صفحة جزء
قوله ( وإذا كانت له بينة بألف ، فقال : أريد أن تشهدا لي بخمسمائة : لم يجز ) ، وهو المذهب بلا ريب ، ونص عليه ، وعليه جماهير الأصحاب ، وعند أبي الخطاب : يجوز فقال في الهداية : ولو كانا شهدا على رجل بألف ، فقال صاحب الدين : " أريد أن تشهدا لي من الألف بخمسمائة " فإن كان الحاكم لم يول الحكم بأكثر من ذلك ، لم يجز لهما أن يشهدا بخمسمائة ، قال : وعندي يجوز أن يشهدا بذلك . انتهى . وقال في المحرر : إذا قال من له بينة بألف " أريد أن تشهدا لي بخمسمائة " لم يجز ذلك ، إذا كان الحاكم لم يول الحكم بأكثر منها ، وأجازه أبو الخطاب . انتهى . وتبعه في الفروع ، فقال : ومن قال لبينة بمائة " اشهدا لي بخمسين " لم يجز إذا كان الحاكم لم يول الحكم بما فوقها ، نص عليه ، وأجازه أبو الخطاب . انتهى . وقال في الوجيز : وإذا قال من له بينة بألف " أريد أن تشهدا لي بخمسمائة " لم يجز ذلك إذا كان الحاكم لم يول الحكم بأكثر منها ، وإلا جاز . انتهى .

فظاهر كلامه في المحرر ، ومن تبعه : أن الحاكم إذا كان مولى بأكثر منها : أنه يجوز وصرح بذلك في الوجيز فقال : لم يجز ذلك إذا كان الحاكم لم يول الحكم بأكثر منها ، وإلا جاز ، [ ص: 33 ] فظاهر هذا أنه إن ولي بأكثر منها : جاز على القولين ، قال شيخنا في حواشيه على المحرر : وهذا مشكل من جهة المعنى والنقل أما من جهة المعنى : فإنه إذا كان قد ولي بأكثر منها ، فليس معنا حاجة داعية إلى الشهادة بالبعض ، بخلاف العكس ، فإنه إذا لم يول الحكم بأكثر منها ، فالحاجة داعية إلى الشهادة بالبعض ، وهو المقدار الذي يحكم به ، ولهذا لم يذكر الشيخ في المقنع هذا القيد ، ولا الكافي ، لأنه والله أعلم فهم أنه ليس بقيد يحترز به ، ولا يقال : إنه لم يطلع عليه ; لأنه في كلام أبي الخطاب ، وهو قد نقل كلامه ، وأما من جهة النقل : فقال الإمام أحمد رحمه الله تعالى : إذا قال " اشهد علي بمائة درهم ، ومائة درهم ، ومائة درهم " فشهد على مائة دون مائة : كره ، إلا أن يقول " أشهدوني على مائة ومائة ومائة " يحكيه كله للحاكم كما كان ، وقال الإمام أحمد رحمه الله : إذا شهد على ألف وكان الحاكم لا يحكم إلا على مائة ومائتين ، فقال صاحب الحق " أريد أن تشهد لي على مائة " لم يشهد إلا بالألف ، قال القاضي : وذلك أن على الشاهد نقل الشهادة على ما شهد .

فقول الإمام أحمد رحمه الله " إذا شهد على ألف ، وكان الحاكم لا يحكم إلا على مائة ومائتين " يرد ما قالوه ، فإنه ذكر في الرواية " إذا كان يحكم على مائة ومائتين ، فقال صاحب الحق : أريد أن تشهد لي على مائة ، لم يشهد إلا بالألف " فمنعه ، مع أنه ذكر : أنه يحكم بمائتين ، فإذا منعه من الشهادة بمائة وهو يحكم بمائتين : فقد منعه في صورة ما إذا ولي الحكم بأكثر منها ، وتعليل المسألة لا يحتاج معه إلى تطويل ، وأما تقييد الحاكم : فهو لبيان الواقع ، فإن الواقع في هذه الصورة لا يكون في العرف ، إلا إذا كان الحاكم لا يحكم بأكثر ; لأن صاحب الحق لا يطلب إلا [ ص: 34 ] في هذه الصورة ، أو نحوها من الصور التي تمنعه من طلب الحق كاملا ، أما كلام أبي الخطاب ، وصاحب المحرر ، في القيد المذكور : فيحتمل أن يكون لأجل الخلاف ، أي أن أبا الخطاب لا يجيزه إلا إذا كان الحاكم لم يول بأكثر ، فيكون التقدير : لا يجوز ، وعند أبي الخطاب : يجوز إذا كان لم يول الحكم بأكثر منها ، وأما إذا كان قد ولي الحكم بأكثر منها : لم يجز بلا خلاف ; لعدم العذر ، لكن تعليل قول أبي الخطاب الذي علل به المصنف في المغني وهو أنه من شهد بألف فقد شهد بالخمسمائة ، وليس كاذبا يدل على أن أبا الخطاب يجيزه مطلقا ، وأبو الخطاب لم يعلل قوله في الهداية ، فإن كان رأى تعليله في كلامه في غير الهداية فلا كلام ، وإن كان علله من عنده ، فيحتمل أن أبا الخطاب قصد ما فهمه الشيخ ، وأراد : الجواز مطلقا .

ويحتمل أن مراده : الجواز في صورة ما إذا لم يول بأكثر منها ، ويكون كونه ليس كاذبا في شهادة يمنع الاحتياج إلى ذلك لأجل الحكم ، لكونه لا يحكم بأكثر منها ، فتكون العلة المجموع ، مع أن كلام أبي الخطاب يحتمل أن تكون بالباء الموحدة من تحت ، أي قال صاحب الحق ذلك ، بأن كان الحاكم لم يول بأكثر منها ، لكن النسخ بالفاء ، فيحتمل أنه من الكاتب ، وإن كان بعيدا ، وأما صاحب الوجيز : فيحتمل أنه ظن المفهوم مقصودا ، فصرح به وإن كان بعيدا ، ولكن ارتكبناه لما دل عليه كلام الإمام أحمد رحمه الله ولما عليه الجماعة . انتهى .

كلام شيخنا ، قال : وقد ذكر الشيخ محب الدين نصر الله في حواشيه : أن الشهود إذا شهدوا بالخمسمائة ، وكان أصلها بألف ، وأعلموا الحاكم بذلك : يكون حكمه [ ص: 35 ] بالخمسمائة حكما بالألف ; لأن الحكم ببعض الجملة حكم بالجملة ، فإذا كان لم يول الحكم بألف يكون قد حكم بما لم يول فيه ، وهو ممتنع ، بخلاف ما إذا كان ولي الحكم بألف ، فإنه يكون قد حكم بما ولي فيه ، هذا معنى ما رأيته من كلامه ، قال : وفيه نظر ; لأن الذين ذكروا المنع من ذلك إنما عللوه بأن الشاهد لم يشهد كما سمع ، وهذا يدل على أن المنع لأمر يرجع إلى الشاهد ، لا لأمر يرجع إلى حكم الحاكم ; ولأنه قد يقال : لا يسلم في مثل هذه الصورة : أن الحكم بالبعض المشهود به يكون حكما بالجملة ، بل إنما يكون حكما بما ادعى به وشهد به ، وقد يقال الذين عللوا المنع بأن الشهادة لم تؤد كما سمعت : كلامهم يقتضي المنع مطلقا ، وأما من قيد المنع بما إذا كان الحاكم لم يول الحكم بأكثر منها : يكون توجيهه ما ذكر ، ويدل عليه ذكر هذا القيد ; لأنهم لم يمنعوا إلا بهذا الشرط ، لكن يحتاج إلى إثبات أن الحكم بالبعض من الجملة حكم بكلها .

وقد ذكر القاضي في الأحكام السلطانية ما يخالف ذلك ، فإنه ذكر في أوائل الكراس الرابع فيما إذا كانت ولاية القاضي خاصة وقد نص الإمام أحمد رحمه الله على صحتها في قدر من المال ، فقال في رواية أحمد بن نصر في رجل أشهد على ألف درهم ، وكان الحاكم لا يحكم إلا في مائة ومائتين فقال : لا تشهد إلا بما أشهدت عليه ، وكذلك قال في رواية الحسن بن محمد في رجل أشهد على ألف ، ولا يحكم في البلاد إلا على مائة لا يشهد إلا بألف ، فقد نص على جواز القضاء في قدر من المال ، ووجهه ما ذكرنا ، [ ص: 36 ] ومنع من تبعيض الشهادة إذا كانت بقدر يزيد على ما جعل له فيه ، بل يشهد بذلك ويحكم الحاكم من ذلك بما جعل له ; لأنه إذا شهد بخمسمائة عند هذا القاضي ، وشهد بالخمسمائة الأخرى عند قاض آخر ، ربما ادعى المقر أن هذه الخمسمائة الثانية هي التي شهد بها أولا ، وتسقط إحداهما على قول من يحمل تكرار الإقرار في مجلسين بألف واحدة ، وقد يشهد لذلك قوله تعالى { ذلك أدنى أن يأتوا بالشهادة على وجهها } وإذا بعضها فلم يأت بها على وجهها . انتهى كلام القاضي في الأحكام السلطانية .

التالي السابق


الخدمات العلمية