صفحة جزء
[ ص: 17 ] ( باب المستأمن ) . ( وإذا دخل المسلم دار الحرب تاجرا فلا يحل له أن يتعرض لشيء من أموالهم ولا من دمائهم ) ; لأنه ضمن أن لا يتعرض لهم بالاستئمان ، فالتعرض بعد ذلك يكون غدرا والغدر حرام ، إلا إذا غدر بهم ملكهم فأخذ أموالهم أو حبسهم أو فعل غيره بعلم الملك ولم يمنعه ; لأنهم هم الذين نقضوا العهد بخلاف الأسير ; لأنه غير مستأمن فيباح له التعوض ، وإن أطلقوه طوعا ( فإن غدر بهم ) أعني التاجر ( فأخذ شيئا وخرج به ) ( [ ص: 18 ] ملكه ملكا محظورا ) لورود الاستيلاء على مال مباح ، إلا أنه حصل بسبب الغدر فأوجب ذلك خبثا فيه ( فيؤمر بالتصدق به ) وهذا ; لأن الحظر لغيره لا يمنع انعقاد السبب على ما بيناه .


[ ص: 17 ] باب المستأمن ) . أخره عن الاستيلاء ; لأن الاستيلاء بالقهر يكون والاستئمان بعد القهر فأورده كذلك ، وتقديم استئمان المسلم على الكافر ظاهر ( قوله : وإذا دخل المسلم دار الحرب تاجرا فلا يحل له أن يتعرض لشيء من أموالهم ودمائهم ; لأنه ) بالاستئمان ( ضمن ) لهم ( أن لا يتعرض لهم ) فإخلافه غدر ( والغدر حرام ) بالإجماع . وفي سنن أبي داود عنه عليه الصلاة والسلام { إن الغادر ينصب له لواء يوم القيامة فيقال هذه غدرة فلان } وتقدم قوله : عليه الصلاة والسلام لأمراء الجيوش والسرايا { لا تغلوا ولا تغدروا } في وصيته لهم ; ولهذا قلنا فيما لو اقتتلت طائفتان من أهل الحرب في دارنا وبيننا وبين كل منهم موادعة : ليس لنا أن نشتري من الطائفة الغالبة شيئا من الأموال التي غنموها ; لأنهم لم يملكوها ; لعدم الإحراز بدار الحرب فكان شراؤنا غدرا ، بخلاف ما لو اقتتلوا في دار الحرب فإنه يحل لنا الشراء ، والشرط الإحراز بدار الحرب لا بدارهم بخصوصها ، ولو كانوا اقتتلوا في دار الحرب فأقول : يشترط أن يحرزها الغالبون بدارهم إن كانوا لا يدينون أن من قهر آخر في نفسه أو ماله ملكه ، وإن كانوا يدينون فلا ; فإنهم قالوا : لو دخل مسلم دار الحرب بأمان فجاء رجل بأمه أو ابنه أو أم ولده ونحو ذلك ليبيعه منه فأكثر المشايخ على منعه .

وقال الكرخي : إن كانوا يدينون ذلك جاز شراؤه منهم ، والعامة يقولون : إن كانوا يدينون أن من قهر آخر ملكه فهو إذا ملك هؤلاء يعتقون عليه فيصيرون أحرارا فيمتنع بيعهم ، ولو جاء ببعض أحرارهم قالوا : إن كانوا يدينون أن من قهر شخصا ملكه جاز شراؤه منه ، وإلا لا ، مع أن هذا ليس فيه إحراز بدار أخرى غير دار المقهور . وقوله : ( إلا إذا غدر بهم ملكهم فأخذ أموالهم إلخ ) استثناء من قوله لا يحل أن يتعرض لشيء من أموالهم ودمائهم ، وكذا قوله : بخلاف الأسير المسلم أيضا ( لأنه غير مستأمن ) وقد صرح به حيث قال ( فيباح له التعرض ، وإن أطلقوه ) وتركوه في داره ( طوعا ) أو أعتقوه ; لأنه لم يستأمن ، وعتقهم لا عبرة به ; لأنهم لم يملكوه فله أن يقتل من قدر عليه سيده أو غيره ويأخذ ماله ويملكه ملكا لا خبث فيه .

( فإن غدر بهم ) التاجر ( فأخذ شيئا ، وأخرجه إلى دار الإسلام [ ص: 18 ] ملكه ملكا محظورا ; لعدم ورود الاستيلاء على مال مباح ) عند عدم الإحراز إلا أنه بسبب محرم فأورث خبثا فيه فيجب التصدق به كملك المغصوب عند الضمان ، وإنما يملكه مع حرمة مباشرته بسبب الملك ( لأن الحظر لغيره لا يمنع انعقاد سبب الملك ) كما في البيع الفاسد . وقوله : ( على ما بيناه ) يريد ما تقدم من قوله : المحظور لغيره إذا صلح سببا لكرامة تفوق الملك إلخ ، وسبيل ما يملك بطريق محرم التصدق به ، حتى لو كان المأخوذ غدرا جارية لا يحل له وطؤها ولا للمشتري منه ، بخلاف المشتراة شراء فاسدا فإن حرمة وطئها على المشتري خاصة ، وتحل للمشترى منه ; لأن المنع فيه ; لثبوت حق البائع في الاسترداد ، وببيع المشتري انقطع حقه ذلك ; لأنه باع بيعا صحيحا فلم يثبت له حق الاسترداد ، وهنا الكراهة للغدر والمشتري الثاني كالأول فيه . أما لو سبى قوم أهل الدار التي هو فيها جاز له أن يشتريهم من السابي ; لأنهم ملكوهم بالإحراز وهم كانوا على أصل الإباحة في حقه ، وإنما منعه الغدر وليس ذلك غدرا .

[ فرع نفيس من المبسوط ] . لو أغار قوم من أهل الحرب على أهل الدار التي فيهم المسلم المستأمن ، لا يحل له قتال هؤلاء الكفار إلا إن خاف على نفسه ; لأن القتال لما كان تعريضا لنفسه على الهلاك لا يحل إلا لذلك أو لإعلاء كلمة الله ، وهو إذا لم يخف على نفسه ليس قتاله لهؤلاء إلا إعلاء للكفر . ولو أغار أهل الحرب الذي فيهم مسلمون مستأمنون على طائفة من المسلمين فأسروا ذراريهم فمروا بهم على أولئك المستأمنين وجب عليهم أن ينقضوا عهودهم ويقاتلوهم إذا كانوا يقدرون عليه ; لأنهم لا يملكون رقابهم فتقريرهم في أيديهم تقرير على الظلم ، ولم يضمنوا ذلك لهم ، بخلاف الأموال ; لأنهم ملكوها بالإحراز ، وقد ضمنوا لهم أن لا يتعرضوا لأموالهم ، وكذا لو كان المأخوذون ذراري الخوارج ; لأنهم مسلمون .

ومن فروعه : لو تزوج في دار الحرب منهم ثم أخرجها إلى دار الإسلام قهرا ملكها فينفسخ النكاح ويصح بيعه فيها ، وإن طاوعته فخرجت طوعا معه لا يصح بيعها ; لأنه لم يملكها . واعلم أنهم أخذوا في تصويرها ما إذا أضمر في نفسه أنه يخرجها ليبيعها ولا بد منه ، فإنه لو أخرجها كرها لا لهذا الغرض بل لاعتقاده أن له أن يذهب بزوجته حيث شاء إذا أوفاها معجل مهرها ينبغي أن لا يملكها .

التالي السابق


الخدمات العلمية