صفحة جزء
( فصل ) ( وإذا طلق الرجل امرأته فلها النفقة والسكنى في عدتها رجعيا كان أو بائنا ) [ ص: 404 ] وقال الشافعي : لا نفقة للمبتوتة إلا إذا كانت حاملا ، أما الرجعي فلأن النكاح بعده قائم لا سيما عندنا فإنه يحل له الوطء ، وأما البائن فوجه قوله ما روي { عن فاطمة بنت قيس قالت : طلقني زوجي ثلاثا فلم يفرض لي رسول الله صلى الله عليه وسلم سكنى ولا نفقة } ولأنه لا ملك له وهي مرتبة على الملك ولهذا لا تجب للمتوفى عنها زوجها لانعدامه ، بخلاف ما إذا كانت حاملا لأنا عرفناه بالنص وهو قوله تعالى { وإن كن أولات حمل فأنفقوا عليهن } الآية . ولنا أن النفقة جزاء احتباس على ما ذكرنا ، والاحتباس قائم في حق حكم مقصود بالنكاح وهو الولد إذ العدة واجبة لصيانة الولد [ ص: 405 ] فتجب النفقة ولهذا كان لها السكنى بالإجماع وصار كما إذا كانت حاملا . وحديث فاطمة بنت قيس رده عمر رضي الله عنه ، فإنه قال : لا ندع كتاب ربنا وسنة نبينا بقول امرأة لا ندري صدقت أم كذبت حفظت أم نسيت ، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : { للمطلقة الثلاث النفقة والسكنى ما دامت في العدة } ورده أيضا زيد بن ثابت وأسامة بن زيد وجابر وعائشة رضي الله عنهم .


[ ص: 404 ] قوله : وقال الشافعي رحمه الله : لا نفقة للمبتوتة ) وهي المطلقة ثلاثا والمختلعة إذ لا بينونة عنده بغير ذلك ( إلا أن تكون حاملا ) فإن في بطنها ولده ، وحديث فاطمة بنت قيس رواه في صحيح مسلم { أن أبا عمرو بن حفص طلقها ألبتة وهو غائب فأرسل إليها وكيله بشعير فسخطته فقال : والله ما لك علينا من سبيل ، فجاءت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : ليس لك نفقة ، وأمرها أن تعتد في بيت أم شريك ، ثم قال : تلك امرأة يغشاها أصحابي اعتدي عند ابن أم مكتوم فإنه رجل أعمى تضعين ثيابك ، فإذا حللت فآذنيني ، قالت : فلما حللت ذكرت له أن معاوية بن أبي سفيان وأبا جهم خطباني ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أما أبو جهم فلا يضع عصاه عن عاتقه ، وأما معاوية فصعلوك لا مال له ، انكحي أسامة بن زيد ، فنكحته فجعل الله فيه خيرا واغتبطت به } .

وأخرجه مسلم أيضا وقال فيه { لا نفقة لك ولا سكنى } ورواه أيضا وقال فيه { إن أبا حفص بن المغيرة خرج مع علي بن أبي طالب رضي الله عنه فأرسل إلى امرأته فاطمة بنت قيس بتطليقة كانت بقيت من تطليقها } وعلى هذا فتحمل رواية الثلاث على أنه أوقع واحدة هي تمام الثلاث ، وأمر لها الحارث بن هشام وعياش بن أبي ربيعة بنفقة فسخطتها فقالا : والله ليس لك نفقة إلا أن تكوني حاملا ، فأتت النبي صلى الله عليه وسلم فذكرت له ، قولهما فقال : { لا نفقة لك } زاد أبو داود في هذا بإسناد مسلم عقيب قول عياش بن أبي ربيعة والحارث بن هشام { ولا نفقة لك : إلا أن تكوني حاملا } وفي شرح الكنز نسبه إلى مسلم لكن الحق ما علمت .

وفي رواية لمسلم { أن أبا حفص بن المغيرة المخزومي [ ص: 405 ] طلقها ثلاثا ثم انطلق إلى اليمن ، فقال لها أهله : ليس لك علينا نفقة ، فانطلق خالد بن الوليد في نفر فأتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيت ميمونة } الحديث .

والجواب أن شرط قبول خبر الواحد عدم طعن السلف فيه وعدم الاضطراب وعدم معارض يجب تقديمه ، والمتحقق في هذا الحديث ضد كل من هذه الأمور ، أما طعن السلف فقد طعن عليها فيه أكابر الصحابة ممن سنذكر مع أنه ليس من عادتهم الطعن بسبب كون الراوي امرأة ولا كون الراوي أعرابيا ، فقد قبلوا حديث فريعة بنت مالك بن سنان أخت أبي سعيد الخدري في اعتداد المتوفى عنها زوجها في بيت زوجها مع أنها لا تعرف إلا في هذا الخبر ، بخلاف فاطمة بنت قيس فإنها تعرف بذلك الخبر وبخبر الدجال حفظته مع طوله ووعته وأدته ، ثم قد ظهر لها من الفقه ما أفاد علما وجلالة قدر ; وهو ما في صحيح مسلم " من أن مروان أرسل إليها قبيصة بن أبي ذؤيب يسألها عن الحديث فحدثته به ، فقال مروان : لم نسمع هذا الحديث إلا من امرأة سنأخذ بالعصمة التي وجدنا الناس عليها ، فقالت فاطمة حين بلغها قول مروان بيني وبينكم القرآن ، قال الله تعالى { لا تخرجوهن من بيوتهن ولا يخرجن إلا أن يأتين بفاحشة مبينة } . إلى قوله تعالى { لا تدري لعل الله يحدث بعد ذلك أمرا } قالت : هذا لمن كانت له مراجعة ، فأي أمر يحدث بعد ذلك ؟ فكيف تقولون : لا نفقة لها إذا لم تكن حاملا فعلام تحبسونها ؟ " وقبل عمر خبر الضحاك بن سفيان الكلابي وحده وهو أعرابي ، فجزمنا أن رد عمر وغيره لخبرها ليس إلا لما علموه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم مخالفا له ، وقد استقر الحال عليه بعد وفاته صلى الله عليه وسلم بين السلف إلى أن روت فاطمة رضي الله عنها هذا الخبر مع أن عمر رده ، وصرح بالرواية ، بخلافه في صحيح مسلم عن أبي إسحاق قال : كنت مع الأسود بن يزيد جالسا في المسجد الأعظم ومعنا الشعبي فحدث الشعبي بحديث فاطمة بنت قيس { أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يجعل لها سكنى ولا [ ص: 406 ] نفقة ، فأخذ الأسود كفا من حصا فحصبه به وقال : ويلك تحدث بمثل هذا . قال عمر : لا نترك كتاب ربنا ولا سنة نبينا لقول امرأة لا ندري حفظت أم نسيت ، لها السكنى والنفقة ، قال الله تعالى { لا تخرجوهن من بيوتهن ولا يخرجن إلا أن يأتين بفاحشة مبينة } } فقد أخبر أن سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم أن لها النفقة والسكنى . ولا ريب في أن قول الصحابي من السنة كذا رفع فكيف إذا كان قائله عمر رضي الله عنه .

وفيما رواه الطحاوي والدارقطني زيادة قوله سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول { للمطلقة ثلاثا النفقة والسكنى } وقصارى ما هنا أن تعارض روايتها بروايته ، فأي الروايتين يجب تقديمها ؟ وقال سعيد بن منصور : حدثنا أبو معاوية ، حدثنا الأعمش عن إبراهيم قال : كان عمر رضي الله عنه إذا ذكر عنده حديث فاطمة قال " ما كنا نغير في ديننا بشهادة امرأة " فهذا شاهد على أنه كان الدين المعروف المشهور وجوب النفقة والسكنى فينزل حديث فاطمة من ذلك منزلة الشاذ . والثقة إذا شذ لا يقبل ما شذ فيه ، ويصرح بهذا ما في مسلم من قول مروان : سنأخذ بالعصمة التي وجدنا الناس عليها ، والناس إذ ذاك هم الصحابة ، فهذا في المعنى حكاية إجماع الصحابة ، ووصفه بالعصمة . وفي الصحيحين عن عروة أنه قال لعائشة : ألم تري إلى فلانة بنت الحكم طلقها زوجها ألبتة ، فخرجت فقالت : بئس ما صنعت ، فقال : ألم تسمعي إلى قول فاطمة فقالت : أما إنه لا خير لها في ذكر ذلك . فهذا غاية الإنكار حيث نفت الخبر بالكلية عنه ، وكانت عائشة : أعلم بأحوال النساء فقد كن يأتين إلى منزلها ويستفتين منه صلى الله عليه وسلم وكثر وتكرر .

وفي صحيح البخاري عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت لفاطمة : ألا تتقي الله تعالى : تعني في قولها : لا سكنى ولا نفقة . وقال القاضي إسماعيل : حدثنا نصر بن علي ، حدثني أبي عن هارون عن محمد بن إسحاق قال أحسبه عن محمد بن إبراهيم أن عائشة قالت لفاطمة بنت قيس : إنما أخرجك هذا اللسان : يعني أنها استطالت على أحمائها وكثر الشر بينهم فأخرجها عليه الصلاة والسلام لذلك . ويفيد ثبوته عن عائشة أن سعيد بن المسيب قد احتج به وهو معاصر عائشة ، وأعظم متتبع لأقوال من عاصره من الصحابة حفظا ودراسة ، ولولا أنه علمه عنها ما قاله ، وذلك ما في أبي داود من حديث ميمون بن مهران قال : قدمت المدينة فدفعت إلى سعيد بن المسيب فقلت : فاطمة بنت قيس طلقت فخرجت من بيتها ، فقال سعيد : تلك امرأة فتنت الناس كانت لسنة فوضعت على يد ابن أم مكتوم . وهذا هو المناسب لمنصب ابن المسيب فإنه لم يكن لينسب إلى صحابية ذلك من عند نفسه ، وكذا هو والله أعلم مستند سليمان بن يسار حيث قال : خروج فاطمة إنما كان عن سوء الخلق ، رواه أبو داود في سننه عنه . وممن رده زوجها أسامة بن زيد حب رسول الله صلى الله عليه وسلم .

روى عبد الله بن صالح قال حدثني الليث بن سعد ، حدثني جعفر عن أبي هرمز عن أبي سلمة بن عبد الرحمن قال : كان محمد بن أسامة بن زيد يقول : كان أسامة إذا ذكرت فاطمة شيئا من ذلك : يعني من انتقالها في عدتها رماها بما في يده انتهى . هذا مع أنه هو الذي تزوجها بأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وكان أعرف بالمكان الذي نقلها عنه إلى منزله حتى بنى بها ، فهذا لم يكن قطعا إلا لعلمه بأن ذلك غلط منها ، أو لعلمه بخصوص سبب جواز انتقالها من اللسن أو خيفة المكان وقد جاء ذلك أيضا ولم يظفر المخرج رحمه الله بحديث أسامة فاستغربه والله الميسر .

وقال [ ص: 407 ] الليث : حدثني عقيل عن ابن شهاب قال : أخبرنا أبو سلمة بن عبد الرحمن فذكر حديث فاطمة قال : فأنكر الناس عليها ما كانت تحدث من خروجها قبل أن تحل . وفي معجم الطبراني بسنده عن إبراهيم أن ابن مسعود وعمر رضي الله عنهما قالا : " المطلقة ثلاثا لها السكنى والنفقة " .

وأخرج الدارقطني عن حرب بن أبي العالية عن أبي الزبير عن جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال { المطلقة ثلاثا لها النفقة والسكنى } قال عبد الحق : إنما يؤخذ من حديث أبي الزبير عن جابر ما ذكر فيه السماع ، أو كان عن الليث عن أبي الزبير . وحرب بن أبي العالية أيضا لا يحتج به ضعفه ابن معين ، والأشبه وقفه على جابر ، وهذا بتقدير تسليم ما ذكره من توهين رفعه يرد قول من ذكر أن جابرا على قول فاطمة ، وقد تم بما ذكرنا بيان المعارض والطعن .

وأما بيان الاضطراب فقد سمعت في بعض الروايات أنه طلقها وهو غائب ، وفي بعضها أنه طلقها ثم سافر ، وفي بعض الروايات أنها ذهبت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فسألته . وفي بعضها أن خالد بن الوليد ذهب في نفر فسألوه صلى الله عليه وسلم ، وفي بعض الروايات سمي الزوج أبا عمرو بن حفص ، وفي بعضها أبا حفص بن المغيرة ، والاضطراب موجب لضعف الحديث على ما عرف في علم الحديث . وممن رد الحديث زيد بن ثابت ومروان بن الحكم ، ومن التابعين مع ابن المسيب شريح والشعبي والحسن بن حي والأسود بن يزيد . وممن بعدهم الثوري وأحمد بن حنبل وخلق كثير ممن تبعهم .

فإن قيل : هذا العذر بتقدير ثبوته إنما أسقط تلك السكنى والحال أنه صلى الله عليه وسلم قال لها : لا نفقة لك ولا سكنى ، قلنا : ليس علينا أولا أن نشتغل ببيان العذر عما روت ، بل يكفي ما ذكرنا من أنه شاذ مخالف لما كان الناس عليه ، ولمروي عمر في تركه كائنا هو في نفسه ما كان ، إلا أن الاشتغال بذلك حسن حملا لمرويها على الصحة . ونقول : فيه أن عدم السكنى كان لما سمعت . وأما عدم النفقة فلأن زوجها كان غائبا ولم يترك مالا عند أحد سوى الشعير الذي بعث به إليها فطالبت هي أهله على ما في مسلم من طريق { أنه طلقها ثلاثا ثم انطلق إلى اليمن فقال لها أهله : ليس لك علينا نفقة الحديث . فلذلك قال صلى الله عليه وسلم لها لا نفقة لك ولا سكنى } على تقدير صحته لأنه لم يخلف مالا عند أحد ، وليس يجب لك على أهله شيء فلا نفقة لك على أحد بالضرورة ، فلم تفهم هي الغرض عنه صلى الله عليه وسلم ، فجعلت تروي نفي النفقة مطلقا فوقع إنكار الناس عليها ، ثم إن في كتاب الله تعالى من غير ما نظرت فيه فاطمة بنت قيس ما يفيد وجوب السكنى والنفقة لها وهو قوله تعالى { أسكنوهن من حيث سكنتم من وجدكم } قد علم أن المراد : وأنفقوا عليهن من وجدكم ، وبه جاءت قراءة ابن مسعود المروية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم مفسرة له ، وهذه الآية إنما هي في البوائن بدليل المعطوف وهو قوله تعالى عقيبه { ولا تضاروهن لتضيقوا عليهن وإن كن أولات حمل فأنفقوا عليهن حتى يضعن حملهن } ولو كانت الآية في غير المطلقات أو في الرجعيات كان التقدير : أسكنوا الزوجات والرجعيات من حيث سكنتم ، وأنفقوا عليهن من وجدكم . وإن كن أولات حمل فأنفقوا عليهن حتى يضعن حملهن . ومعلوم أنه لا معنى حينئذ لجعل غاية إيجاب الإنفاق عليها الوضع .

فإن النفقة واجبة لها مطلقا حملا كانت أو لا ، وضعت حملها أو لا ، بخلافه ما إذا كانت في البوائن فإن فائدة التقييد بالغاية دفع توهم عدم النفقة على المعتدة الحامل في تمام مدة الحمل لطولها والاقتصار على [ ص: 408 ] ثلاث حيض أو ثلاثة أشهر ، وكذا قوله تعالى { لا تخرجوهن من بيوتهن ولا يخرجن إلا أن يأتين بفاحشة مبينة } فإنه عام في المطلقات وقوله تعالى { فإذا بلغن أجلهن فأمسكوهن بمعروف } يرجع إلى الرجعيات منهن ، وذكر حكم خاص ببعض ما يتناوله الصدر لا يبطل عموم الصدر .

التالي السابق


الخدمات العلمية