الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
[ ص: 254 ] فصل

في قدر المعجز من القرآن

الذي ذهب إليه عامة أصحابنا - وهو قول الشيخ أبي الحسن الأشعري في كتبه - أن أقل ما يعجز عنه من القرآن السورة ، قصيرة كانت أو طويلة ، أو ما كان بقدرها .

قال : فإذا كانت الآية بقدر حروف سورة ، وإن كانت سورة الكوثر ، فذلك معجز .

قال : ولم يقم دليل على عجزهم عن المعارضة في أقل من هذا القدر .

وذهبت " المعتزلة " إلى أن كل سورة برأسها فهي معجزة .

وقد حكي عنهم نحو قولنا ، إلا أن منهم من لم يشترط كون الآية بقدر السورة ، بل شرط الآيات الكثيرة .

وقد علمنا أنه تحداهم تحديا إلى السور كلها ، ولم يخص . ولم يأتوا لشيء منها بمثل ، فعلم أن جميع ذلك معجز .

وأما قوله - عز وجل - : فليأتوا بحديث مثله فليس بمخالف لهذا ؛ لأن الحديث التام لا تتحصل حكايته في أقل من كلمات سورة قصيرة .

وهذا يؤكد ما ذهب إليه أصحابنا ويؤيده ، وإن كان قد يتأول قوله : فليأتوا بحديث مثله على أن يكون راجعا إلى القبيل دون التفصيل .

وكذلك يحمل قوله تعالى : قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله على القبيل ؛ لأنه لم يجعل الحجة عليهم عجزهم عن الإتيان بجميعه من أوله إلى آخره .

فإن قيل : هل تعرفون إعجاز السور القصار بما تعرفون إعجاز السور الطوال ؟

[ ص: 255 ] وهل تعرفون إعجاز كل قدر من القرآن بلغ الحد الذي قدرتموه بمثل ما تعرفون به إعجاز سورة البقرة ونحوها ؟

فالجواب : أن شيخنا أبا الحسن الأشعري - رحمه الله - أجاب عن ذلك : بأن كل سورة قد علم كونها معجزة بعجز العرب عنها .

وسمعت بعض الكبراء من أهل هذا الشأن ، يقول : إن ذلك يصح أن يكون علم ذلك توقيفا .

والطريقة الأولى أسد . وليس هذا الذي ذكرناه أخيرا بمناف له ؛ لأنه لا يمتنع أن يعلم إعجازه بطرق مختلفة تتوافى عليه وتجتمع فيه .

واعلم أن تحت اختلاف هذه الأجوبة ضربا من الفائدة .

لأن الطريقة الأولى تبين أن ما علم به كون جميع القرآن معجزا - موجود في كل سورة ، صغرت أو كبرت ، فيجب أن يكون الحكم في الكل واحدا .

والطريقة الأخيرة تتضمن تعذر معرفة إعجاز القرآن بالطريقة التي سلكناها في كتابنا من التفصيل الذي بينا ، فيما تعرف به في الكلام الفصاحة ، وتتبين به البلاغة ، حتى يعلم ذلك بوجه آخر ، فيستوي في هذا القدر البليغ وغيره في أن لا يعلمه معجزا حتى يستدل به من وجه آخر سوى ما يعلمه البلغاء من التقدم في الصنعة ، وهذا غير ممتنع .

ألا ترى أن الإعجاز في بعض السور والآيات أظهر ، وفي بعضها أغمض وأدق ؟ فلا يفتقر البليغ في النظر في حال بعضها إلى تأمل كثير ، ولا بحث شديد ، حتى يتبين له الإعجاز .

ويفتقر في بعضها إلى نظر دقيق وبحث لطيف ، حتى يقع على الجلية ، ويصل إلى المطلب .

ولا يمتنع أن يذهب عليه الوجه في بعض السور ، فيحتاج أن يفزع فيه إلى إجماع أو توقيف ، أو ما علمه من عجز العرب قاطبة عنه .

[ ص: 256 ] فإن ادعى ملحد ، أو زعم زنديق ، أنه لا يقع العجز عن الإتيان بمثل السور القصار أو الآيات بهذا المقدار !

قلنا له : إن الإعجاز قد حصل بما بيناه ، وعرف بما وقفنا عليه من عجز العرب عنه .

ثم فيه شيء آخر ، وهو : أن هذا سؤال لا يستقيم للملحد ، لأنه يزعم أنه ليس في القرآن كله إعجاز ، فكيف يجوز أن نناظره على تفصيله ؟ !

وإذا ثبت لنا معه إعجازه في السور الطوال ، قامت الحجة عليه ، وثبتت المعجزة ، ولا معنى لطلبه لكثرة الأدلة والمعجزات . ونحن نعلم أن إعجاز البعض بما بيناه ، والبعض الآخر بأنه إذا ثبت الأصل لم يبق بعد ذلك إلا قولنا ؛ لأنا عرفنا في البعض الإعجاز بما بينا ، ثم عرفنا في الباقي بالتوقيف ، ونحو ذلك .

وليس بممتنع اختلاف حال الكلام ، حتى يكون الإعجاز على بعضه أظهر ، وفي بعضه أغمض ؛ ومن آمن ببعض دون بعض كان مذموما ، على ما قال الله تعالى : أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض وقال : وننزل من القرآن ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين فظاهره عند بعض أهل التأويل كالدليل على أن الشفاء ببعضه أوقع ، وإن كنا نقول : إنه يدل على أن الشفاء في جميعه .

واعلم أن الكلام يقع فيه الأبلغ والبليغ ، ولذلك كانوا يسمون الكلمة : " يتيمة " ، ويسمون البيت الواحد : " يتيما " .

سمعت إسماعيل بن عباد يقول : سمعت أبا بكر بن مقسم يقول : [ ص: 257 ] سمعت ثعلبا يقول : سمعت سلمة يقول : سمعت الفراء يقول : العرب تسمي البيت الواحد يتيما ، وكذلك يقال : " الدرة اليتيمة " ، لانفرادها ، فإذا بلغ البيتين والثلاثة فهي " نتفة " ، وإلى العشرة تسمى " قطعة " ، وإذا بلغ العشرين استحق أن يسمى " قصيدا " . وذلك مأخوذ من المخ القصيد ، وهو المتراكم بعضه على بعض ، وهو ضد الرار ، ومثله الرثيد .

انتهت الحكاية ، ثم استشهد بقول لبيد :


فتذكرا ثقلا رثيدا بعدما ألقت ذكاء يمينها في كافر

يريد بيض النعام ، لأنه ينضد بعضه على بعض .

وكذلك يقع في الكلام البيت الوحشي والنادر ، والمثل السائر ، والمعنى الغريب ، والشيء الذي لو اجتهد له لم يقع عليه ، فيتفق له ويصادفه .

قال لي بعض علماء هذه الصنعة - وجاريته في ذلك - : إن هذا مما [ ص: 258 ] لا سبب له يخصه ، وإنما سببه الغزارة في أصل الصنعة ، والتقدم في عيون المعرفة ؛ فإذا وجد ذلك وقع له من الباب ما يطرد عن حساب ، وما يشذ عن تفصيل الحساب .

فأما ما قلنا : من أن ما بلغ قدر السورة معجز ، فإن ذلك صحيح .

التالي السابق


الخدمات العلمية