليل الإعراض ، وكذا إذا خاضت في كلام آخر ، قال تعالى { حتى يخوضوا في حديث غيره } أفاد أنه إعراض عن الأول ( قوله : ثم لا بد من النية ) أي نية الطلاق في قوله ( اختاري لأنه يحتمل تخييرها في نفسها ) بالإقامة على النكاح وعدمه ( ويحتمل تخييرها في غيره ) من نفقة أو كسوة ، فإذا اختارت نفسها فأنكر قصد الطلاق فالقول له مع يمينه ، أما إذا خيرها بعد مذاكرة الطلاق فاختارت نفسها ثم قال : لم أنو الطلاق لا يصدق في القضاء ، وكذا إذا كانا في غضب أو شتيمة ، وإذا لم يصدق في القضاء لا يسع المرأة أن تقيم معه إلا بنكاح مستقبل ( قوله والقياس أن لا يقع بها شيء ) لأن التمليك فرع ملك المملك وهو لا يملك الإيقاع بهذه اللفظة ، لو قال : اخترت نفسي منك أو اخترتك من نفسي ناويا لا يقع ، إلا أنا استحسنا الوقوع باختيارها بإجماع الصحابة رضي الله عنهم ( قوله ولأنه بسبيل إلخ ) ظاهره أنه وجه آخر للاستحسان يقابل القياس ويقتضي الوقوع بخصوص هذه اللفظة ، وهو لا يقتضي ذلك وإنما يقتضي جواز إقامتها مقامه في الفراق ولا تلاقي بينهما ، بل يقتضي أن لا يقع به لأن إقامتها مقام نفسه فيما يملكه ولا يملك الإيقاع بهذه اللفظة فهو وجه القياس

( قوله ثم الواقع بها بائن ) روي عن زيد بن ثابت أنه ثلاث ، وبه أخذ مالك في المدخول بها ، وفي غيرها يقبل منه دعوى الواحدة ، وعن عمر وابن عباس وابن مسعود واحدة رجعية وبه أخذ الشافعي وأحمد ، وثبت عن علي رضي الله عنه أن الواقع به واحدة بائنة توسط بين الغايتين .

ورجح قول عمر وابن مسعود بأن الكتاب دل على أن الطلاق يعقب الرجعة إلا أن تكون الطلقة الثالثة ، وأنت علمت أنه أخرج منه الطلاق بمال وقبل الدخول ولزم إخراج الطلاق بما دل على البينونة من الألفاظ على ما أسلفناه ولفظ اخترت نفسي ، بل نفس تخييرها يفيد ملكها نفسها إذا اختارتها لأنه ينبئ عن الاستخلاص والصفاء من ذلك الملك وهو بالبينونة ، وإلا لم تحصل فائدة التخيير إذا كان له أن يراجعها شاءت أو أبت .

وقد روى الترمذي عن عبد الله بن مسعود وعمر أن الواقع بها بائنة كما روي عنهما الرجعية ، فاختلفت الرواية عنهما . وقد ترجح بما ذكرنا قول علي وعمر وابن مسعود ، ثم هو غير متنوع لأنه إنما يفيد الخلوص والصفاء ، والبينونة تثبت فيه مقتضى فلا يعم ، بخلاف أنت بائن ونحوه فلا يقع الثلاث في قوله : اختاري وإن نواها [ ص: 80 ] بخلاف التفويض بقوله : أمرك بيدك حيث تصح نية الثلاث فيه لأن الأمر شامل بعمومه لمعنى الشأن للطلاق فكان من أفراده لفظا والمصدر يحتمل نية العموم .

وقيل الفرق أن الوقوع بلفظ الاختيار على خلاف القياس بإجماع الصحابة ، وإجماعهم انعقد على الطلقة الواحدة ، بخلاف تلك المسائل : أي بائن ونحوه لأن الوقوع مقتضى نفس الألفاظ ومقتضاها البينونة وهي متنوعة ، وفيه نظر لانتفاء إجماعهم على الواحدة لما قدمنا من قول زيد بن ثابت أن الواقع به ثلاث قولا بكمال الاستخلاص .

التالي السابق


الخدمات العلمية