البحر الرائق شرح كنز الدقائق

ابن نجيم - زين الدين بن إبراهيم بن محمد

صفحة جزء
( قوله ) : ( لا يكلمه فناداه ، وهو نائم فأيقظه أو إلا بإذنه فأذن له ، ولم يعلم حنث ) ; لأنه في المسألة الأولى كلمه وقد وصل إلى سمعه ، وقد شرط المصنف أن يوقظه ، وهي رواية المبسوط ، وعليه مشايخنا ، وهو المختار ; لأنه إذا لم ينتبه كان كما إذا ناداه من بعيد ، وهو بحيث لا يسمع صوته لا يحنث ، ولم يشترطه القدوري كما إذا ناداه ، وهو بحيث يسمع لكنه لم يفهم لتغافله ، وهي من المسائل التي جعل النائم فيها كالمستيقظ ، وهي خمس وعشرون ذكرناها في باب التيمم وصحح الإمام السرخسي الحنث ، وإن لم يوقظه لما ذكره محمد في السير الكبير إذا نادى المسلم أهل الحرب بالأمان من موضع يسمعون صوته إلا أنهم لا يسمعون لشغلهم بالحرب فهو أمان . ا هـ .

وقد فرق بأن الأمان يحتاط في إثباته ، وقيد بكونه نائما ; لأنه لو كان مستيقظا حنث إن كان بحيث يسمع صوته إن أصغى إليه أذنه ، وإن لم يسمع لعارض أمر كان مشغولا به أو كان أصم ، وإن كان لا يسمع صوته لو أصغى إليه أذنه لشدة البعد لا يحنث كذا في الذخيرة ، وفيها لا يحنث [ ص: 361 ] حتى يكلمه بكلام مستأنف بعد اليمين منقطع عنها لا متصل بها فلو قال موصولا إن كلمتك فأنت طالق فاذهبي أو اخرجي أو قومي أو شتمها أو زجر متصلا لا يحنث ; لأن هذا من تمام الكلام الأول فلا يكون مرادا باليمين إلا أن يريد به كلاما مستأنفا ، وفي المنتقى لو قال فاذهبي أو واذهبي لا تطلق ، ولو قال اذهبي طلقت ; لأنه منقطع عن اليمين ، وفي نوادر ابن سماعة عن محمد لا أكلمك يوما أو غدا حنث ; لأنه كلمه اليوم بقوله أو غدا . ا هـ .

وتعقبه في فتح القدير بأنه لا شك في عدم صحته ; لأنه كلام واحد فإنه إذا أراد أن يحلف على أحد الأمرين لا يقال إلا كذلك ، وعن هذا إذا قال لآخر إذا ابتدأتك بكلام فعبدي حر فالتقيا فسلم كل على الآخر معا لا يحنث وانحلت يمينه لعدم تصور أن يكلمه بعد ذلك ابتداء ، ولو قال لها إن ابتدأتك بكلام ، وقالت له هي كذلك لا يحنث إذا كلمها ; لأنه لم يبتدئها ، ولا يحنث بعد ذلك لعدم تصور ابتدائها ، ولو حلف لا يكلمه فسلم على قوم هو فيهم حنث إلا أن لا يقصده فيصدق ديانة لا قضاء .

أما لو قال السلام عليكم إلا على واحد صدق قضاء عندنا ، ولو سلم من الصلاة فإن كان إماما قيل إن كان المحلوف عليه عن يمينه لا يحنث ، وإن كان عن يساره حنث ; لأن الأولى واقعة في الصلاة فلا يحنث بها بخلاف الثانية ، وقيل لا يحنث بهما ; لأنهما في الصلاة من وجه ، وكذا عن محمد أنه لا يحنث بهما ، وهو الصحيح ، ولو دق عليه الباب فقال من حنث ، ولو ناداه المحلوف عليه فقال لبيك أو لبى حنث ، ولو كلمه الحالف بكلام لم يفهمه المحلوف عليه ففيه روايتان ، ولو أراد أن يأمر بشيء فقال : وقد مر المحلوف عليه يا حائط اسمع افعل كيت ، وكيت فسمعه المحلوف عليه ، وفهمه لا يحنث لما روي أن عبد الرحمن بن عوف حلف لا يكلم عثمان فكان إذا مر به يقول يا حائط اصنع كذا كذا ويا حائط كان كذا ، ولو قال لامرأته إن شكوت مني إلى أخيك فأنت طالق فجاء أخوها ، وعندها صبي لا يعقل فقالت المرأة إن زوجي فعل بي كذا ، وكذا وخاطبت الصبي بذلك حتى سمع أخوها لا تطلق ; لأنها ما شكت إليه ; لأنها لم تخاطبه ، ولو قال إن شكوت بين يدي أخيك قال في الكتاب هذا أشد يريد به أنه يخاف عليه أن يحنث والظاهر أنه لا يحنث ; لأنه يراد في العرف بالشكاية بين يديه الشكاية إليه كذا في الواقعات .

ولو حلف لا يتكلم فناول امرأته شيئا فقال ها حنث ، ولو جاءه كافر يريد الإسلام فبين صفة الإسلام مسمعا له ، ولا يوجه إليه لم يحنث ، وفي المحيط لو سبح الحالف للمحلوف عليه للسهو أو فتح عليه القراءة ، وهو مقتد لم يحنث وخارج الصلاة يحنث ، ولو كتب إليه كتابا أو أرسل إليه رسولا لا يحنث ; لأنه لا يسمى كلاما عرفا خلافا لمالك وأحمد واستدلالهم بقوله تعالى { وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحيا } إلى قوله { أو يرسل رسولا } أجيب عنه بأن مبنى الأيمان على العرف .

واعلم أن الكلام لا يكون إلا باللسان فلا يكون بالإشارة ، ولا بالكتابة ، والإخبار والإقرار والبشارة تكون بالكتابة لا بالإشارة والإيماء ، والإظهار والإفشاء والإعلام يكون بالإشارة أيضا فإن نوى في ذلك كله أي في الإظهار والإفشاء والإعلام والإخبار كونه [ ص: 362 ] بالكلام والكتابة دون الإشارة دين فيما بينه وبين الله تعالى ، ولو حلف لا يحدثه لا يحنث إلا أن يشافهه ، وكذا لا يكلمه يقتصر على المشافهة ، ولو قال لا أبشره فكتب إليه حنث ، وفي قوله إن أخبرتني أن فلانا قدم ونحوه يحنث بالصدق والكذب ، ولو قال بقدومه ونحوه فعلى الصدق خاصة ، وكذا إن أعلمتني ، وكذا البشارة ، ومثله إن كتبت إلي أن فلانا قدم فكتب قبل قدومه فوصل إليه الكتاب حنث سواء وصل إليه قبل قدومه أو بعده بخلاف إن كتبت إلي بقدومه لا يحنث حتى يكتب بقدومه الواقع وذكر هشام عن محمد سألني هارون الرشيد عمن حلف لا يكتب إلى فلان فأمر من يكتب إليه بإيماء أو إشارة هل يحنث فقلت : نعم يا أمير المؤمنين إذا كان مثلك قال السرخسي ، وهذا صحيح ; لأن السلطان لا يكتب بنفسه ، وإنما يأمر به ، ومن عادتهم الأمر بالإيماء والإشارة ، ولو حلف لا يقرأ كتاب فلان فنظر فيه حتى فهمه لا يحنث عند أبي يوسف ويحنث عند محمد ; لأن المقصود الوقوف على ما فيه لا عين التلفظ به ، ولو حلف لا يكلم فلانا ، وفلانا لم يحنث بكلام أحدهما إلا أن ينوي كلا منهما فيحنث بكلام أحدهما ، وعليه الفتوى ، وإن ذكر خلافه في بعض المواضع كذا في فتح القدير .

ولو قال لا أبلغك شيئا فكتب إليه حنث ، ولو قال لا أذكرك شيئا فهو على المواجهة ، ولا يحنث بالكتابة ، ولو قال لا أظهر سرك ، ولا أفشي أبدا فإن صرح إلى رجل واحد وذكره فقد أفشى سره ، وكذلك يحنث بالكتابة والرسالة إلى إنسان كذا في المحيط ، وفي الواقعات حلف أن لا يكذب فسأله إنسان عن أمر فحرك رأسه بالكذب لا يحنث ما لم يتكلم ; لأن الكذب تكلم بكلام هو كذب ابن بين زيد ، وعمرو حلف رجل لا يكلم ابن زيد وحلف الآخر لا يكلم ابن عمرو فكلما هذا الابن حنثا ; لأن كل واحد كلم ابن من سمى إن كلمت امرأة فعبدي حر فكلم صبية لم يحنث ، ولو قال إن تزوجت امرأة فتزوج صبية حنث ; لأن الصبا مانع من هجران الكلام فلا تراد الصبية في اليمين المعقودة على الكلام عادة ، ولا كذلك التزوج . ا هـ .

وفي الظهيرية حلف لا يكلم امرأته فدخل داره ، وليس فيها غيرها فقال من وضع هذا حنث ، ولو كان معها غيرها لا يحنث ، ولو قال ليت شعري من وضع هذا لا يحنث ; لأنه استفهم نفسه ، ولو قرأ الحالف كتابا على المحلوف عليه والمحلوف عليه يكتب إن قصد الحالف إملاء المحلوف عليه قالوا يخاف عليه الحنث . ا هـ .

وفي السراجية عن محمد بن الحسن أنه سأل حال صغره أبا حنيفة فيمن قال لآخر والله لا أكلمك ثلاث مرات فقال أبو حنيفة ثم ماذا فتبسم محمد رحمه الله ، وقال انظر حسنا يا شيخ فنكس أبو حنيفة ثم رفع رأسه فقال حنث مرتين فقال له محمد أحسنت فقال أبو حنيفة لا أدري أي الكلمتين أوجع لي قوله : انظر حسنا أو أحسنت . ا هـ .

وأما المسألة الثانية وهي ما إذا حلف لا يكلمه إلا بإذنه فأذن له ، ولم يعلم بالإذن حتى كلمه فلان الإذن مشتق من الأذان الذي هو الإعلام أو من الوقوع في الأذن ، وكل ذلك لا يتحقق إلا بالسماع ، وقال أبو يوسف لا يحنث ; لأن الإذن هو الإطلاق ، وأنه يتم بالإذن كالرضا قلنا الرضا من أعمال القلب ، ولا كذلك الإذن على ما مر ، ولا يخالفه ما في التتمة والفتاوى الصغرى إذا أذن المولى لعبده والعبد لا يعلم لا يصح الإذن حتى إذا علم يصير مأذونا ; لأن الإذن يثبت موقوفا على العلم فليس له قبل العلم حكم الإذن ، ولذا قال في الشامل إذا أذن لعبده فلم يعلم به أحد من الناس فتصرف العبد ثم علم بإذنه لم يجز تصرفه .


( قوله : أو اخرجي أو قومي ) معطوف على اذهبي مدخول الفاء فتكون الفاء داخلة عليه في كلام الحالف يدل عليه قوله الآتي : ولو قال اذهبي طلقت ; لأنه منقطع ( قوله : أو واذهبي ) قال الرملي تأمل فيه وراجع نسخة صحيحة فإن صاحب البزازية صرح فيها بالحنث فيه أقول : الذي في النسخ هكذا بلفظ لا تطلق ، وهكذا في الفتح ، وفي التتارخانية ، وكذلك إذا قال واذهبي إلا أن يريد بهذا كلاما مستأنفا ، وفي الذخيرة والمنتقى إن أراد بقوله فاذهبي طلاقا طلقت به واحدة وباليمين أخرى . ا هـ .

( قوله : فسلم كل على الآخر لا يحنث ) قال الرملي ، وفي البزازية يحنث فراجعه وتأمل . ا هـ .

أقول : الذي في الظهيرية أنه لا يحنث معللا بأن البداءة تنافي القران ، وفي تلخيص الجامع إن ابتدأتك بكلام أو تزوج أو كلمتك قبل تكلميني فتكالما أو تزوجا معا لم يحنث أبدا لاستحالة السبق مع القران ( قوله : ولو سلم من الصلاة إلخ ) قال في الفتح ، ولو سلم من الصلاة فإن كان إماما قيل إن كان المحلوف عليه عن يمينه لا يحنث ، وإن كان عن يساره يحنث ; لأن الأولى واقعة في الصلاة فلا يحنث بها بخلاف الثانية ، وقيل لا يحنث بها ; لأنها في الصلاة من وجه ، وكذا عن محمد لا يحنث فيهما ، وهو الصحيح والأصح ما في الشافي أنه يحنث إلا أن ينوي غيره ، وفي شرح القدوري فيما إذا كان إماما يحنث إذا نواه فعلى ذلك التفصيل ، وعند محمد ، وإن كان مقتديا لا يحنث مطلقا ; لأن سلام الإمام يخرج المقتدي عن الصلاة عنده خلافا لهما وبه قال مالك ( قوله : لا بالإشارة والإيماء ) عطف الإيماء على الإشارة عطف مرادف أو مغاير بأن يراد الإشارة باليد والإيماء بالرأس ( قوله : أي في الإظهار والإفشاء والإعلام والإخبار ) الإفشاء بالفاء من أفشى السر وذكره الإخبار مع هذه المذكورات مخالف لما قدمه من أنه يكون بالكتابة لا بالإشارة فإنه لو أخبر [ ص: 362 ] بالإشارة لم يحنث فما معنى كونه يصدق ديانة والعبارة المذكورة مأخوذة من الفتح ، ومثلها في البزازية تأمل ( قوله : وكذا إن أعلمتني ، وكذا البشارة ) هذا مخالف لما سيذكره المؤلف في الباب الآتي من أن البشارة لا بد أن تكون على الصدق بلا فرق بين أن يأتي بالباء أو لا ، وكذا الإعلام لا بد فيه من الصدق ; لأنه إثبات العلم والكذب لا يفيده بلا فرق بين أن يأتي فيه بالباء أو لا .

( قوله : لا يحنث عند أبي يوسف ويحنث عند محمد ) سيأتي في شرح قوله لا يتكلم أن الفتوى على قول أبي يوسف ( قوله : ولا يخالفه ما في التتمة والفتاوى الصغرى إلخ ) أي لا يخالف القول بالفرق بين الرضا والإذن ، وهو قولهما ، وهذا بناء على ما في بعض النسخ من قوله يصح الإذن بدون [ ص: 363 ] لا ، وفي بعضها لا يصح بإثباتها فيكون الضمير في لا يخالفه راجعا إلى قول أبي يوسف ويؤيد الأولى ما في النهر حيث قال ونوقض هذا بما في الصغرى لو أذن لعبده ، وهو لا يعلم صح الإذن ودفع بأنه قال حتى إذا علم صار مأذونا فدل على أنه ليس له قبل العلم حكم الإذن ، ولذا قال في الشامل إلخ

التالي السابق


الخدمات العلمية