صفحة جزء
[ ص: 208 ] ولو وقف في مرض موته قال الطحاوي : هو بمنزلة الوصية بعد الموت . والصحيح أنه لا يلزمه عند أبي حنيفة ، وعندهما يلزمه إلا أنه يعتبر من الثلث والوقف في الصحة من جميع المال ، وإذا كان الملك يزول عندهما يزول بالقول عند أبي يوسف وهو قول الشافعي بمنزلة الإعتاق لأنه إسقاط الملك . وعند محمد لا بد من التسليم إلى المتولي [ ص: 209 ] لأنه حق الله تعالى ، وإنما يثبت فيه في ضمن التسليم إلى العبد لأن التمليك من الله تعالى وهو مالك الأشياء لا يتحقق مقصودا ، وقد يكون تبعا لغيره فيأخذ حكمه فينزل منزلة الزكاة والصدقة . [ ص: 210 ] قال ( وإذا صح الوقف على اختلافهم ) وفي بعض النسخ : وإذا استحق مكان قوله إذا صح ( خرج من ملك الواقف ولم يدخل في ملك الموقوف عليه ) لأنه لو دخل في ملك الموقوف عليه لا يتوقف عليه بل ينفذ بيعه كسائر أملاكه ، ولأنه لو ملكه لما انتقل عنه بشرط المالك الأول كسائر أملاكه . قال رضي الله عنه : قوله خرج عن ملك الواقف يجب أن يكون قولهما على الوجه الذي سبق تقريره .


( قوله ولو وقف في مرض الموت قال الطحاوي : هو كالوصية بعد الموت ) حتى يلزم بعد الموت ; لأن تصرفات المريض مرض الموت في الحكم كالمضاف إلى ما بعد الموت حتى يعتبر من ثلث ماله . والصحيح أنه لا يلزم عند أبي حنيفة إلا أن يحكم به فله بيعه ويورث عنه إذا مات قبل الحكم إلا أن تجيز الورثة . وعندهما يلزم إلا أنه من الثلث لتعلق حق الورثة بخلافه في الصحة ، وفي فتاوى قاضي خان : مريض وقف وعليه ديون تحيط بماله يباع وينقض الوقف ، كما لو وقف دارا ثم جاء الشفيع كان له أن يأخذها بالشفعة وينقض الوقف انتهى من غير تقييد بكون ذلك قبل الحكم ، وهذا بخلاف ما لو وقف المديون الصحيح وعليه ديون تحيط بماله ، فإن وقفه لازم لا ينقضه أرباب الديون إذا كان قبل الحجر بالاتفاق ; لأنه لم يتعلق حقهم بالعين في حال صحته ، ( قوله وإذا كان الملك يزول عندهما يزول بالقول عند أبي يوسف وهو ) قول الأئمة الثلاثة وقول أكثر أهل العلم [ ص: 209 ] لأنه إسقاط الملك كالعتق .

وعند محمد لا بد لزواله من التسليم إلى المتولي ; لأن للواقف أن يجعله لله فيصير حقا له ، وحقه إنما يثبت مسلما في ضمن التسليم للعبد ، وهذا لأن الوقف تمليك لله تعالى ( والتمليك منه وهو مالك لجميع الأشياء لا يتحقق مقصودا وقد يتحقق تبعا لغيره فيأخذ حكمه فينزل منزلة الزكاة والصدقة ) المنجزة . ولا يخفى أن التمليك لله تعالى لا يتحقق لا مقصودا ولا تبعا ; لأنه تحصيل الحاصل المستمر ، ثم لا موجب لاعتباره حتى يحتاج إلى تكلف توجيهه لأن غاية ما يوجبه الدليل إما خروج الملك عند الوقف لا إلى أحد ، وتوجه الخطاب بصرف غلته إلى من وقف عليه أو توجه الخطاب بذلك مع بقاء الملك ، فإذا فعل خرج من عهدة الواجب كما هو في سائر الواجبات المالية من غير زيادة تكلف اعتبار آخر . نعم يمكن أن يلاحظ التسليم إلى المستحق تسليما إليه تعالى كأنه تعالى جعله نائبه في قبض حقه ، وذلك بقبض المستحق لا المتولي كالزكاة . ويمكن أن لا يلاحظ شيء من ذلك بل المقصود ليس إلا فعل ما وجب بالوقف ، فلذا كان قول أبي يوسف أوجه عند المحققين . وفي المنية : الفتوى على قول أبي يوسف وهذا قول مشايخ بلخ . وأما البخاريون : فأخذوا بقول محمد رحمه الله كما تقدم .

وفي المبسوط : وكان القاضي أبو عاصم يقول قول أبي يوسف من حيث المعنى أقوى ، إلا أنه قال : وقول محمد أقرب إلى موافقة الآثار : يعني ما روي أن عمر جعل وقفه في يد حفصة ، وغير ذلك . ورده في المبسوط بأنه لا يلزم كونه فعله ليتم الوقف بل لشغله وخوف التقصير في أمره ، وكذا جميع من ينصب المتولين لا يخطر له غير تفريغ نفسه من أمره . وأما قول محمد رحمه الله : لو تم قبل التسليم إلى المتولي صارت يد الواقف مستحقة عليه والتبرع لا يصلح سببا للاستحقاق على المتبرع ، فجوابه منع ذلك بأن التبرع بالسبب الموجب لخروج ما في يده يوجب عليه استحقاق يده كعتق العبد الكائن في يد سيده المعتق له ، والناذر بالعين الكائنة في يده هي وقيمتها يوجب عليه إخراج أحدهما من يده ، وهذه أمور شرعية لا عقلية .

ومما بني على هذا الخلاف ما ذكر من أن الواقف إذا شرط الولاية في عزل القوام والاستبدال بهم لنفسه ولأولاده ، وأخرجه من يده وسلمه إلى متول فهذا جائز نص عليه في السير الكبير ; لأن هذا شرط لا يخل بشرائط الوقف ، ولو لم يشرط ذلك لنفسه وأخرجه من يده إلى قيم قال محمد : لا ولاية له والولاية للقيم ، وكذا لو مات وله وصي فلا ولاية لوصيه والولاية للقيم ، ولو أراد الواقف أن يعزل القيم ويرده لنفسه أو يولي غيره ليس له ذلك .

وقال أبو يوسف : الولاية للواقف ، وله أن يعزل القيم في حياته ويولي غيره أو يرد النظر إلى نفسه ، وإذا مات الواقف بطل ولاية القيم ; لأنه بمنزلة الوكيل عنده ، وهذا الخلاف بناء على أن عند محمد لا يصح الوقف إلا بالتسليم إلى القيم فلا يكون للواقف ولاية .

وعند أبي يوسف بدون التسليم إلى القيم يتم الوقف ، فإذا سلم إلى قيم كان وكيله ، وله أن يعزله وينعزل بموته إلا إذا جعله قيما في حياته وبعد موته ، وكذا يبتني عليه ما لو قال هذه الشجرة للمسجد [ ص: 210 ] لا تصير للمسجد حتى يسلمها إلى قيم المسجد ( قوله وإذا صح الوقف خرج عن ملك الواقف ولم يدخل في ملك الموقوف عليه ) وهذا مذهب عامة علماء الأمصار إلا في قول عن الشافعي وأحمد أنه يدخل في ملك الموقوف عليه إذا كان أهلا للملك إلا أنه لا يباع ولا يتملك ، والمختار الأول ; لأنه لو دخل في ملكه لم ينتقل عنه بشرط المالك الذي هو الواقف ; لأنه لا ملك له فيه لكنه ينتقل للإجماع على صحة قوله ثم من بعد فلان على كذا . ثم قال المصنف : وقوله أي القدوري ( خرج عن ملك الواقف يجب أن يكون قولهما ) ; لأن الصحة غير اللزوم وهو لم يقل إذا لزم خرج عن ملك الواقف ليكون على قول الكل بل قال : إذا صح وصحة العقد لا تستلزم اللزوم بل تختلف باختلاف أحكام العقود فقد يكون عقد حكمه اللزوم كالبيع والإجارة ، وقد يكون حكمه غير اللزوم كالعارية والظاهر أنه تجوز بالصحة عن اللزوم

التالي السابق


الخدمات العلمية