صفحة جزء
[ ص: 504 ] كتاب الأضحية [ ص: 505 - 506 ] قال ( الأضحية واجبة على كل حر مسلم مقيم موسر في يوم الأضحى عن نفسه وعن ولده الصغار ) أما الوجوب فقول أبي حنيفة ومحمد وزفر والحسن وإحدى الروايتين عن أبي يوسف رحمهم الله . وعنه أنها سنة ، ذكره في الجوامع وهو قول الشافعي . وذكر الطحاوي أن على قول أبي حنيفة واجبة ، وعلى قول أبي يوسف ومحمد سنة مؤكدة ، وهكذا ذكر بعض المشايخ الاختلاف . وجه السنة قوله عليه الصلاة والسلام { من أراد [ ص: 507 ] أن يضحي منكم فلا يأخذ من شعره وأظفاره شيئا } والتعليق بالإرادة ينافي الوجوب ، ولأنها لو كانت واجبة [ ص: 508 ] على المقيم لوجبت على المسافر لأنهما لا يختلفان في الوظائف المالية كالزكاة وصار كالعتيرة .

ووجه الوجوب قوله عليه الصلاة والسلام { من وجد سعة ولم يضح فلا يقربن مصلانا } ومثل هذا الوعيد لا يلحق بترك غير الواجب ، ولأنها قربة يضاف إليها وقتها . يقال يوم الأضحى ، وذلك يؤذن بالوجوب لأن الإضافة للاختصاص وهو بالوجود ، والوجوب هو المفضي إلى الوجود ظاهرا بالنظر إلى الجنس ، غير أن الأداء يختص بأسباب يشق على المسافر استحضارها ويفوت بمضي الوقت فلا تجب عليه بمنزلة الجمعة ، والمراد بالإرادة فيما روي والله أعلم [ ص: 509 ] ما هو ضد السهو لا التخيير . والعتيرة منسوخة ، وهي شاة تقام في رجب على ما قيل ، وإنما اختص الوجوب بالحرية لأنها وظيفة مالية لا تتأدى إلا بالملك ، والمالك هو الحر ; وبالإسلام لكونها قربة ، وبالإقامة لما بينا ، واليسار لما روينا من اشتراط السعة ; ومقداره ما يجب به صدقة الفطر وقد مر في الصوم ، [ ص: 510 ] وبالوقت وهو يوم الأضحى لأنها مختصة به ، وسنبين مقداره إن شاء الله تعالى . وتجب عن نفسه لأنه أصل في الوجوب عليه على ما بيناه ، وعن ولده الصغير لأنه في معنى نفسه فيلحق به كما في صدقة الفطر . وهذه رواية الحسن عن أبي حنيفة رحمهما الله .

وروي عنه أنه لا تجب عن ولده وهو ظاهر الرواية ، بخلاف صدقة الفطر لأن السبب هناك رأس يمونه ويلي عليه وهما موجودان في الصغير وهذه قربة محضة . والأصل في القرب أن لا تجب على الغير بسبب الغير ولهذا لا تجب عن عبده وإن كان يجب عنه صدقة فطره ، وإن كان للصغير مال يضحي عنه أبوه أو وصيه من ماله عند أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله . وقال محمد وزفر وللشافعي رحمه الله رحمهم الله : يضحي من مال نفسه لا من مال الصغير ، فالخلاف في هذا كالخلاف في صدقة الفطر . وقيل لا تجوز التضحية من مال الصغير ، في قولهم جميعا ، لأن هذه القربة تتأدى بالإراقة والصدقة بعدها تطوع ، ولا يجوز ذلك من مال الصغير ، ولا يمكنه أن يأكل كله . والأصح أن يضحي من ماله ويأكل منه ما أمكنه ويبتاع بما بقي ما ينتفع بعينه

.
[ ص: 504 ] ( كتاب الأضحية )

أورد الأضحية عقيب الذبائح لأن الأضحية ذبيحة خاصة والخاص بعد العام ، كذا قالوا . أقول : فيه مناقشة هي أنهم إن أرادوا أن الخاص يكون بعد العام في الوجود فهو ممنوع ، إذ قد تقرر عند المحققين أنه لا وجود للعام إلا في ضمن الخاص ، وإن أرادوا أن الخاص يكون بعد العام في التعقل فهو إنما يكون إذا كان العام ذاتيا للخاص وكان الخاص معقولا بالكنه كما عرف ، وكون الأمر كذلك فيما نحن فيه ممنوع ، ويمكن أن يقال : تمييز الذاتي من العرضي إنما يتعسر في حقائق النفس الأمرية .

وأما في الأمور الوضعية والاعتبارية كما فيما نحن فيه فكل ما اعتبر داخلا في مفهوم شيء يصير ذاتيا لذلك الشيء ، ويكون تصور ذلك الشيء بالأمور الداخلة في مفهومه تصورا له بالكنه ، ولا شك أن معنى الذبح داخل في معنى الأضحية لغة وشريعة فيتوقف تعقلها على تعقل معنى الذبح فيتم التقريب على اختيار الشق الثاني تأمل تقف .

ثم إن بيان معنى الأضحية لغة وشريعة قد اختلفت فيه عبارات الشراح ، فقال صاحب النهاية : أما لغة فالأضحية اسم الشاة ونحوها تذبح في يوم الأضحى انتهى . أقول : فيه نوع مخالفة لما ذكر في مشاهير كتب اللغة من القاموس والصحاح وغيرهما ، فإن المذكور فيها أن الأضحية شاة تذبح يوم الأضحى ولم يذكر في واحد منها عموم الأضحية لشيء من غير الشاة كما يشعر به لفظ ونحوها في عبارة صاحب النهاية ، وقال صاحب العناية ومعراج الدراية : الأضحية في اللغة اسم ما يذبح في يوم الأضحى انتهى .

أقول : فيه سماحة ظاهرة ، فإنه يتناول كل ما يذبح في يوم الأضحى من مثل الدجاجة والحمامة ونحوهما مما لا يطلق عليه لفظ الأضحية لا بحسب الشرع ولا بحسب اللغة وقال صاحبا الكافي والكفاية : هي ما يضحى بها : أي يذبح انتهى . أقول : فيه خلل بين ، فإنه يتناول كل ما يذبح في يوم الأضحى وغيره ، وإنما هذا معنى الذبيحة مطلقا ، ولا شك أن الأضحية أخص منها . ثم قال صاحب النهاية : [ ص: 505 ] وأما شرعا فالأضحية اسم لحيوان مخصوص وهو الإبل والبقر والضأن والمعز بسن مخصوص ، وهو الثني فصاعدا من هذه الأنواع الأربعة ، والجذع من الضأن يذبح بنية القربة في يوم مخصوص وهو يوم الأضحى عند وجود شرائطها وسببها انتهى .

وقال صاحب العناية : وفي الشريعة عبارة عن ذبح حيوان مخصوص في وقت مخصوص وهو يوم الأضحى انتهى . أقول : يرد على ظاهره أن الأضحية في الشريعة عبارة عما يذبح من حيوان مخصوص في وقت مخصوص لا عن ذبح ذلك الحيوان في ذلك الوقت ، فإن هذا معنى التضحية لا معنى الأضحية ، وقد لوح إليه صاحب الإصلاح والإيضاح حيث قال : هي في الشريعة ما يذبح في يوم الأضحى بنية القربة .

وقال فيما نقل عنه : ومن قال عبارة عن ذبح حيوان مخصوص في وقت مخصوص فإنه لم يفرق بين الأضحية والتضحية وانتهى . أقول : يمكن أن يجاب عنه بحمل الكلام على المسامحة بناء على ظهور المراد فيكون المراد بذبح حيوان مخصوص هو الحيوان المذبوح نفسه ، وهذا كما قيل في تعريف العلم بحصول صورة الشيء في العقل [ ص: 506 ] أن المراد منه هو الصورة الحاصلة في العقل على المسامحة كما حققه الشريف الجرجاني في عدة مواضع من تصانيفه . وطعن بعض الفضلاء في التعريف الذي ذكره صاحب العناية بوجه آخر حيث قال : اعلم أنه لا بد في التعريف من قيد آخر وهو أن يقول بسن مخصوص لئلا ينتقض التعريف انتهى . أقول : يمكن أن يجاب عنه أيضا بأن قوله حيوان مخصوص يغني عن ذلك القيد الآخر ، فإن المراد بالمخصوص ما يعم المخصوص النوعي وهو الأنواع الأربعة الإبل والبقر والضأن والمعز ، والمخصوص السني أيضا وهو الثني فصاعدا من الأنواع الأربعة المذكورة ، والجذع من الضأن وحده ، فلا ينتقض التعريف بشيء . نعم لو فصله كما وقع في النهاية وغيرها لكان أظهر ، لكنه سلك مسلك الإجمال اعتمادا على ظهور تفصيل ذلك في تضاعيف المسائل الآتية .

ثم قال صاحب النهاية

: وأما شرائطها فنوعان : شرائط الوجوب ، وشرائط الأداء . أما شرائط الوجوب فاليسار الذي يتعلق به وجوب صدقة الفطر والإسلام والوقت وهو أيام النحر ، حتى لو ولدت المرأة ولدا بعد أيام النحر لا تجب الأضحية لأجله . ثم قال : وأما شرائط الأداء فالوقت ، ولو ذهب الوقت تسقط الأضحية ، إلا أن في حق المقيمين بالأمصار يشترط شرط آخر وهو أن يكون بعد صلاة العيد ، ثم قال : وأما سببها فهو المبهم في هذا الكتاب ، فإن سبب وجوب الأضحية ووصف القدرة فيها بأنها ممكنة أو ميسرة لم يذكر لا في أصول الفقه ولا في فروعه ، أما الأول فأقول وبالله التوفيق : إن سبب وجوب الأضحية الوقت وهو أيام النحر والغنى شرط الوجوب ، وإنما قلنا ذلك لأن السبب إنما يعرف بنسبة الحكم إليه وتعلقه به ، إذ الأصل في إضافة الشيء إلى الشيء أن يكون حادثا به سببا ، وكذا إذا لازمه فتكرر بتكرره كما عرف ثم هاهنا تكرر وجوب الأضحية بتكرر الوقت ظاهر ، وكذلك الإضافة فإنه يقال يوم الأضحى كما يقال يوم الجمعة ويوم العيد ، وإن كان الأصل هو إضافة الحكم إلى سببه كما في صلاة الظهر ، ولكن قد يضاف السبب إلى حكمه كما في يوم الجمعة ، ومثل هذه الإضافة في الأضحية لم توجد في حق المال ; ألا يرى أنه لا يقال أضحية المال ولا مال الأضحية فلا يكون المال سببها انتهى .

أقول : فيه نظر ، لأن الوقت لما كان شرط وجوب الأضحية كما صرح به لم يبق مجال أن يكون سببا لوجوبها ، لأن الشيء الواحد لا يصلح أن يكون شرطا وسببا لشيء واحد آخر ، إذ قد تقرر في علم الأصول أن الشرط والسبب قسمان قد اعتبر في أحدهما ما ينافي الآخر ، فإنه قد اعتبر في السبب أن يكون موصلا إلى المسبب في الجملة ، وفي الشرط أن يكون موصلا إلى المشروط أصلا بل كان وجود المشروط متوقفا عليه ، ومن الممتنع أن يكون شيء واحد موصلا إلى شيء واحد آخر ، وأن لا يكون موصلا إليه في حالة واحدة لاقتضائه اجتماع النقيضين ، وعن هذا قالوا في الصلاة إن الوقت سبب لوجوبها وشرط لأدائها فلم يلزم أن يكون سببا وشرطا بالنسبة إلى شيء واحد

( قوله الأضحية واجبة على كل حر مسلم مقيم موسر في يوم الأضحى ) قال في العناية أخذا من النهاية : وهي واجبة بالقدرة الممكنة ، بدليل أن الموسر إذا اشترى شاة للأضحية في أول [ ص: 507 ] يوم النحر ولم يضح حتى مضت أيام النحر ثم افتقر كان عليه أن يتصدق بعينها أو بقيمتها ولا تسقط عنه الأضحية ، فلو كانت بالقدرة الميسرة لكان دوامها شرطا كما في الزكاة والعشر والخراج حيث تسقط بهلاك النصاب والخارج واصطلام الزرع آفة لا يقال أدنى ما يتمكن به المرء من إقامتها تملك قيمة ما يصلح للأضحية ولم تجب إلا بملك النصاب .

فدل أن وجوبها بالقدرة الميسرة لأن اشتراط النصاب لا ينافي وجوبها بالممكنة كما في صدقة الفطر ، وهذا لأنها وظيفة مالية نظرا إلى شرطها وهو الحرية فيشترط فيها الغنى كما في صدقة الفطر . لا يقال : لو كان كذلك لوجب التمليك ، وليس كذلك لأن القرب المالية قد تحصل بالإتلاف كالإعتاق والمضحي إن تصدق باللحم فقد حصل النوعان : أعني التمليك والإتلاف بإراقة الدم ، وإن لم يتصدق حصل الأخير ، إلى هنا لفظ العناية . واعترض بعض الفضلاء على قوله بدليل أن الموسر إذا اشترى شاة للأضحية في أول يوم النحر ولم يضح حتى مضت أيام النحر إلخ حيث قال فيه : إن المشتري إذا كان فقيرا حين اشتراها لها ولم يضح حتى مضت الأيام فكذا الحكم . ففي دلالة ما ذكره على مطلوبه بحث ، إذ ليس في الفقير قدرة لا ممكنة ولا ميسرة ، فذلك للاشتراء بنية الأضحية لا للقدرة فليتأمل انتهى . أقول : ليس هذا بشيء ، إذ لا نزاع لأحد في أن علة وجوب الأضحية على الموسر هي القدرة على النصاب ، وإنما الكلام هنا في أن القدرة التي تجب بها الأضحية على الموسر هل هي القدرة الممكنة أم القدرة الميسرة ، فاستدل صاحب النهاية على أنها هي القدرة الممكنة بمسألة ذكرت في فتاوى قاضي خان ، وهي أن الموسر إذا اشترى شاة للأضحية في أول أيام النحر فلم يضح حتى مضت أيام النحر ثم افتقر كان عليه أن يتصدق بعينها أو بقيمتها ولا تسقط عنه الأضحية ، واقتفى أثره صاحب العناية ، ولا شك في استقامة هذا الاستدلال ، إذ لو كان وجوبها بالقدرة الميسرة لكان دوامها شرطا على ما تقرر في علم الأصول ، ولا يضره اشتراك المعسر مع الموسر في حكم تلك المسألة وهو وجوب التصدق بعينها أو بقيمتها ، لأن علة الوجوب في المعسر هي الاشتراء بنية الأضحية كما صرحوا به لا القدرة ، وعلته في الموسر هي القدرة لا الاشتراء بنية الأضحية كما صرحوا به أيضا ، فبعد أن تقرر أن علته في الموسر هي القدرة لا غير .

تكون تلك المسألة دليلا واضحا على تعيين أن المراد بتلك القدرة هي الممكنة لا الميسرة ، على أن اشتراك المعسر مع الموسر في حكم تلك المسألة ممنوع إذا الواجب في صورة إن كان المشتري معسرا هو التصدق بعينها حية لا غير ، بخلاف إن كان موسرا كما سيجيء في الكتاب مفصلا . وقال ذلك البعض : ثم ظاهر قول المصنف وتفوت بمضي الوقت يدل على أن وجوبها ليس بالقدرة الممكنة ، وإلا لم تسقط وكان عليه أن يضحي وإن لم يشتر شاة في يوم النحر ا هـ . أقول : وليس هذا أيضا بشيء ، لأن مراد المصنف هناك فوات أداء الضحية بمضي الوقت لا سقوطها بالكلية في حق المقيم أيضا ، فإن الأداء وهو تسليم عين الثابت بالأمر يفوت بمضي الوقت في الواجبات المؤقتة مطلقا ، لأن الوقت شرط لأدائها على ما عرف في أصول الفقه .

وأما القضاء وهو تسليم مثل الواجب بالأمر فلا يسقط بمضي الوقت ، وإنما الفائت بمضيه شرط الوقت لا غير ، وهذا أيضا مما عرف في أصول الفقه ، وقد تقرر فيه أيضا أن القضاء قد يكون بمثل معقول كالصلاة للصلاة ، وقد يكون بمثل غير معقول كالفدية للصوم وثواب النفقة للحج ، وعدوا الأضحية من القسم الثاني وقالوا : إن أداءها في وقتها بإراقة الدم وقضاءها بعد مضي وقتها بالتصدق بعينها أو بقيمتها ، فقول ذلك البعض ثم ظاهر قول المصنف وتفوت بمضي الوقت يدل على أن وجوبها ليس بالقدرة الممكنة غير مسلم ، وقوله وإلا لم تسقط وكان عليه أن يضحي وإن لم يشتر شاة في يوم النحر ليس بصحيح ، إذ لم يقل أحد بسقوطها بعد وجوبها حتى يصح قوله وإلا لم تسقط ، ولم يقل أحد بصحة أداء المؤقتات بعد مضي وقتها حتى يصح قوله وكان عليه أن يضحي وإن لم يشتر شاة في يوم النحر فإن التضحية إراقة الدم ، وهي إنما تقبل في وقت الأداء لا بعده ، وإنما الذي يلزم بعده قضاؤها وهو إنما يكون بالتصدق بعينها أو بقيمتها لا بغيره .

ثم قال ذلك البعض : وسيقول المصنف إنها تشبه الزكاة من حيث إنها تسقط بهلاك المال [ ص: 508 ] قبل مضي أيام النحر كالزكاة تسقط بهلاك النصاب ، بخلاف صدقة الفطر لأنها لا تسقط بهلاك المال بعد ما طلع الفجر من يوم الفطر انتهى .

وهذا كالصريح في أن المعتبر فيها هو القدرة الميسرة ، إلى هنا كلامه . أقول : وهذا أيضا ساقط جدا ، لأن الأضحية إنما تسقط بهلاك المال قبل مضي أيام النحر لا بهلاكه بعد مضيها ، حتى لو افتقر بعد مضيها كان عليه أن يتصدق بعينها أو بقيمتها كما مر بيانه . ووجه ذلك ما تقرر في علم الأصول من أن وجوب الأداء في المؤقتات التي يفضل الوقت عن أدائها كالصلاة ونحوها إنما يثبت آخر الوقت ، إذ هنا يتوجه الخطاب حقيقة لأنه في ذلك الآن يأثم بالترك لا قبله ، حتى إذا مات في الوقت لا شيء عليه . والأضحية من هاتيك المؤقتات فتسقط بهلاك المال قبل مضي وقتها ، ولا تسقط بهلاكه بعد مضي وقتها لتقرر سبب وجوب أدائها إذ ذاك ، بل يلزم قضاؤها بالتصدق بعينها أو بقيمتها ، بخلاف الزكاة فإنها من الواجبات المطلقة دون المؤقتة كما نص عليه في علم الأصول فتسقط بهلاك النصاب مطلقا : أي في أي وقت كان لاعتبار القدرة الميسرة فيها ، ومن شرط تلك القدرة بقاؤها لبقاء الواجب لئلا ينقلب إلى العسر كما عرف في أصول الفقه ، فلو كان المعتبر في الأضحية أيضا هو القدرة الميسرة لزم أن تسقط الأضحية أداء وقضاء بهلاك المال بعد أيام النحر أيضا لكون دوام القدرة الميسرة شرطا لا محالة ومراد المصنف بقوله المزبور بيان مشابهة الأضحية بالزكاة في مجرد سقوطها بهلاك المال في بعض الأحوال لا في السقوط بهلاكه في كل حال . ومن البين فيه قوله من حيث إنها تسقط بهلاك المال قبل مضي أيام النحر كالزكاة بهلاك النصاب حيث قيد هلاك المال بكونه قبل مضي أيام النحر في سقوط الأضحية ، وأطلق هلاك النصاب في سقوط الزكاة ، والعجب أن هذا الفرق مع وضوحه كيف خفي على ذلك البعض حتى جعل كلام المصنف كالصريح في خلافه

( قوله ووجه الوجوب قوله عليه الصلاة والسلام { من وجد سعة ولم يضح فلا يقربن مصلانا } ومثل هذا الوعيد لا يلحق بترك غير الوارد ) اعترض عليه بقوله [ ص: 509 ] صلى الله عليه وسلم { من ترك سنتي لم تنله شفاعتي } وأجيب بأنه محمول على الترك اعتقادا أو الترك أصلا ، فإن ترك السنة أصلا حرام قد تجب المقاتلة به ، لأن فيه ترك الأذان ولا مقاتلة في غير الحرام ، كذا في العناية وغيرها .

أقول : لقائل أن يقول : ذاك التأويل محتمل فيما نحن فيه من الحديث أيضا بأن يكون المراد بقوله عليه الصلاة والسلام " ولم يضح " هو ترك التضحية اعتقادا أو تركها أصلا فلا يتم الاستدلال به على الوجوب كما لا يخفى ، ثم قال في العناية : وعورض بقوله عليه الصلاة والسلام { كتبت علي الأضحية ولم تكتب عليكم } وقوله عليه الصلاة والسلام { ضحوا فإنها سنة أبيكم إبراهيم } وبأن أبا بكر وعمر رضي الله عنهما كانا لا يضحيان السنة والسنتين مخافة أن يراها الناس واجبة . وأجيب عن الأول بأن المكتوبة الفرض ، ونحن نقول بأنها غير فرض وإنما هي واجبة وعن الثاني بأنه مشترك الإلزام ، فإن قوله " ضحوا " أمر وهو للوجوب ، وقوله " فإنها سنة أبيكم " أي طريقته ، فالسنة هي الطريقة المسلوكة في الدين . وعن الثالث بأنهما كانا لا يضحيان في حالة الإعسار مخافة أن يراها الناس واجبة على المعسرين انتهى . أقول : في تقريره الجواب عن الثاني خلل فإن القول بأنه مشترك الإلزام ليس بصحيح لأنه لما كان قوله ضحوا أمرا وكان الأمر للوجوب وجاز أن تحمل السنة في قوله " فإنها سنة أبيكم " على الطريقة المسلوكة في الدين وهي تعم الواجب أيضا تعين جانبنا ولم نشترك في الإلزام قط ، فالصواب في تقرير الجواب عن الثاني ما ذكره صاحب الكافي حيث قال : وقوله ضحوا دليلنا لأنه أمر فيفيد الوجوب ، وقوله فإنها سنة أبيكم لا ينفي الوجوب لأن السنة هي الطريقة في الدين واجبة كانت أو غير واجبة انتهى .

وأورد بعض الفضلاء على الجواب عن الأول حيث قال : فيه بحث ، فإنه روى الدارقطني بإسناده عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال { ثلاث كتبت علي وهن لكم تطوع } الحديث انتهى . أقول : المقصود من الجواب المذكور دفع معارضة الخصم بقوله عليه الصلاة والسلام { كتبت علي الأضحية ولم تكتب عليكم } ولا شك في اندفاع تلك المعارضة بالجواب المذكور ، وما ذكره ذلك البعض من رواية الدارقطني لا يقدح في تمام ذلك الجواب بالنظر إلى ما هو المقصود منه ، وإنما يكون ذلك معارضة أخرى لأصل المدعى ، ولعل جمهور الشراح إنما لم يتعرضوا للجواب عنه أصالة لكونه ضعيفا غير صالح للمعارضة لما روينا ، لأن الدارقطني أخرجه عن جابر الجعفي عن عكرمة عن ابن عباس مرفوعا وجابر الجعفي ضعيف [ ص: 510 ] كما ذكره أهل الحديث . وقال صاحب التنقيح : وروي من طرق أخرى وهو ضعيف على كل حال انتهى

( قوله وبالوقت وهو يوم الأضحى لأنها مختصة به ) أقول : هنا شائبة مصادرة ، لأن قوله وبالوقت عطف على قوله بالحرية في قوله وإنما اختص الوجوب بالحرية فيصير المعنى : وإنما اختص وجوب الأضحية بالوقت الذي هو يوم الأضحى لأنها : أي الأضحية مختصة به : أي بذلك الوقت فيئول إلى تعليل الاختصاص بالاختصاص كما ترى . لا يقال : المذكور في العلة اختصاص الأضحية نفسها بذلك الوقت ، والمعتبر في المدعى اختصاص وجوب الأضحية فاللازم هنا تعليل اختصاص وجوب الأضحية بذلك الوقت باختصاص نفس الأضحية به ولا مصادرة فيه . لأنا نقول : لا معنى لاختصاص الأضحية بذلك الوقت سوى اختصاص وجوبها به إذ لا شك في إمكان عمل التضحية في جميع الأوقات فلا بد أن يكون المراد بقوله لأنها مختصة به أن وجوبها مختص به فيلزم المحذور المذكور ، وكأن صاحب الكافي تنبه لهذا حيث غير عبارة المصنف فيما قبل فقال بدل قوله وإنما اختص الوجوب بالحرية إلخ ، والتقييد بالحرية لأنها قربة مالية مفتقرة إلى الملك والحر هو المالك ثم قال : والوقت لاختصاصها به فاللازم حينئذ تعليل التقييد بالوقت باختصاص الأضحية بذلك الوقت ولا مصادرة فيه . فإن قلت : يجوز أن يكون مراد المصنف بقوله وإنما اختص الوجوب بالحرية وإنما اختصه القدوري في مختصره بالحرية على أن يكون كلمة

( اختص ) مبنيا للفاعل

( والوجوب ) مفعوله ويكون مراده هنا بقوله لأنها مختصة به أنها مختصة به في الشرع ، فاللازم تعليل تخصيص القدوري وجوب الأضحية بالوقت باختصاص الأضحية في الشرع بذلك الوقت ولا مصادرة فيه . قلت : فحينئذ يصير معنى الكلام في هذا المقام بمنزلة اللغو ، فإن المقصود بيان الاختصاص الشرعي ، وتعليل ذلك الاختصاص كما فعله باختصاصه بالحرية وبالإسلام وبالإقامة وباليسار . وعلى المعنى [ ص: 511 ] المذكور يلزم أن يكون المبين والمعلل هنا مجرد تخصيص القدوري وجوبها بالوقت بدون أن يبين ويعلم اختصاصه الشرعي بذلك الوقت بشيء أصلا ، ولا يخفى ما فيه

التالي السابق


الخدمات العلمية