صفحة جزء
[ ص: 251 ] فصل

في التحدي

يجب أن تعلم أن من حكم المعجزات إذا ظهرت على الأنبياء أن : يدعوا فيها أنها من دلالتهم وآياتهم ؛ لأنه لا يصح بعثة النبي من غير أن يؤتى دلالة ، ويؤيد بآية ، لأن النبي لا يتميز من الكاذب بصورته ، ولا بقول نفسه ، ولا بشيء آخر ، سوى البرهان الذي يظهر عليه ، فيستدل به على صدقه .

فإذا ذكر لهم أن هذه آيتي ، وكانوا عاجزين عنها - صح له ما ادعاه .

ولو كانوا غير عاجزين عنها - لم يصح أن يكون برهانا له .

وليس يكون معجزا إلا بأن يتحداهم إلى أن يأتوا بمثله . فإذا تحداهم وبان عجزهم - صار ذلك معجزا .

وإنما احتيج في باب القرآن إلى التحدي ؛ لأن من الناس من لا يعرف كونه معجزا ، فإنما يعرف أولا إعجازه بطريق ؛ لأن الكلام المعجز لا يتميز من غيره بحروفه وصورته ، وإنما يحتاج إلى علم وطريق يتوصل به إلى معرفة كونه معجزا .

فإن كان لا يعرف بعضهم إعجازه ، فيجب أن يعرف هذا ، حتى يمكنه أن يستدل به .

ومتى رأى أهل ذلك اللسان قد عجزوا عنه بأجمعهم ، مع التحدي إليه ، والتقريع به ، والتمكين منه - صار حينئذ بمنزلة من رأى اليد البيضاء ، وانقلاب العصى ثعبانا تتلقف ما يأفكون .

وأما من كان من أهل صنعة العربية ، والتقدم في البلاغة ، ومعرفة فنون القول ، ووجوه المنطق - فإنه يعرف - حين يسمعه - عجزه عن الإتيان بمثله ، [ ص: 252 ] ويعرف أيضا أهل عصره ، ممن هو في طبقته أو يدانيه في صناعته ، عجزهم عنه ، فلا يحتاج إلى التحدي حتى يعلم به كونه معجزا .

ولو كان أهل الصنعة الذين صفتهم ما بينا لا يعرفون كونه معجزا حتى يعرفوا عجز غيرهم عنه - لم يجز أن يعرف النبي - صلى الله عليه وسلم - أن القرآن معجز حتى يرى عجز قريش عنه بعد التحدي إليه ، وإذا عرف عجز قريش لم يعرف عجز سائر العرب عنه حتى ينتهي إلى التحدي إلى أقصاهم ، وحتى يعرف عجز مسيلمة الكذاب عنه ، ثم يعرف حينئذ كونه معجزا .

وهذا القول - إن قيل - أفحش ما يكون من الخطإ ! !

فيجب أن تكون منزلة أهل الصنعة في معرفة إعجاز القرآن بأنفسهم منزلة من رأى اليد البيضاء وفلق البحر ، بأن ذلك معجز .

وأما من لم يكن من أهل الصنعة ، فلا بد له من مرتبة قبل هذه المرتبة ، يعرف بها كونه معجزا ، فيساوي حينئذ أهل الصنعة ، فيكون استدلاله في تلك الحالة به على صدق من ظهر ذلك عليه على سواء ، إذا ادعاه - دلالة على نبوته وبرهانا على صدقه .

فأما من قدر أن القرآن لا يصير معجزا إلا بالتحدي إليه ، فهو كتقدير من ظن أن جميع آيات موسى وعيسى - عليهما السلام - ليست بآيات حتى التحدي إليها والحض عليها ، ثم يقع العجز عنها ، فيعلم حينئذ أنها معجزات .

وقد سلف من كلامنا في هذا المعنى ما يغني عن الإعادة .

ويبين ما ذكرناه في غير البليغ : أن الأعجمي الآن لا يعرف إعجاز القرآن إلا بأمور زائدة على الأعجمي الذي كان في ذلك الزمان مشاهدا له ؛ لأن من هو من أهل العصر يحتاج أن يعرف أولا أن العرب عجزوا عنه ، وإنما يعلم عجزهم عنه بنقل الناقلة إليه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قد تحدى العرب إليه فعجزوا عنه ، ويحتاج في النقل إلى شروط ، وليس يصير القرآن بهذا النقل [ ص: 253 ] معجزا ، كذلك لا يصير معجزا بأن يعلم العربي الذي ليس ببليغ أنهم قد عجزوا عنه بأجمعهم ، بل هو معجز في نفسه ، وإنما طريق معرفة هذا وقوفهم على العلم بعجزهم عنه .

التالي السابق


الخدمات العلمية