معاني القرآن وإعرابه للزجاج

الزجاج - أبو إسحاق إبراهيم بن السري الزجاج

صفحة جزء
وقوله - عز وجل -: يسألونك عن الأهلة ؛ كان النبي - صلى الله عليه وسلم - سئل عن الهلال في بدئه دقيقا؛ وعن عظمه بعد؛ وعن رجوعه دقيقا؛ كالعرجون القديم؛ فأعلم الله - عز وجل - أنه جعل ذلك ليعلم [ ص: 259 ] الناس أوقاتهم في حجهم؛ وعدد نسائهم؛ وجميع ما يريدون علمه مشاهرة؛ لأن هذا أسهل على الناس من حفظ عدد الأيام؛ ويستوي فيه الحاسب وغير الحاسب؛ ومعنى " الهلال " ؛ واشتقاقه: من قولهم: " استهل الصبي " ؛ إذا بكى حين يولد؛ أو صاح؛ وكأن قولهم: " أهل القوم بالحج والعمرة " ؛ أي: رفعوا أصواتهم بالتلبية؛ وإنما قيل له: " هلال " ؛ لأنه حين يرى يهل الناس بذكره؛ ويقال: " أهل الهلال؛ واستهل " ؛ ولا يقال: " أهل " ؛ ويقال: " أهللنا " ؛ أي: رأينا الهلال؛ و " أهللنا شهر كذا وكذا " ؛ إذا دخلنا فيه؛ وأخبرني من أثق به من رواة البصريين؛ والكوفيين جميعا؛ بما أذكره في أسماء الهلال وصفات الليالي؛ التي في كل شهر: فأول ذلك إنما سمي الشهر " شهرا " ؛ لشهرته وبيانه؛ وسمي " هلالا " ؛ لما وصفنا من رفع الصوت بالإخبار عنه؛ وقد اختلف الناس في تسميته هلالا؛ وكم ليلة يسمى؛ ومتى يسمى قمرا؛ فقال بعضهم: يسمى " هلالا " ؛ لليلتين من الشهر؛ ثم لا يسمى " هلالا " ؛ إلى أن يعود في الشهر التالي؛ وقال بعضهم: يسمى " هلالا " ؛ ثلاث ليال؛ ثم يسمى " قمرا " ؛ وقال بعضهم: يسمى " هلالا " ؛ إلى أن يحجر؛ وتحجيره أن يستدير بخطة دقيقة؛ وهو قول الأصمعي؛ وقال بعضهم: يسمى " هلالا " ؛ إلى أن [ ص: 260 ] يبهر ضوؤه سواد الليل؛ فإذا غلب ضوؤه سواد الليل قيل له: " قمر " ؛ وهذا لا يكون إلا في الليلة السابعة؛ والذي عندي؛ وما عليه الأكثر؛ أنه يسمى " هلالا " ؛ ابن ليلتين؛ فإنه في الثالثة يبين ضوؤه؛ واسم القمر " الزبرقان " ؛ واسم دارته " الهالة " ؛ واسم ضوئه " الفخت " ؛ وقد قال بعض أهل اللغة: لا أدري " الفخت " ؛ اسم ضوئه؛ أم ظلمته؛ واسم ظلمته على الحقيقة؛ واسم ظله؛ " السمر " ؛ ولهذا قيل للمتحدثين ليلا: " سمار " ؛ ويقال: " ضاء القمر " ؛ و " أضاء " ؛ ويقال: " طلع القمر " ؛ ولا يقال: " أضاءت القمر " ؛ أو " ضاءت " ؛ قال أبو إسحاق : وحدثني من أثق به عن الرياشي؛ عن أبي زيد؛ وأخبرني أيضا من أثق به؛ عن ابن الأعرابي؛ بما أذكره في هذا الفصل: قال أبو زيد الأنصاري؛ يقال للقمر ابن ليلة: " عتمة سخيلة حل أهلها برميلة " ؛ وابن ليلتين: " حديث أمتين؛ كذب ومين " ؛ ورواه ابن الأعرابي: " بكذب ومين " ؛ وابن ثلاث: " حديث فتيات غير جد مؤتلفات " ؛ وقيل: " ابن ثلاث: قليل اللباث؛ وابن أربع: عتمة؛ ربع؛ لا جائع ولا مرضع " ؛ وعن ابن الأعرابي: عتمة أم الربع؛ وابن خمس: حديث وأنس ؛ [ ص: 261 ] وقال أبو زيد: عشا خلفات قعس؛ وابن ست: سرويت؛ وابن سبع دلجة الضبع؛ وابن ثمان قمر أضحيان؛ وابن تسع: عن أبي زيد: انقطع الشسع؛ وعن غيره: يلتقط فيه الجزع؛ وابن عشر: ثلث الشهر؛ وعن أبي زيد وغيره: محنق الفجر؛ ولم تقل العرب بعد العشر في صفته ليلة ليلة؛ كما قالت في هذه العشر؛ ولكنهم جزؤوا صفته أجزاء عشرة؛ فجعلوا لكل ثلاث ليال صفة؛ فقالوا: ثلاث غرر؛ وبعضهم يقول: غر؛ وثلاث شهب؛ وثلاث بهر؛ وبهر؛ وثلاث عشر؛ وثلاث بيض؛ وثلاث درع؛ ودرع؛ ومعنى " الدرع " : سواد مقدم [ ص: 262 ] الشاة؛ وبياض مؤخرها؛ وإنما قيل لها: درع؛ ودرع؛ لأن القمر يغيب في أولها؛ فيكون أول الليل أدرع؛ لأن أوله أسود وما بعده مضيء؛ وثلاث خنس؛ لأن القمر ينخنس فيها؛ أي: يتأخر؛ وثلاث دهم؛ وإنما قيل لها: دهم؛ لأنها تظلم حتى تدهام؛ وقال بعضهم: ثلاث حنادس؛ وثلاث فحم؛ لأن القمر يتفحم فيها؛ أي: يطلع في آخر الليل؛ وثلاث دأدي؛ وهي أواخر الشهر؛ وإنما أخذت من " الدأداء " ؛ وهو ضرب من السير؛ تسرع فيه الإبل نقل أرجلها إلى موضع أيديها؛ فالدأدأة آخر نقل القوائم؛ فكذلك الدأدي في آخر الشهر؛ وجمع " هلال " : أهلة " ؛ لأدنى العدد وأكثره؛ لأن " فعالا " ؛ يجمع في أقل العدد على " أفعلة " ؛ مثل: " مثال " ؛ و " أمثلة " ؛ و " حمار " ؛ و " أحمرة " ؛ وإذا جاوز " أفعلة " ؛ جمع على " فعل " ؛ مثل: " حمر " ؛ و " مثل " ؛ فكرهوا في التضعيف " فعل " ؛ نحو: " هلل " ؛ و " خلل " ؛ فقالوا: " أهلة " ؛ و " أخلة " ؛ فاقتصروا على جمع أدنى العدد؛ كما اقتصروا في ذوات الواو والياء على ذلك؛ نحو: " كساء " ؛ و " أكسية " ؛ و " رداء " ؛ و " أردية " . وقوله - عز وجل -: وليس البر بأن تأتوا البيوت من ظهورها ولكن البر من اتقى ؛ قيل: إنه كان قوم من قريش ؛ وجماعة معهم من العرب؛ إذا خرج الرجل منهم في حاجة فلم يقضها؛ ولم تتيسر له؛ رجع؛ فلم يدخل من باب بيته سنة؛ يفعل ذلك تطيرا؛ فأعلمهم الله - عز وجل - أن ذلك غير بر؛ أي: الإقامة على الوفاء بهذه السنة ليس ببر؛ وقال الأكثر من أهل التفسير: إنهم الحمس؛ وهم قوم من قريش ؛ وبنو عامر بن صعصعة ؛ وثقيف ؛ وخزاعة ؛ كانوا إذا أحرموا لا يأقطون الأقط؛ ولا ينتفون الوبر؛ ولا يسلون السمن؛ وإذا خرج أحدهم من الإحرام [ ص: 263 ] لم يدخل من باب بيته؛ وإنما سموا " الحمس " ؛ لأنهم تحمسوا في دينهم؛ أي: تشددوا؛ وقال أهل اللغة: " الحماسة " : الشدة في الغضب؛ والشدة في القتال؛ و " الحماسة " ؛ على الحقيقة الشدة في كل شيء؛ وقال العجاج :

وكم قطعنا من قفاف حمس

أي: شداد؛ فأعلمهم الله - عز وجل - أن تشددهم في هذا الإحرام ليس ببر؛ وأعلمهم أن البر التقى؛ فقال: ولكن البر من اتقى ؛ المعنى: ولكن البر بر من اتقى مخالفة أمر الله - عز وجل -؛ فقال: وأتوا البيوت من أبوابها ؛ فأمرهم الله بترك سنة الجاهلية في هذه الحماسة.

التالي السابق


الخدمات العلمية