صفحة جزء
وذكر لي بعض أهل الأدب : أن أحسن قطعة في السيف قول أبي الهول الحميري :

[ ص: 242 ]

حاز صمصامة الزبيدي من بيـ ـن جميع الأنام موسى الأمين     سيف عمرو وكان - فيما سمعنا -
خير ما أطبقت عليه الجفون     أخضر اللون بين برديه حد
من ذعاف تميس فيه المنون     أوقدت فوقه الصواعق نارا
ثم شابت له الذعاف القيون     فإذا ما شهرته بهر الشمـ
ـس ضياء فلم تكد تستبين     يستطير الأبصار كالقبس المشـ
ـعل لا تستقيم فيه العيون     وكأن الفرند والرونق الجا
ري في صفحتيه ماء معين     نعم مخراق ذي الحفيظة في الهيـ
ـجاء يعصي به ، ونعم القرين [ ص: 243 ]     ما يبالي إذا انتحاه بضرب
أشمال سطت به أم يمين



* * *

وإنما يوازن شعر البحتري بشعر شاعر من طبقته ، ومن أهل عصره ، ومن هو في مضماره أو في منزلته .

ومعرفة أجناس الكلام ، والوقوف على أسراره ، والوقوع على مقداره ، شيء - وإن كان عزيزا ، وأمر - وإن كان بعيدا - فهو سهل على أهله ، مستجيب لأصحابه ، مطيع لأربابه ، ينقدون الحروف ، ويعرفون الصروف .

وإنما تبقى الشبهة في ترتيب الحال بين البحتري ، وأبي تمام ، وابن الرومي ، وغيره .

ونحن وإن كنا نفضل البحتري بديباجة شعره ، على ابن الرومي وغيره من أهل زمانه - نقدمه بحسن عبارته ، وسلاسة كلامه ، وعذوبة ألفاظه ، وقلة تعقد قوله .

والشعر قبيل ملتمس مستدرك ، وأمر ممكن مطيع .

ونظم القرآن عال عن أن يعلق به الوهم ، أو يسمو إليه الفكر ، أو يطمع فيه طامع ، أو يطلبه طالب : لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد .

وكنت قد ذكرت لك قبل هذا : أنك إن كنت بصنعة علم اللسان متدربا ، وفيه متوجها متقدما ، أمكنك الوقوف على ما ذكرنا ، والنفوذ فيما وصفنا ، وإلا فاجلس في مجلس المقلدين ، وارض بمواقف المتحيرين .

ونصحت لك حيث قلت : انظر ، هل تعرف عروق الذهب ، ومحاسن الجوهر ، وبدائع الياقوت ، ودقائق السحر ، من غير معرفة بأسباب هذه الأمور ومقدماتها ؟ وهل يقطع سمت البلاد من غير اهتداء فيها ؟

[ ص: 244 ] ولكل شيء طريق يتوصل إليه به ، وباب يؤخذ نحوه فيه ، ووجه يؤتى منه .

ومعرفة الكلام أشد من المعرفة بجميع ما وصفت لك ، وأغمض وأدق وألطف .

وتصوير ما في النفس ، وتشكيل ما في القلب ، حتى تعلمه وكأنك مشاهده ، وإن كان قد يقع بالإشارة ، ويحصل بالدلالة والأمارة ، كما يحصل بالنطق الصريح ، والقول الفصيح - فللإشارات أيضا مراتب ، وللسان منازل . ورب وصف يصور لك الموصوف كما هو على جهته لا خلف فيه ، ورب وصف يبر عليه ويتعداه ، ورب وصف يقصر عنه .

ثم إذا صدق الوصف انقسم إلى صحة وإتقان ، وحسن وإحسان ، وإلى إجمال وشرح ، وإلى استيفاء وتقريب ، وإلى غير ذلك من الوجوه .

ولكل مذهب وطريق ، وله باب وسبيل :

فوصف الجملة الواقعة ، كقوله تعالى : لو اطلعت عليهم لوليت منهم فرارا ولملئت منهم رعبا .

والتفسير كقوله : ويوم نسير الجبال وترى الأرض بارزة وحشرناهم فلم نغادر منهم أحدا إلى آخر الآيات في هذا المعنى .

وكنحو قوله : يا أيها الناس اتقوا ربكم إن زلزلة الساعة شيء عظيم يوم ترونها تذهل كل مرضعة عما أرضعت وتضع كل ذات حمل حملها وترى الناس سكارى وما هم بسكارى ولكن عذاب الله شديد .

هذا مما يصور الشيء على جهته ، ويمثل أهوال ذلك اليوم .

ومما يصور لك الكلام الواقع في الصفة ، كقوله حكاية عن السحرة لما توعدهم فرعون بما توعدهم به حين آمنوا : قالوا لا ضير إنا إلى ربنا [ ص: 245 ] منقلبون إنا نطمع أن يغفر لنا ربنا خطايانا أن كنا أول المؤمنين .

وقال في موضع آخر : إنا إلى ربنا منقلبون وما تنقم منا إلا أن آمنا بآيات ربنا لما جاءتنا ربنا أفرغ علينا صبرا وتوفنا مسلمين .

وهذا ينبئ عن كلام الحزين لما ناله ، الجازع لما مسه .

ومن باب التسخير والتكوين ، قوله تعالى : إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون .

وقوله : فقلنا لهم كونوا قردة خاسئين .

وكقوله : فأوحينا إلى موسى أن اضرب بعصاك البحر فانفلق فكان كل فرق كالطود العظيم .

وتقصي أقسام ذلك مما يطول ، ولم أقصد استيفاء ذلك ، وإنما ضربت لك المثل بما ذكرت لتستدل ، وأشرت إليك بما أشرت لتتأمل .

* * *

وإنما اقتصرنا على ذكر قصيدة البحتري ؛ لأن الكتاب يفضلونه على أهل دهره ، ويقدمونه على من في عصره ؛ ومنهم من يدعي له الإعجاز غلوا ، ويزعم أنه يناغي النجم في قوله علوا ، والملحدة تستظهر بشعره ، وتتكثر بقوله ، وترى كلامه من شبهاتهم ، وعباراته مضافة إلى ما عندهم من ترهاتهم . فبينا قدر درجته وموضع رتبته ، وحد كلامه .

وهيهات أن يكون المطموع فيه كالمأيوس منه ، وأن يكون الليل كالنهار ، والباطل كالحق ، وكلام رب العالمين ككلام البشر .

* * *

فإن قال قائل : فقد قدح الملحد في نظم القرآن ، وادعى عليه الخلل في [ ص: 246 ] البيان ؛ وأضاف إليه الخطأ في المعنى واللفظ ، وزعم ما زعم ، وقال ما قال ، فهل من فصل ؟

قيل : الكلام على مطاعن الملحدة في القرآن مما قد سبقنا إليه ، وصنف أهل الأدب في بعضه ، فكفوا ، وأتى المتكلمون على ما وقع إليهم ، فشفوا ؛ ولولا ذلك لاستقصينا القول فيه في كتابنا .

* وأما الغرض الذي صنفنا فيه في التفصيل والكشف عن إعجاز القرآن ، فلم نجده على التقريب الذي قصدنا ، وقد رجونا أن يكون ذلك مغنيا ووافيا .

وإن سهل الله لنا ما نويناه : من إملاء " معاني القرآن " ذكرنا في ذلك ما يشتبه من الجنس الذي ذكروه ؛ لأن أكثر ما يقع من الطعن عليه ، فإنما يقع على جهل القوم بالمعاني ، أو بطريقة كلام العرب .

وليس ذلك من مقصود كتابنا هذا ، وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : " فضل كلام الله على سائر الكلام كفضل الله على خلقه " .

وقد قصدنا فيما أمليناه الاختصار ، ومهدنا الطريق ، فمن كمل طبعه للوقوع على فضل أجناس الكلام استدرك ما بينا . ومن تعذر عليه الحكم بين شعر جرير والفرزدق والأخطل ، والحكم بين فضل زهير والنابغة ، أو الفضل بين البحتري وأصحابه ، ولم يعرف سخف مسيلمة في نظمه ، ولم يعلم أنه من الباب الذي يهزأ به ويسخر منه ، كشعر أبي العنبس في جملة [ ص: 247 ] الشعر ، وشعر علي بن صلاءة - : فكيف يمكنه النظر فيما وصفنا ، والحكم على ما بينا ؟ !

* * *

التالي السابق


الخدمات العلمية