صفحة جزء
[ ص: 204 ] فصل

خرج البخاري ومسلم :

52 52 - من حديث النعمان بن بشير قال : سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول : " الحلال بين والحرام بين ، وبينهما مشتبهات لا يعلمها كثير من الناس ; فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه ، ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام ، كالراعي يرعى حول الحمى يوشك أن يرتع فيه . ألا وإن لكل ملك حمى ، ألا وإن حمى الله في أرضه محارمه . ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله ، وإذا فسدت فسد الجسد كله ، ألا وهي القلب " .


هذا الحديث حديث عظيم ، وهو أحد الأحاديث التي مدار الدين عليها ، وقد قيل : إنه ثلث العلم أو ربعه .

وهو حديث صحيح متفق على صحته من رواية الشعبي عن النعمان بن بشير ، وفي ألفاظه بعض الزيادة والنقص ، والمعنى واحد أو متقارب .

وقد روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - من حديث ابن عمر ، وعمار بن ياسر ، وجابر ، وابن مسعود ، وابن عباس .

[ ص: 205 ] وحديث النعمان أصح أحاديث الباب .

ومعنى الحديث أن الله أنزل كتابه ، وبين فيه حلاله وحرامه ، وبين النبي - صلى الله عليه وسلم - لأمته ما خفي من دلالة الكتاب على التحليل والتحريم ، فصرح بتحريم أشياء غير مصرح بها في الكتاب وإن كانت عامتها مستنبطة من الكتاب وراجعة إليه .

فصار الحلال والحرام على قسمين :

أحدهما : ما هو واضح لا خفاء به على عموم الأمة ; لاستفاضته بينهم وانتشاره فيهم ، ولا يكاد يخفى إلا على من نشأ ببادية بعيدة عن دار الإسلام . فهذا هو الحلال البين ، والحرام البين .

ومنه ما تحليله وتحريمه لعينه ، كالطيبات من المطاعم والمشارب والملابس والمناكح ، والخبائث من ذلك كله .

ومنه ما تحليله وتحريمه من جهة كسبه ، كالبيع والنكاح والهبة والهدية ، وكالربا والقمار والزنا والسرقة والغصب والخيانة وغير ذلك .

القسم الثاني : ما لم ينتشر تحريمه وتحليله في عموم الأمة ; لخفاء دلالة النص عليه ، ووقوع تنازع العلماء فيه ونحو ذلك ، فيشتبه على كثير من الناس هل هو من الحلال ؟ أو من الحرام ؟

وأما خواص أهل العلم الراسخون فيه فلا يشتبه عليهم ، بل عندهم من العلم الذي اختصوا به عن أكثر الناس ما يستدلون به على حل ذلك أو حرمته ، فهؤلاء لا يكون ذلك مشتبها عليهم لوضوح حكمه عندهم .

وأما من لم يصل إلى ما وصلوا إليه فهو مشتبه عليه ، فهذا الذي اشتبه عليه إن اتقى ما اشتبه عليه حله وحرمه واجتنبه فقد استبرأ لدينه وعرضه ، بمعنى أنه طلب لهما البراءة مما يشينهما .

[ ص: 206 ] وهذا معنى الحديث الآخر " دع ما يريبك إلى ما لا يريبك " .

وهذا هو الورع ، وبه يحصل كمال التقوى كما في الحديث الذي خرجه الترمذي وابن ماجه : " لا يبلغ العبد أن يكون من المتقين حتى يدع ما لا بأس به حذرا مما به بأس .

وأنواع الشبه تختلف بقوة قربها من الحرام وبعدها عنه .

وقد يقع الاشتباه في الشيء من جهة اشتباه وجود أسباب حله وحرمته ، كما يشك الإنسان فيه هل هو ملكه أم لا ؟ وما يشك في زوال ملكه عنه .

وهذا قد يرجع فيه إلى الأصل ، فيبني عليه ، وقد يرجع في كثير منه إلى الظاهر إذا قوي على الأصل ، ويقع التردد عند تساوي الأمرين .

وقد يقع الاشتباه لاختلاط الحلال بالحرام في الأطعمة والأشربة من المائعات ، وغيرها من المكيلات والموزونات والنقود .

فكل هذه الأنواع من كان عنده فيها علم يدله على حكم الله ورسوله فيها ، فتبعه - فهو المصيب ، ومن اشتبهت عليه ; فإن اتقاها واجتنبها فقد فعل الأولى واستبرأ لدينه وعرضه ، فسلم من تبعتها في الدنيا والآخرة . ومن اشتبهت عليه ، فلم يتقها بل وقع فيها - فمثله كمثل راع يرعى حول الحمى ، فإنه يوشك أن يواقعه .

وفي رواية " ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام كراع يرعى حول الحمى يوشك أن يرتع فيه " .

[ ص: 207 ] ومعنى هذا أن من وقع في الشبهات كان جديرا بأن يقع في الحرام بالتدريج ; فإنه يسامح نفسه في الوقوع في الأمور المشتبهة ، فتدعوه نفسه إلى مواقعة الحرام بعده . ولهذا جاء في رواية " ومن خالط الريبة يوشك أن يجسر " ، يعني : يجسر على الوقوع في الحرام الذي لا ريب فيه .

ومن هنا كان السلف يحبون أن يجعلوا بينهم وبين الحرام حاجزا من الحلال يكون وقاية بينهم وبين الحرام ، فإن اضطروا واقعوا ذلك الحلال ولم يتعدوه .

وأما من وقع في المشتبه فإنه لا يبقى له إلا الوقوع في الحرام المحض ، فيوشك أن يتجرأ عليه ويجسر .

وقوله : " ألا وإن لكل ملك حمى ، ألا وإن حمى الله محارمه " . وفي رواية : " ألا وإن حمى الله في الأرض محارمه " - ضرب مثلا لمحارم الله بالحمى الذي يحميه الملك من الأرض ، ويمنع الناس من الدخول إليه ; فمن تباعد عنه فقد توقى سخط الملك وعقوبته ، ومن رعى بقرب الحمى فقد تعرض لمساخط الملك وعقوبته ; لأنه ربما دعته نفسه إلى الولوج في أطراف الحمى .

وفي هذا دليل على سد الذرائع والوسائل إلى المحرمات ، كما تحرم الخلوة بالأجنبية ، وكما يحرم شرب قليل ما يسكر كثيره ، وكما ينهى عن الصلاة بعد الصبح وبعد العصر خشية الصلاة عند طلوع الشمس وعند غروبها . وكما يمنع من تحرك القبلة شهوته في صيامه من القبلة ، وكما يؤمر من يباشر امرأته في حال حيضها أن يباشرها من فوق إزار يستر ما بين سرتها وركبتها .

[ ص: 208 ] وكما يضمن من سيب دابته نهارا بقرب زرع غيره فتفسده ، أو أرسل كلبه للصيد في الحل بقرب الحرم ، فدخل الحرم فصاد فيه ; فإنه يضمن في الصورتين على الأصح .

وفي الحديث دليل على صحة القياس وتمثيل الأحكام وتشبيهها .

وفيه دليل على أن المصيب من المجتهدين في مسائل الاشتباه واحد ; لأنه جعل المشتبهات لا يعلمها كثير من الناس مع كون بعضهم في طلب حكمها مجتهدين ، فدل على أن من يعلمها هو المصيب العالم بها دون غيره ممن هي مشتبهة عليه ، وإن كان قد يجتهد في طلب حكمها ويصير إلى ما أداه إليه اجتهاده وطلبه .

ثم ذكر النبي - صلى الله عليه وسلم - كلمة جامعة لصلاح حركات ابن آدم وفسادها ، وأن ذلك كله بحسب صلاح القلب وفساده ; فإذا صلح القلب صلحت إرادته وصلحت جميع الجوارح ، فلم تنبعث إلا إلى طاعة الله واجتناب سخطه ، فقنعت بالحلال عن الحرام . وإذا فسد القلب فسدت إرادته ، ففسدت الجوارح كلها ، وانبعثت في معاصي الله عز وجل وما فيه سخطه ولم تقنع بالحلال ، بل أسرعت في الحرام بحسب هوى القلب وميله عن الحق .

فالقلب الصالح هو القلب السليم الذي لا ينفع يوم القيامة عند الله غيره ، وهو أن يكون سليما عن جميع ما يكرهه الله من إرادة ما يكرهه الله ويسخطه ، ولا يكون فيه سوى محبة الله وإرادته ، ومحبته ما يحبه الله وإرادة ذلك ، وكراهة ما يكرهه الله والنفور عنه .

والقلب الفاسد هو القلب الذي فيه الميل إلى الأهواء المضلة والشهوات المحرمة ، وليس فيه من خشية الله ما يكف الجوارح عن اتباع هوى النفس .

[ ص: 209 ] فالقلب ملك الجوارح وسلطانها ، والجوارح جنوده ورعيته المطيعة له المنقادة لأوامره ; فإذا صلح الملك صلحت رعاياه وجنوده المطيعة له المنقادة لأوامره ، وإذا فسد الملك فسدت جنوده ورعاياه المطيعة له المنقادة لأوامره ونواهيه .

وقد بوب البخاري على هذا الحديث " باب فضل من استبرأ لدينه " .

والمقصود من إدخاله هذا الحديث في هذا الباب أن من اتقى الأمور المشتبهة عليه التي لا تتبين له أحلال هي أو حرام - فإنه مستبرئ لدينه ، بمعنى أنه طالب له البراءة والنزاهة مما يدنسه ويشينه .

ويلزم من ذلك أن من لم يتق الشبهات فهو معرض دينه للدنس والشين والقدح ، فصار - بهذا الاعتبار - الدين تارة يكون نقيا نزها بريئا ، وتارة يكون دنسا متلوثا .

والدين يوصف تارة بالقوة والصلابة وتارة بالرقة والضعف ، كما يوصف بالنقص تارة وبالكمال تارة أخرى . ويوصف الإسلام تارة بأنه حسن وتارة بأنه غير حسن ، والإيمان يوصف بالقوة تارة وبالضعف أخرى .

هذا كله إذا أخذ الدين والإسلام والإيمان بالنسبة إلى شخص شخص ، فأما إذا نظر إليه بالنسبة إلى نفسه من حيث هو هو فإنه يوصف بالنزاهة ; قال أبو هريرة : الإيمان نزه ; فإن زنا فارقه الإيمان ، فإن لام نفسه وراجع راجعه الإيمان .

خرجه الإمام أحمد في كتاب " الإيمان "

ومن كلام يحيى بن معاذ : الإسلام نقي ، فلا تدنسه بآثامك .

التالي السابق


الخدمات العلمية