صفحة جزء
[ ص: 199 ] 30 - باب فرش الحروف، سورة البقرة

الفرش: مصدر فرش إذا نشر وبسط، فالفرش معناه: النشر والبسط، والحروف: جمع حرف، والحرف: القراءة، يقال: حرف نافع حرف حمزة أي قراءته، وسمي الكلام على كل حرف في موضعه من الحروف المختلف فيها بين القراء فرشا لانتشار هذه الحروف في مواضعها من سور القرآن الكريم، فكأنها انفرشت في السور بخلاف الأصول، فإن حكم الواحد منها ينسحب على الجميع، وهذا باعتبار الغالب في الفرش والأصول، إذ قد يوجد في الفرش ما يطرد الحكم فيه كقوله: (وحيث أتاك القدس إسكان داله دواء) البيت، وقوله: (وها هو بعد الواو والفا ولامها) البيت، وقوله: (وإضجاعك التوراة ما رد حسنه) إلخ، وقد يذكر في الأصول ما لا يطرد، كالمواضع المخصوصة التي ذكرها في الهمزتين من كلمة ومن كلمتين، والكلمات المعينة في باب الإمالة، وفي باب الإدغام الصغير، وفي ياءات الإضافة، وياءات الزوائد، فالتسمية في كل من الأصول والفرش باعتبار الكثير الغالب.


1 - وما يخدعون الفتح من قبل ساكن وبعد ذكا والغير كالحرف أولا



قرأ المرموز لهم بالذال وهم: الشامي والكوفيون قوله تعالى: وما يخدعون إلا أنفسهم بفتح الحرف الذي قبل الساكن وهو الياء، والحرف الذي بعده وهو الدال، والساكن هو الخاء، وقرأ غيرهم وهم نافع وابن كثير وأبو عمرو (وما يخادعون)، والذي دلنا على قراءتهم قوله: (والغير) أي غير الشامي والكوفيين يقرءون (وما يخادعون) كالحرف الأول، وهو (يخادعون الله)، فخلاف القراء إنما هو في الموضع الثاني لأنه قيده بالواو و(ما)، فكأنه قال لفظ: يخدعون، المقرون بالواو وما قرأه الشامي والكوفيون بكذا وغيرهم بكذا، ولأنه قال: (والغير) كالحرف أولا، فعلم أن اختلاف القراء في الموضع الثاني، وأما الأول: فلا خلاف فيه بينهم، وإنما أحال قراءة نافع وابن كثير وأبي عمرو على الموضع الأول، لأن قراءتهم لا يمكن أخذها من الضد، لأن ضد الفتح في الياء والدال الكسر، وضد السكون في الخاء التحرك بالفتح، فلو كانت قراءتهم مأخوذة من الضد لكانت [ ص: 200 ] بكسر الياء والدال وفتح الخاء، وذلك لا يصح لغة ولا قراءة، فلم يقرأ به ولا في الشاذ، فمن أجل ذلك اضطر إلى إحالة قراءة الباقين على الموضع الأول، وهو كلمة (يخادعون الله)، وإطلاق الحرف على الكلمة مجاز مرسل من إطلاق الجزء وإرادة الكل، والعلاقة الجزئية. و(ذكا) معناه اشتعل وأضاء.


2 - وخفف كوف يكذبون وياؤه     بفتح وللباقين ضم وثقلا



قرأ الكوفيون بتخفيف الذال وفتح الياء في قوله تعالى: بما كانوا يكذبون ، ويلزم من تخفيف الذال وفتح الياء إسكان الكاف، وقرأ الباقون وهم أهل سما، وابن عامر بضم الياء وتشديد الذال، ويلزم من هذا فتح الكاف. وأخذت قراءة الباقين من النص عليها في قوله: و(للباقين ضم وثقلا)، وإنما نص عليها ولم يتركها لتؤخذ من الضد لعدم إمكان ذلك بالنسبة لفتح الياء، لأن ضد الفتح الكسر، فلو تركها لتؤخذ من الضد لكانت القراءة بكسر الياء مع التشديد، وهذا لا يجوز، فظهر من هذا أن تشديد الذال يؤخذ من الضد لأنه ضد التخفيف.

وأما الضم فلا يؤخذ من الضد لأن ضد الفتح الكسر لا الضم، فلذلك احتاج إلى النص على الضم، وأما النص على التثقيل وهو التشديد فليس في حاجة إلى النص عليه لأنه ضد التخفيف كما سبق، فلعله نص عليه زيادة في البيان. ويرد على الناظم: أن إطلاقه الحكم في يكذبون، يتناول لفظ يكذبون في سورة التوبة في قوله تعالى: بما أخلفوا الله ما وعدوه وبما كانوا يكذبون مع اتفاق القراء على قراءة هذا الموضع بالتخفيف، ولفظ يكذبون، في الانشقاق في قوله تعالى: بل الذين كفروا يكذبون مع اتفاق القراء على قراءته بالتشديد، فكان عليه تقييد هذا الحكم بموضع البقرة، كأن يقول هنا أو نحو ذلك، ودافع عنه بعض شراح كلامه بأن عادة الناظم في الفرش إذا أطلق الحكم يكون مقصورا على ما في السورة ولا يكون عاما شاملا إلا بقرينة تدل على العموم، كقوله: بحيث أتى، وحيث جاء، وجميعا، ونحو ذلك، اللهم إلا في النذر اليسير من الكلمات، فقد ذكر حكمها في سورتها ولم يأت بقرينة تدل على العموم، ولكن كان الحكم عاما شاملا لجميع مواضع هذه الكلمة كقوله في آل عمران: (ولا ألف في ها هأنتم زكا جنى)، وقوله فيها أيضا: (ومع مد كائن كسر همزته دلا) إلخ.

[ ص: 201 ]

3 - وقيل وغيض ثم جيء يشمها     لدى كسرها ضما رجال لتكملا
4 - وحيل بإشمام وسيق كما رسا     وسيء وسيئت كان راويه أنبلا



قرأ الكسائي وهشام لفظ قيل، حيث وقع في القرآن الكريم، ولفظ وغيض الماء في هود، ولا ثاني له في القرآن، ولفظ وجيء: وجيء بالنبيين ، وجيء يومئذ بجهنم بإشمام كسر الحرف الأول منها ضما، وقرأ ابن عامر، والكسائي بالإشمام في:

وحيل بينهم وبين ما يشتهون في سبإ، " وسيق " في الموضعين في سورة الزمر، وقرأ ابن عامر والكسائي، ونافع بالإشمام في " سيء بهم " في هود والعنكبوت، سيئت في الملك، وكيفية الإشمام في هذه الأفعال: أن تحرك الحرف الأول منها بحركة مركبة من حركتين ضمة وكسرة، وجزء الضمة مقدم، وهو الأقل، ويليه جزء الكسرة وهو الأكثر، ولا يضبط هذا الإشمام إلا التلقي والأخذ من أفواه الشيوخ المتقنين، وإطلاق الناظم الحكم يوهم قصره على ما في هذه السورة، ولكن لما ضم إلى ما في هذه السورة ألفاظا ليست فيها وهي: وغيض، وجيء، وحيل، وسيق، وسيء، وسيئت.

كان ذلك قرينة على عموم الحكم وشموله لهذه الألفاظ حيث وقعت في القرآن الكريم، ولا بد أن تكون أفعالا، فإن كانت أسماء فلا إشمام فيها لأحد نحو: ومن أصدق من الله قيلا في النساء، وقيله يا رب في الزخرف، إلا قيلا سلاما سلاما في الواقعة، وأقوم قيلا في المزمل.


5 - وها هو بعد الواو والفا ولامها     وها هي أسكن راضيا باردا حلا
6 - وثم هو رفقا بان والضم غيرهم     وكسر وعن كل يمل هو انجلا



أمر بإسكان الهاء من لفظي (هو، هي) واللفظان من ضمائر الفصل للكسائي وقالون وأبي عمرو إذا كان كل منهما مقرونا بالواو نحو: وهو بكل شيء عليم ، وهي تجري بهم أو بالفاء نحو: فهو وليهم ، فهي كالحجارة ، أو باللام نحو: وإن الله لهو الغني الحميد ، لهي الحيوان ، وأسكن الكسائي وقالون الهاء في: ثم هو يوم القيامة من المحضرين في [ ص: 202 ] القصص، وقرأ غيرهم بالضم في لفظ هو، والكسر في لفظ هي، وعن كل القراء السبعة ضم الهاء في أو لا يستطيع أن يمل هو في البقرة.


7 - وفي فأزل اللام خفف لحمزة     وزد ألفا من قبله فتكملا



أمر بتخفيف اللام وزيادة ألف قبلها لحمزة، فتكون قراءة غيره بتشديد اللام وحذف الألف قبلها.


8 - وآدم فارفع ناصبا كلماته     بكسر وللمكي عكس تحولا



أمر أن يقرأ لجميع القراء غير المكي قوله تعالى: فتلقى آدم من ربه كلمات ، برفع (آدم) ونصب (كلمات) بالكسر. ثم ذكر أن المكي وهو ابن كثير يعكس هذه القراءة فيقرأ بنصب (آدم) ورفع (كلمات). وفي قوله: (تحولا) إشارة إلى انتقال النصب من (كلمات) إلى (آدم) وانتقال الرفع من (آدم) إلى (كلمات) في قراءة ابن كثير قال العلامة أبو شامة: وحقيقة العكس لا تتحقق هنا من جهة أن نصب آدم ليس بكسر بل بفتح، فهو عكس مع قطع النظر عن لفظ الكسر انتهى، ولا يخفى أن العكس هنا عكس في الإعراب لا في الكلمات.


9 - ويقبل الاولى أنثوا دون حاجز     وعدنا جميعا دون ما ألف حلا



قرأ ابن كثير وأبو عمرو ولا يقبل منها شفاعة بتاء التأنيث فتكون قراءة الباقين بياء التذكير، والتقييد بالأولى للاحتراز عن الثانية وهي ولا يقبل منها عدل فلا خلاف بين القراء في قراءتها بالتذكير. وقرأ أبو عمرو (واعدنا) في جميع مواضعه بحذف الألف بعد الواو، وهو في ثلاثة مواضع هنا: وإذ واعدنا موسى أربعين ليلة ، وفي الأعراف وواعدنا موسى ثلاثين ليلة ، وفي طه وواعدناكم جانب الطور الأيمن ، وقرأ غيره بإثبات الألف بعد الواو.


10 - وإسكان بارئكم ويأمركم له     ويأمرهم أيضا وتأمرهم تلا
11 - وينصركم أيضا ويشعركم وكم     جليل عن الدوري مختلسا جلا



قرأ أبو عمرو، وهو مرجع الضمير في (له) بإسكان الهمز في (بارئكم) في الموضعين هنا [ ص: 203 ] وبإسكان الراء في هذه الألفاظ حيث ذكرت في القرآن الكريم: يأمركم، يأمرهم، تأمرهم، ينصركم، يشعركم، ثم ذكر أن كثيرا من حذاق النقلة روى عن الدوري اختلاس كسرة الهمزة في بارئكم، واختلاس ضمة الراء في بقية الألفاظ.

والاختلاس: هو الإتيان بثلثي حركة الحرف بحيث يكون المنطوق به من الحركة أكثر من المحذوف منها، ويرادفه الإخفاء، فاللفظان معناهما واحد، ويقابلهما الروم فهو الإتيان ببعض الحركة بحيث يكون الثابت منها أقل من المحذوف، ويؤخذ مما ذكر أن السوسي ليس له في شيء من هذه الألفاظ إلا الإسكان، وأما الدوري فله في كل منها الإسكان والاختلاس.


12 - وفيها وفي الأعراف نغفر بنونه     ولا ضم واكسر فاءه حين ظللا
13 - وذكر هنا أصلا وللشام أنثوا     وعن نافع معه في الاعراف وصلا



قرأ أبو عمرو، وابن كثير، والكوفيون " نغفر لكم " هنا، وفي الأعراف بنون العظمة في أوله، ولا ضم فيها، فتكون مفتوحة لأن الفتح ضد الضم وبكسر الفاء، وبقي من القراء السبعة: نافع والشامي وهو ابن عامر، أما نافع: فأمر الناظم أن يقرأ له بياء التذكير بدلا من النون هنا مع ضم هذه الياء ويؤخذ له ضمها من الضد، لأنه نفى الضم عن النون في قراءة الجماعة، فيكون ثابتا في الحرف الذي في مكان النون، وهو الياء، في قراءة نافع، والتاء في قراءة ابن عامر، ويقرأ لنافع بفتح الفاء، لأنه ضد الكسر، وأما ابن عامر: فأمر أن يقرأ له بتاء التأنيث المضمومة بدلا من النون في الموضعين هنا، وفي الأعراف بدليل قوله: (معه في الاعراف)، ويقرأ لابن عامر بفتح الفاء أيضا، لأنه ضد الكسر كما سبق. ثم ذكر أن نافعا يشارك ابن عامر في القراءة بالتأنيث في سورة الأعراف.

فتلخص من كل ما سبق أن البصري والمكي والكوفيين يقرءون (نغفر) في السورتين بالنون المفتوحة، وكسر الفاء، وأن نافعا يقرأ في البقرة بالياء المضمومة، وفتح الفاء، وفي الأعراف بالتاء المضمومة، وفتح الفاء، وأن ابن عامر يقرأ بالتاء المضمومة، وفتح الفاء في الموضعين.

ويؤخذ من هذا أنه لا قراءة في الأعراف بالياء فالخلف فيها دائر بين القراءة بالنون المفتوحة وكسر الفاء، وهي قراءة البصري والمكي والكوفيين، [ ص: 204 ] والقراءة بالتاء المضمومة وفتح الفاء وهي قراءة نافع وابن عامر، والله تعالى أعلم.


14 - وجمعا وفردا في النبيء وفي النبو     ءة الهمز كل غير نافع ابدلا
15 - وقالون في الأحزاب في للنبيء مع     بيوت النبيء الياء شدد مبدلا



أبدل القراء السبعة إلا نافعا الهمزة ياء في لفظ النبيء، سواء كان مفردا أم جمع مذكر سالما، أم جمع تكسير، وفي لفظ النبوءة أيضا، فالمفرد النبي، ونبي، ونبيا، وجمع المذكر السالم النبيون، النبيين، وجمع التكسير الأنبياء، أنبياء، والنبوة في: ما كان لبشر أن يؤتيه الله الكتاب والحكم والنبوة في آل عمران، وفي ولقد آتينا بني إسرائيل الكتاب والحكم والنبوة في الجاثية، أبدل القراء السبعة إلا نافعا الهمز ياء في جميع ما تقدم مع إدغام الياء الساكنة قبلها فيها بحيث يصير النطق بياء واحدة مشددة في لفظ المفرد وجمع المذكر السالم، وبياء خفيفة في جمع التكسير، وبواو واحدة مشددة في لفظ " والنبوة " حيث وقع، وقرأ نافع بالهمز في كل ما ذكر، وقد وافق قالون الجماعة فخالف مذهبه في موضعين: فقرأ فيهما بإبدال الهمزة ياء مع إدغام الياء التي قبلها وهما: إن وهبت نفسها للنبي إن أراد ، لا تدخلوا بيوت النبي إلا أن يؤذن لكم ، كلاهما في الأحزاب، وإطلاق كلام الناظم يفيد أن قالون يقرأ بترك الهمز في الحالين: الوصل والوقف، ولكن المحققين على أنه يقرأ بترك الهمز وبالياء المشددة وصلا فقط، فإذا وقف رجع لأصله فقرأ بالهمز في الموضعين.


16 - وفي الصابئين الهمز والصابئون خذ     وهزؤا وكفؤا في السواكن فصلا
17 - وضم لباقيهم وحمزة وقفه     بواو وحفص واقفا ثم موصلا



المشار إليهم بالخاء وهم القراء السبعة إلا نافعا قرءوا بهمزة مكسورة بعد الباء في لفظ " والصابئين " في البقرة والحج. وبهمزة مضمومة بعد الباء في والصابئون في العقود، وقرأ نافع بترك الهمز في اللفظين مع ضم الباء في والصابئون وقرأ حمزة بإسكان الزاي في لفظ " هزوا " كيف وقع في القرآن وبإسكان الفاء في كفوا أحد في الإخلاص، وقرأ الباقون بضم الزاي والفاء، فإذا وقف حمزة أبدل الهمزة واوا، وله نقل حركة [ ص: 205 ] الهمزة إلى ما قبلها، أي إلى الزاي والفاء، وإذا وصل حقق الهمزة، وحفص يبدل الهمزة واوا وقفا ووصلا، والباقون يقرءون بالهمز وصلا ووقفا.


18 - وبالغيب عما تعملون هنا دنا     وغيبك في الثاني إلى صفوه دلا



قرأ ابن كثير وما الله بغافل عما تعملون الذي بعده أفتطمعون بياء الغيب وقرأ غيره بتاء الخطاب، وعلم أن مراده هذا الموضع من قوله: (هنا) أي في المكان القريب من لفظ هزوا. وقرأ نافع وشعبة وابن كثير وما الله بغافل عما تعملون الذي بعده أولئك الذين بياء الغيبة، وقرأ غيرهم بتاء الخطاب.

التالي السابق


الخدمات العلمية