صفحة جزء
[ ص: 413 ] قال ( الوصية غير واجبة وهي مستحبة ) والقياس يأبى جوازها لأنه تمليك مضاف إلى حال زوال مالكيته ، ولو أضيف إلى حال قيامها بأن قيل ملكتك غدا كان باطلا فهذا أولى ، إلا أنا استحسناه لحاجة الناس إليها ، فإن الإنسان مغرور بأمله مقصر في عمله ، فإذا عرض له المرض وخاف البيان يحتاج إلى تلافي بعض ما فرط منه من التفريط بماله على وجه لو مضى فيه يتحقق مقصده المآلي ، ولو أنهضه البرء يصرفه إلى مطلبه الحالي ، [ ص: 414 ] وفي شرع الوصية ذلك فشرعناه ، ومثله في الإجارة بيناه ، وقد تبقى المالكية بعد الموت باعتبار الحاجة كما في قدر التجهيز والدين ، وقد نطق به الكتاب وهو قوله تعالى { من بعد وصية يوصى بها أو دين } والسنة وهو قول النبي عليه الصلاة والسلام { إن الله تعالى تصدق عليكم بثلث أموالكم في آخر أعماركم زيادة لكم في أعمالكم [ ص: 415 ] تضعونها حيث شئتم } أو قال { حيث أحببتم } وعليه إجماع الأمة . ثم تصح للأجنبي في الثلث من غير إجازة الورثة لما روينا ، وسنبين ما هو الأفضل إن شاء الله تعالى .


( باب في صفة الوصية ما يجوز من ذلك وما يستجب منه وما يكون رجوعا عنه )

قال بعض المتأخرين في حل هذا التركيب : أي ما يجوز منه وما لا يجوز ، وما يستحب منه وما لا يستحب . وقال : ثم ظاهر الإبدال يفيد أن المراد ببيان صفة الوصية بيان ما يجوز منه وما يستحب منه ، لكن الظاهر كما صرحوا به أن المراد به ما ذكره بقوله الوصية غير واجبة وهي مستحبة ، فالأولى إيراده بالواو العاطفة انتهى . أقول : فيه خلل فاحش . أما أولا فلأنه سلك مسلك التقدير في قول المصنف ما يجوز من ذلك وما يستحب منه حيث قال : أي ما يجوز منه وما لا يجوز وما يستحب منه وما لا يستحب ، ولا يذهب عليك أن ذاك التقدير إن صح في قوله ما يجوز من ذلك لا يصح في قوله وما يستحب منه ، إذ ليس في جنس الوصية ما يخلو عن الجواز وعدمه لكونهما نقيضين لا يرتفعان عن شيء ، فلم يبق من جنس الوصية شيء يغاير ما يجوز منه وما لا يجوز حتى يصلح ذلك لأن يذكر بعدهما ، فإن قيد كل واحد منهما بشيء يخرج منه ما يستحب منه لا يبقى من ذلك شيء يغاير ما يجوز منه وما لا يجوز وما يستحب منه حتى يندرج فيما لا يستحب منه فيصح تقديره .

لا يقال : المراد بالجواز تساوي الطرفين وبعدم الجواز عدم صحة طرف الفعل أصلا لا مجرد رفع التساوي حتى يكونا من قبيل النقيضين فيبقى الاستحباب [ ص: 413 ] والوجوب واسطة بينهما ، ويجوز أن يكون المراد بما لا يستحب منه ما هو الواجب منه . لأنا نقول : نفي الاستحباب يعم الجواز والوجوب وعدم صحة طرف الفعل أصلا ، فمن أين يدل ما لا يستحب منه على ما هو الواجب منه فقط حتى يجوز أن يراد به ذلك . ولئن سلم جواز إرادة ذلك به يفسد معنى المقام إذ يلزم حينئذ أن يدرج في عنوان الباب ما هو الواجب من الوصية فيخالف ما ذكره في أول الباب من أن الوصية غير واجبة وهي مستحبة .

وبالجملة لم يوجد لما ارتكبه محمل صحيح قط ، فالصواب أن لا تقدير في شيء من كلام المصنف هاهنا ، فإن صفات الوصية الشرعية هي الجواز والاستحباب والرجوع عنها : أي كونها مرجوعا عنها ، وهذه الصفات كلها حاصلة مما ذكره في عنوان الباب صراحة فلا حاجة إلى تقدير شيء أصلا حتى عدم الجواز فإنه صفة للوصية الغير الشرعية ، وعنوان الباب إنما كان في صفة الوصية الشرعية . نعم قد يذكر في أثناء مسائل الباب ما لا يجوز من الوصايا ، لكن لأجل إزالة أن يتوهم كونه من الوصايا الجائزة الشرعية ، لا لأنه مقصود بالبيان بالذات كما هو الحال في مسائل سائر الكتب . وأما ثانيا فلأن قوله لكن الظاهر كما صرحوا به أن المراد ما ذكره بقوله الوصية غير واجبة وهي مستحبة ليس بسديد ، إذ لا نسلم أن الظاهر ذلك ، ولا نسلم أن أحدا سواه صرح به ، وإنما الذي صرحوا به أن صفة الوصية في الشرع ما ذكره المصنف بقوله الوصية غير واجبة وهي مستحبة ، لا أن مراد المصنف بالصفة في قوله باب في صفة الوصية هو الذي ذكره بقوله الوصية غير واجبة وهي مستحبة ; ألا يرى أنهم إنما ذكروا ما صرحوا به عند بيان متعلقات الوصية من سببها وشرائطها وركنها وحكمها وصفتها لا عند شرح قول المصنف باب في صفة الوصية إلخ وكم بين المقامين ؟ وأما ثالثا فلأن قوله فالأولى إيراده بالواو العاطفة لا يكاد يصح إذ لو أورده المصنف بالواو العاطفة على فرض أن يكون المراد بالصفة في قوله " باب في صفة الوصية " ما ذكره بقوله الوصية غير واجبة وهي مستحبة كما زعمه القائل لصار معنى الكلام " باب في صفة الوصية " أي فيما يستحب منها وفيما يجوز من ذلك وما يستحب منه ، فيصير قوله " وما يستحب منه " لغوا من الكلام لكونه تكرارا محضا فكأن هذا القائل نسي قول المصنف وما يستحب منه عند كتب قوله فالأولى إيراده بالواو العاطفة ولعمري أنه عجيب من مثله .

( قوله الوصية غير واجبة وهي مستحبة ) أقول : الحكم بالاستحباب على الوصية مطلقا لا يناسب ما مر آنفا في عنوان الباب من قوله ما يجوز من ذلك وما يستحب منه ، ولا ما سيأتي في الكتاب من أن الوصية بالثلث للأجنبي جائرة وبدون الثلث مستحبة إن كانت الورثة أغنياء أو يستغنون بنصيبهم ، وإن كانوا فقراء لا يستغنون بما يرثون فترك الوصية أولى ، فكان الظاهر أن يقال : الوصية غير واجبة بل هي مستحبة أو جائزة ، اللهم إلا أن يوجه قوله وهي مستحبة بأن المراد به أن غاية أمرها الاستحباب دون الوجوب لا أنها مستحبة على الإطلاق ، فكأنه قال : إنها لا تصل إلى مرتبة الوجوب بل قصارى أمرها الاستحباب ، لكن يرد [ ص: 414 ] عليه النقض بالوصية لحقوق الله تعالى كالصلاة والزكاة والصوم والحج التي فرط فيها ، إذ الظاهر أنها واجبة كما صرح به الإمام الزيلعي في التبيين ، قال في العناية أخذا من النهاية : قوله غير واجبة رد لقول من يقول : إن الوصية للوالدين والأقربين إذا كانوا ممن لا يرثون فرض ، ولقول من يقول : الوصية واجبة على كل أحد ممن له ثروة ويسار لقوله تعالى { كتب عليكم إذا حضر أحدكم الموت إن ترك خيرا الوصية للوالدين والأقربين } والمكتوب علينا فرض ، ولما لم يفهم الاستحباب من نفي الوجوب لجواز الإباحة قال : وهي مستحبة انتهى .

أقول : في قوله غير واجبة رد لقول من يقول : إن الوصية للوالدين والأقربين إذا كانوا ممن لا يرثون فرض نظر ، لأن الفرض غير الواجب عندنا ، إذ الفرض ما يثبت بدليل قطعي والواجب ما ثبت بدليل ظني كما تقرر في علم الأصول ، فلا يلزم من كون الوصية غير واجبة كونها غير فرض فكيف يحصل الرد بقوله الوصية غير واجبة لقول من يقول : إنها فرض في حق الوالدين والأقربين ، بل الظاهر أن الرد لقول ذلك إنما يحصل بقوله وهي مستحبة . ثم إن في أسلوب تحريره سماجة ظاهرة إذ الظاهر من تأخير قوله لقوله تعالى { كتب عليكم } إلخ عن مجموع القولين أن تكون الآية المذكورة دليلا عليهما ، بل المتبادر أن تكون دليلا على قربتها ، ولا يخفى أنها لا تصلح لأن تكون دليلا على القول الثاني ، وصاحب النهاية وإن شاركه في تأخير ذكر الدليل المذكور عن مجموع القولين المزبورين إلا أنه ذكر دليلا آخر بعده من السنة حيث قال : وقال عليه الصلاة والسلام { لا يحل لرجل يؤمن بالله واليوم الآخر إذا كان له مال يريد الوصية فيه أن يبيت ليلتين إلا ووصيته مكتوبة عند رأسه } انتهى .

فجاز أن يجعل الدليل الأول دليلا على القول الأول ، والدليل الثاني على القول الثاني بطريق التوزيع على اللف والنشر المرتب ، وأما صاحب الغاية فقد قصر الذكر على دليل واحد فقصر ، ثم اعلم أن الجواب عن كل واحد من دليلي الخصمين مستقصى ومستوفى في النهاية وغيرها فلا علينا أن لا نذكره هاهنا .

( قوله وقد تبقى المالكية بعد الموت باعتبار الحاجة كما في قدر التجهيز والدين ) قال صاحب العناية : قوله وقد تبقى المالكية بعد الموت جواب عن وجه القياس ، واقتفى أثره الشارح العيني . أقول : فيه بحث ، إذ لا يصلح الجواب عن وجه القياس المذكور بمجرد بقاء المالكية بعد الموت ، فإنه قال في وجه القياس : ولو أضيف إلى حال قيامها بأن قال ملكتك غدا كان باطلا فهذا أولى ، فاللازم من بقاء المالكية بعد الموت انتفاء أولوية البطلان لا انتفاء نفس البطلان فلا يجدي نفعا ، اللهم إلا أن يتمحل بأن يقال : معنى كونه جوابا عن وجه القياس مجرد تضمنه قدح مقدمة مذكورة فيه وهي قوله لأنه تمليك مضاف إلى حال زوال مالكيته لا كونه جوابا قاطعا له عن عرقه . والأوجه أن يكون هذا الكلام مجرد تتميم لوجه الاستحسان ، فإنه لما كان في تجويز تمليك مضاف إلى حال زوال المالكية نوع استبعاد لكون التمليك فرع بقاء الملك تدارك دفعه بأن قال : إن المالكية لا تزول عن الإنسان بالكلية بعد الموت ، بل تبقى مالكيته بعده في حق ما يحتاج إليه كما في قدر التجهيز والدين ومنه الوصية بقدر الثلث .

( قوله وقد نطق به الكتاب وهو قوله تعالى { من بعد وصية يوصى بها أو دين } ) قال صاحب العناية : وقد استدل أبو بكر الرازي على نسخ قوله تعالى { كتب عليكم إذا حضر أحدكم الموت إن ترك خيرا الوصية للوالدين والأقربين } بهذه الآية ، وقد ذكره [ ص: 415 ] الإمام المحقق فخر الإسلام في أصوله ، وقد قررناه في التقرير بأن الله تعالى رتب المواريث على وصية نكرة ، والوصية الأولى كانت معهودة فإنها الوصية للوالدين ، فلو كانت تلك الوصية باقية مع الميراث لرتب هذه الوصية عليها وبين بأن هذا المقدار بعد المقدار المفروض ، لأن المحل محل بيان ما فرض للوالدين ، وحيث رتبها على وصية منكرة دل على أن الوصية المفروضة لم تبق لازمة بل بعد أي وصية كانت نصيبهما ذلك المقدار وذلك يستلزم انتفاء وجوب الوصية المفروضة ، وإذا انتسخ الوجوب انتسخ الجواز عندنا انتهى .

أقول : يرد عليه أن هذا لا يدل على أن الوصية الأولى لم تبق لازمة ، فإن المواريث وإن لم ترتب في هذه الآية الوصية الأولى المعهودة لكنها رتبت على وصية مطلقة حيث قيل { من بعد وصية يوصى بها } فدخلت تلك الوصية الأولى أيضا تحت إطلاق هذه الوصية المنكرة فمن أين يلزم انتفاء وجوب الوصية الأولى حتى يلزم انتساخ الآية الأولى بهذه الآية ، وفائدة ترتيب المواريث على الوصية المطلقة دون الوصية الأولى المعهودة فقط إفادة تأخر المواريث عن الوصية الشرعية أيضا كما هو المذهب في مقدار الثلث ، وعن هذا أورد القاضي البيضاوي في تفسير الآية الأولى على من قال كان هذا الحكم في بدء الإسلام فنسخ بآية المواريث بأن قال : فيه نظر ; لأن آية المواريث لا تعارضه بل تؤكده من حيث إنها تدل على تقديم الوصية مطلقا انتهى .

ثم إن بعض الفضلاء رد قول صاحب العناية " لرتب هذه الوصية عليها " في قوله فلو كانت تلك الوصية باقية مع الميراث لرتب هذه الوصية عليها حيث قال : ولعل هنا سهوا ، والعبارة الصحيحة لرتبة عليها انتهى . أقول : إنما الساهي نفسه ، لأن مراد صاحب العناية بهذه الوصية في قوله لرتب هذه الوصية هو الميراث ، ومراده بالوصية هنا وصية الله تعالى لا وصية العباد كما في قوله تلك الوصية وإنما عبر عن الميراث بالوصية تأسيا بكلام الله تعالى ، فإنه تعالى قال في أول آية المواريث { يوصيكم الله في أولادكم } وقال المفسرون : أي يأمركم ويعهد إليكم في شأن ميراثهم ، ثم قال تعالى في آخر تلك الآية { وصية من الله } فلم يكن في العبارة المذكورة سهو بل كان فيها لطافة وحسن .

التالي السابق


الخدمات العلمية