الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
فإن قال قائل : فاذكر لنا من هؤلاء الشعراء الذين سميتهم الأشعر والأبلغ .

قيل له : هذا أيضا خارج عن غرض هذا الكتاب ، وقد تكلم فيه الأدباء . ويحتاج أن يجرد لنحو هذا كتاب ، ويفرد له باب ؛ وليس من قبيل ما نحن فيه بسبيل .

وليس لقائل أن يقول : قد يسلم بعض الكلام من العوارض والعيوب ، ويبلغ أمده في الفصاحة والنظم العجيب ؛ ولا يبلغ عندكم حد المعجز ؛ فلم قضيتم بما قضيتم به في القرآن دون غيره من الكلام ؟

وإنما لم يصح هذا السؤال ، وما نذكر فيه من أشعار في نهاية الحسن ، وخطب ورسائل في غاية الفضل - لأنا قد بينا أن هذه الأجناس قد وقع التنازع فيها ، والمساماة عليها ، والتنافس في طرقها ، والتنافر في بابها .

وكان البون بين البعض والبعض في الطبقة الواحدة قريبا ، والتفاوت خفيفا ، وذلك القدر من السبق إن ذهب عنه الواحد ، لم ييأس منه الباقون ، ولم ينقطع الطمع في مثله .

وليس كذلك سمت القرآن ؛ لأنه قد عرف أن الوهم ينقطع دون مجاراته ، والطمع يرتفع عن مباراته ومساماته ؛ وأن الكل في العجز عنه على حد واحد .

وكذلك قد يزعم زاعمون : أن كلام الجاحظ من السمت الذي لا يؤخذ فيه ، والباب الذي لا يذهب عنه ؛ وأنت تجد قوما يرون كلامه قريبا ، [ ص: 248 ] ومنهاجه معيبا ، ونطاق قوله ضيقا ، حتى يستعين بكلام غيره ، ويفزع إلى ما يوشح به كلامه : من بيت سائر ، ومثل نادر ، وحكمة ممهدة منقولة ، وقصة عجيبة مأثورة . وأما كلامه في أثناء ذلك فسطور قليلة ، وألفاظ يسيرة ، فإذا أحوج إلى تطويل الكلام خاليا عن شيء يستعين به - فيخلط بقوله من قول غيره - كان كلاما ككلام غيره .

فإن أردت أن تحقق هذا ، فانظر في كتبه في " نظم القرآن " وفي " الرد على النصارى " وفي " خبر الواحد " وغير ذلك مما يجري هذا المجرى ، هل تجد في ذلك كله ورقة واحدة تشتمل على نظم بديع ، أو كلام مليح ؟

على أن متأخري الكتاب قد نازعوه في طريقته ، وجاذبوه على منهجه ، فمنهم من ساواه حين ساماه ، ومنهم من أبر عليه إذ باراه .

هذا " أبو الفضل بن العميد " قد سلك مسلكه ، وأخذ طريقه ، فلم يقصر عنه ، ولعله قد بان تقدمه عليه ، لأنه يأخذ في الرسالة الطويلة فيستوفيها على حدود مذهبه ، ويكملها على شروط صنعته ، ولا يقتصر على أن يأتي بالأسطر من نحو كلامه ، كما ترى " الجاحظ " يفعله في كتبه ، متى ذكر من كلامه سطرا أتبعه من كلام الناس أوراقا ؛ وإذا ذكر منه صفحة بنى عليه من قول غيره كتابا .

وهذا يدلك على أن الشيء إذا استحسن اتبع ، وإذا استملح قصد له وتعمد . وهذا الشيء يرجع إلى الأخذ بالفضل ، والتنافس في التقدم .

فلو كان في مقدور البشر معارضة القرآن لهذا الغرض وحده - لكثرت المعارضات ، ودامت المنافسات .

فكيف وهناك دواع لا انتهاء لها ، وجوالب لا حد لكثرتها ؛ لأنهم لو كانوا عارضوه لتوصلوا إلى تكذيبه ، ثم إلى قطع المحامين دونه عنه ، أو تنفيرهم عليه ، وإدخال الشبهات على قلوبهم ، وكان القوم يكتفون بذلك عن بذل [ ص: 249 ] النفوس ، ونصب الأرواح ، والإخطار بالأموال والذراري ، في وجه عداوته ، ويستغنون بكلام - هو طبعهم وعادتهم وصناعتهم - عن محاربته ، وطول مناقشته ومجاذبته .

وهذا الذي عرضناه على عقلك ، وجلوناه على قلبك ، يكفي إن هديت لرشدك ، ويشفي إن دللت على قصدك .

ونسأل الله حسن التوفيق ، والعصمة والتسديد ؛ إنه لا معرفة إلا بهدايته ولا عصمة إلا بكفايته ؛ وهو على ما يشاء قدير ، وحسبنا الله ونعم الوكيل .

التالي السابق


الخدمات العلمية