البحر الرائق شرح كنز الدقائق

ابن نجيم - زين الدين بن إبراهيم بن محمد

صفحة جزء
( باب اليمين في الدخول والخروج والسكنى والإتيان وغير ذلك ) .

شروع في بيان الأفعال التي يحلف عليها ، ولا سبيل إلى حصرها لكثرتها لتعلقها باختيار الفاعل فنذكر القدر الذي ذكره أصحابنا في كتبهم والمذكور نوعان أفعال حسية وأمور شرعية وبدأ بالأهم ، وهو الدخول ونحوه ; لأن حالة الحلول في مكان ألزم للجسم من أكله وشربه ، وقد ذكر المصنف رحمه الله تعالى في هذا الباب من الأفعال خمسة : الدخول والخروج والسكنى والإتيان والركوب ، والأصل أن الأيمان مبنية على العرف عندنا لا على الحقيقة اللغوية كما نقل عن الشافعي ، ولا على الاستعمال القرآني كما عن مالك ، ولا على النية مطلقا كما عن أحمد ; لأن المتكلم إنما يتكلم بالكلام العرفي أعني الألفاظ التي يراد بها معانيها التي وضعت في العرف كما أن العربي حال كونه من أهل اللغة إنما يتكلم بالحقائق اللغوية فوجب صرف ألفاظ المتكلم إلى ما عهد أنه المراد بها ثم من المشايخ من جرى على هذا الإطلاق فحكم بالفرع الذي ذكره صاحب الذخيرة والمرغيناني ، وهو ما إذا حلف لا يهدم بيتا فهدم بيت العنكبوت أنه يحنث بأنه خطأ ، ومنهم من قيد حمل الكلام على العرف بما إذا لم يمكن العمل بحقيقته ، ولا يخفى أن هذا يصير المعتبر الحقيقة اللغوية إلا ما كان من الألفاظ ليس له وضع لغوي بل أحدثه أهل العرف ، وأن ما له وضع لغوي ووضع عرفي يعتبر معناه اللغوي ، وإن تكلم به متكلم من أهل العرف ، وهذا يهدم قاعدة حمل الأيمان على العرف فإنه لم يصير المعتبر إلا اللغة إلا ما تعذر ، وهذا بعيد إذ لا شك أن المتكلم لا يتكلم إلا بالعرف الذي به التخاطب سواء كان عرف اللغة إن كان من أهل اللغة أو غيرها إن كان من غيرها . يعم ما وقع استعماله مشتركا بين أهل اللغة ، وأهل العرف تعتبر اللغة على أنها العرف .

وأما الفرع المذكور فالوجه فيه أنه إن كان نواه في عموم بيتا حنث ، وإن لم يخطر له وجب أن لا يحنث لانصراف الكلام إلى المتعارف عند إطلاق لفظ بيت وظهر أن مرادنا بانصراف الكلام إلى العرف أنه إذا لم يكن له نية كان موجب الكلام ما هو معنى عرفيا له ، وإن كان له نية شيء واللفظ يحتمله انعقد اليمين باعتباره كذا في فتح القدير ، وفي الحاوي الحصيري والمعتبر في الأيمان الألفاظ دون الأغراض ، وفي الظهيرية من الفصل الثالث من الهبة رجل اغتاظ على غيره فقال إن اشتريت لك بفلس شيئا فامرأته طالق فاشترى له بدرهم شيئا لم يحنث في يمينه فدل على أن العبرة بعموم اللفظ . ا هـ .

وذكر الإمام الخلاطي في مختصر الجامع فروعا مبنية على ذلك فقال باب اليمين في المساومة حلف لا يشتريه بعشرة حنث بإحدى عشرة ، ولو حلف البائع لم يحنث به ; لأن مراد المشتري المطلقة ، ومراد البائع المفردة ، وهو العرف ، ولو اشترى أو باع بتسعة لم يحنث ; لأن المشتري مستنقص ، والبائع وإن كان مستزيدا لكن لا يحنث بلا مسمى كمن حلف لا يخرج من الباب أو لا يضربه سوطا أو لا يشتري بفلس أو ليغدينه اليوم بألف فخرج من السطح وضرب بعصا واشترى بدينار وغدى برغيف لم يحنث . ا هـ .

وفي التنوير للإمام المسعودي شارحه ، والحاصل أنه إذا كان [ ص: 324 ] في اليمين ملفوظ به يجوز تعيين أحد محتمليه بالغرض ، وأما الزيادة على الملفوظ فلا يجوز بالغرض ففي مسألة لا أبيعه بعشرة فباعه بتسعة إنما لا يحنث البائع ، وإن كان غرضه المنع عن النقصان ; لأن الناقص عن العشرة ليس في لفظه ، ولا يحتمله لفظه فلا يتقيد به . ا هـ .

وفي الخلاصة من الجنس الخامس من اليمين في الشراء ، ولو أن البائع هو الذي حلف فقال عبده حر إن بعت هذا منك بعشرة فباعه بعشرة دراهم ودينار أو بأحد عشر درهما لم يحنث ، ولو باعه بتسعة لا يحنث أيضا هذا جواب القياس ، وفي الاستحسان على عكس هذا فإن العرف بين الناس أن من حلف لا يبيع بعشرة أن لا يبيعه إلا بأكثر من عشرة فإذا باعه بتسعة يحنث استحسانا . ا هـ .

فالحاصل أن بناء الحكم على الألفاظ هو القياس والاستحسان بناؤه على الأغراض وسيأتي أنه هل يعتبر في العرف عند التخاطب أو العمل ( قوله : حلف لا يدخل بيتا لا يحنث بدخول البيت والمسجد والبيعة والكنيسة والدهليز والظلة والصفة ) لما قدمنا أن الأيمان مبنية على العرف والبيت في العرف ما أعد للبيتوتة ، وهذه البقاع ما بنيت لها ، وأراد بالبيت الكعبة ، ولو عبر بها لكان أظهر والبيعة بكسر الباء معبد النصارى والكنيسة معبد اليهود والدهليز بكسر الدال ما بين الباب والدار فارسي معرب كما في الصحاح والظلة الساباط الذي يكون على باب الدار من سقف له جذوع أطرافها على جدار الباب ، وأطرافها الأخرى على جدار الجار المقابل له ، وإنما قيدنا به ; لأن الظلة إذا كان معناها ما هو داخل البيت مسقفا فإنه يحنث بدخوله ; لأنه يبات فيه ، وأطلق المصنف في الدهليز والصفة ، وهو مقيد بما إذا لم يصلحا [ ص: 325 ] للبيتوتة أما إذا كان الدهليز كبيرا بحيث يبات فيه فإنه يحنث بدخوله ; لأن مثله يعتاد بيتوتته للضيوف في بعض القرى ، وفي المدن يبيت فيه بعض الأتباع في بعض الأوقات فيحنث .

والحاصل أن كل موضع إذا أغلق الباب صار داخلا لا يمكنه الخروج من الدار ، وله سعة تصلح للمبيت من سقف يحنث بدخوله ، وعلى هذا يحنث بالصفة سواء كان لها أربع حوائط كما هي صفاف الكوفة أو ثلاثة على ما صححه في الهداية بعد أن يكون مسقفا كما هي صفاف ديارنا ; لأنه يبات فيه غاية الأمر أن مفتحه واسع وسيأتي أن السقف ليس شرطا في مسمى البيت فيحنث ، وإن لم يكن الدهليز مسقفا كذا في فتح القدير .


( باب اليمين في الدخول والخروج والسكنى والإتيان وغير ذلك ) .

( قوله : وفي الحاوي الحصيري والمعتبر في الأيمان الألفاظ دون الأغراض ) هذا مخالف لما حققه في الفتح ووفق بينهما في الشرنبلالية بقوله ، ولعله قضاء ، وما قاله الكمال ديانة فلا مخالفة . ا هـ .

وسيأتي قريبا توفيق آخر ، وهو أن حمله على الألفاظ هو القياس وحمله على الأغراض استحسان ( قوله : وغدى برغيف لم يحنث ) بقي من عبارة مختصر الجامع بقية ، وهي قوله : وغدى برغيف مشترى بألف لم يحنث كذا بتسعة ودينار أو ثوب وبالعرف يخص ، ولا يزاد حتى خص الرأس بما يكبس ، ولم يرد الملك في تعليق طلاق الأجنبية بالدخول انتهت عبارة الجامع ، وقد أوضح هذا المقام الإمام الفارسي في شرحه المسمى تحفة الحريص شرح التلخيص فنذكره ملخصا ، وهو أنه لو حلف المشتري لا يشتريه بعشرة فاشتراه بأحد عشر حنث ; لأنه اشتراه بعشرة وزيادة والزيادة على شرط الحنث لا تمنع الحنث كما لو حلف لا يدخل هذه الدار فدخلها ودخل دارا أخرى .

ولو حلف البائع لا يبيعه بعشرة فباعه بأحد عشر لم يحنث لحصول شرط بره ; لأن غرضه الزيادة على العشرة ، وقد وجد ; لأن [ ص: 324 ] البيع بالعشرة نوعان بيع بعشرة مفردة وبيع بعشرة مقرونة بالزيادة ففي المشتري اللفظ مطلق لا دلالة فيه على تعيين أحد النوعين فكان مراده العشرة المطلقة أما البائع فمراده البيع بعشرة مفردة بدلالة الحال إذ غرضه الزيادة عليها ، ولم يوجد شرط حنثه ، وهو البيع بعشرة مفردة فلا يحنث ، وهذا هو المتعارف بين الناس فيحمل اليمين على ما تعارفوه ، ولو اشتراه المشتري أو باعه البائع بتسعة لم يحنث واحد منهما أما المشتري فلأنه مستنقص فكان شرط بره الشراء بأنقص من عشرة ، وقد وجد ، وأما البائع فإنه ، وإن كان مستزيدا للثمن على العشرة إلا أنه لا يحنث بفوات الغرض وحده بدون وجود الفعل المسمى ، وهو البيع بعشرة فلا يحنث ، وهذا ; لأن الحنث إنما يثبت بما يناقض البر صورة ، وهو تحصيل ما هو شرط الحنث صورة ، وللحالف في الإقدام على اليمين غرض فإذا وجد الفعل الذي هو شرط الحنث صورة ، وفات غرضه به فقد فات شرط البر من كل وجه فيحنث أما إذا وجد صورة الفعل الذي هو شرط في الحنث بدون فوت الغرض أو بالعكس لا يكون حنثا مطلقا فلا يترتب عليه حكم الحنث فصار كمن حلف لا يخرج من الباب فخرج من جانب السطح أو لا يضرب عبده سوطا فضربه بعصا أو لا يشتري لامرأته شيئا بفلس فاشترى شيئا بدينار أو ليغدين فلانا اليوم بألف درهم فغداه برغيف مشترى بألف لم يحنث في الكل .

وإن كان غرضه في الأولى القرار في الدار ، وفي الثانية الامتناع عن إيلام العبد ، وفي الثالثة إيذاء المرأة ، وعدم الإنعام عليها ، وفي الرابعة كون ما يغديه به كثير القيمة ، وكذا لو اشتراه المشتري أو باعه البائع بتسعة ودينار أو بتسعة وثوب لم يحنث أما المشتري فلأنه لم يلتزم العشرة بإزاء المبيع ، وهو ، وإن كان مستنقصا الثمن عن العشرة إلا أن ذلك غرض وبالغرض يبر ، ولا يحنث لما قلنا ، وأما البائع فلعدم وجود شرط الحنث صورة ، وهو البيع بعشرة مع تحقق شرط بره ، وهو الزيادة على العشرة إذ غرضه الزيادة عليها وبالغرض يتحقق البر دون الحنث لما قلنا ، وقوله وبالعرف يخص ، ولا يزاد جواب عن سؤال ، وهو أن غرض المشتري من اليمين عرفا النقصان عن عشرة فإذا اشتراه بتسعة ودينار أو بتسعة وثوب لم يوجد النقصان بل وجدت الزيادة من حيث القدر والمالية فوجب الحنث ، وكذا البائع بتسعة مفردة وجب أن يحنث ; لأن المنع عن إزالة ملكه بعشرة منع عن إزالته بتسعة مفردة عرفا .

والجواب عن الأول أن الحكم لا يثبت بمجرد الغرض ، وإنما يثبت باللفظ والذي تلفظ به المشتري لا يحتمل الشراء بتسعة ودينار أو ثوب إذ الدرهم لا يحتمل الدينار ، ولا الثوب ، ولا يمكن أن يجعل مجازا عن الشراء بما يبلغ قيمته عشرة باعتبار الغرض في العرف ; لأنه لا تجوز الزيادة به على ما ليس في لفظه بالعرف لما يذكره ، ولهذا لو حلف لا يشتريه بدرهم فاشتراه بدينار لم يحنث والجواب عن الثاني أن الملفوظ هو العشرة وطلب الزيادة عليها ليس في لفظ البائع ، وليس محتمل لفظه إذ اسم العشرة لا يحتمل التسعة ليتعين بغرضه والزيادة على اللفظ بالعرف لا تجوز بخلاف الشراء بتسعة ; لأن العشرة في جانب المشتري .

التالي السابق


الخدمات العلمية