صفحة جزء
16 - باب

نقض المرأة شعرها عند غسل المحيض

خرج فيه :

311 317 - حديث هشام ، عن أبيه ، عن عائشة ، قالت : خرجنا موافين لهلال ذي الحجة - فذكرت الحديث .

وفيه : وكنت أنا ممن أهل بعمرة ، فأدركني يوم عرفة وأنا حائض ، فشكوت إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، فقال : ( دعي عمرتك ، وانقضي رأسك ، وامتشطي ، وأهلي بحج ) ، ففعلت
- وذكرت بقية الحديث .


[ ص: 476 ] [هذا الحديث] قد استنبط البخاري - رحمه الله - منه حكمين ، عقد لهما بابين :

أحدهما : امتشاط المرأة عند غسلها من المحيض .

والثاني : نقضها شعرها عند غسلها من المحيض .

وهذا الحديث لا دلالة فيه على واحد من الأمرين ; فإن غسل عائشة الذي أمرها النبي صلى الله عليه وسلم به لم يكن من الحيض ، بل كانت حائضا ، وحيضها حينئذ موجود ، فإنه لو كان قد انقطع حيضها لطافت للعمرة ، ولم تحتج إلى هذا السؤال . ولكن أمرها أن تغتسل في حال حيضها وتهل بالحج ، فهو غسل للإحرام في حال الحيض ، كما أمر أسماء بنت عميس لما نفست بذي الحليفة أن تغتسل وتهل .

وقد ذكر ابن ماجه في ( كتابه ) : ( باب : الحائض كيف تغتسل ) ، ثم قال : حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة وعلي بن محمد ، قالا : ثنا وكيع ، عن هشام بن عروة ، عن أبيه ، عن عائشة - أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لها وكانت حائضا : ( انقضي شعرك ، واغتسلي ) .

قال علي في حديثه : ( انقضي رأسك ) .

وهذا أيضا يوهم أنه قال لها ذلك في غسلها من الحيض ، وهذا مختصر من حديث عائشة الذي خرجه البخاري .

وقد ذكر هذا الحديث المختصر للإمام أحمد ، عن وكيع ، فأنكره . قيل له : كأنه اختصره من حديث الحج ؟ قال : ويحل له أن يختصر ؟ ، نقله عنه المروذي .

ونقل عنه إسحاق بن هانئ أنه قال : هذا باطل .

[ ص: 477 ] قال أبو بكر الخلال : إنما أنكر أحمد مثل هذا الاختصار الذي يخل بالمعنى ، لا أصل اختصار الحديث . قال : وابن أبي شيبة في مصنفاته يختصر مثل هذا الاختصار المخل بالمعنى . هذا معنى ما قاله الخلال .

وقد تبين برواية ابن ماجه أن الطنافسي رواه عن وكيع ، كما رواه ابن أبي شيبة عنه ، ورواه أيضا إبراهيم بن مسلم الخوارزمي في ( كتاب الطهور ) له عن وكيع أيضا ، فلعل وكيعا اختصره . والله أعلم .

وقد يحمل مراد البخاري - رحمه الله - على وجه صحيح ، وهو أن النبي صلى الله عليه وسلم إنما أمر عائشة بنقض شعرها وامتشاطها عند الغسل للإحرام ; لأن غسل الإحرام لا يتكرر ، فلا يشق نقض الشعر فيه ، وغسل الحيض والنفاس يوجد فيه هذا المعنى ، بخلاف غسل الجنابة ; فإنه يتكرر فيشق النقض فيه ; فلذلك لم يؤمر فيه بنقض الشعر .

وقد تكلم بعض العلماء في لفظة : ( أمر النبي صلى الله عليه وسلم عائشة بنقض رأسها وامتشاطها ) ، وقالوا : هي وهم من هشام . وكذلك قالوا في روايته أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لها : ( دعي العمرة ) . ولكن قد رواهما أيضا الزهري ، عن عروة .

ولهشام في هذا الحديث وهم آخر ، وهو أنه قال : ( ولم يكن هدي ولا صيام ولا صدقة ) ، وقد ثبت عن عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم ذبح عن نسائه البقر ; فإنها إن كانت قد صارت قارنة فالقارن عليه هدي ، وإن كانت قد رفضت عمرتها لزمها دم لذلك ، عند من يقول به .

وفي ( صحيح مسلم ) عن جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر عائشة أن تغتسل وتهل بالحج .

[ ص: 478 ] ولم يذكر نقض الشعر ولا تسريحه ; فإن عائشة كانت محرمة بعمرة كما رواه عروة عنها . وإن كان القاسم قد روى عنها أنها كانت محرمة بحجة ، إلا أن رواية عروة أصح ، كذا قاله الإمام أحمد وغيره .

وقد قيل : إنها أحرمت من الميقات بحجة ، ثم فسخت ذلك إلى عمرة لما أمروا بالفسخ ، ثم حاضت بعد ذلك قبل دخول مكة .

وفي هذا نظر ; فإنه روي ما يدل على أنها كانت أحرمت بعمرة من الميقات ، والحائض إذا كانت محرمة بعمرة ، ولم تقدر على طواف العمرة قبل يوم عرفة ، وخشيت فوات إدراك الحج - فإنها تحرم بالحج مع العمرة ، وتبقى قارنة عند أكثر العلماء ، كمالك والشافعي وأحمد ، ويكفيها عندهم طواف واحد وسعي واحد لما بعد التعريف للحج والعمرة .

وقد روى ذلك جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم في قصة عائشة صريحا . خرجه مسلم .

وتأولوا قول النبي صلى الله عليه وسلم لعائشة : ( دعي عمرتك ) - على أنه أراد : اتركيها بحالها ، وأدخلي عليها إحرام الحج .

وقال أحمد : من رواه ( انقضي عمرتك ) - فقد أخطأ ، ورواه بالمعنى الذي فهمه .

وقال أبو حنيفة والكوفيون : ترفض العمرة ، ثم تحرم بالحج ، ثم تقضي العمرة بعد الحج ، وتأولوا حديث عائشة على ذلك .

وقالت طائفة : إنما أمرها أن تنقض رأسها وتمتشط ; لأن المعتمر إذا دخل الحرم حل له كل شيء إلا النساء ، كالحاج إذا رمى الجمرة .

وقد روي هذا عن عائشة ، ولعلها أخذته من روايتها هذه ، وهو قول عائشة [ ص: 479 ] بنت طلحة ، وعطاء .

وقد أخذ الإمام أحمد بذلك في رواية الميموني عنه ، وهي رواية غريبة عنه .

ووهم الخطابي في هذا الحديث حيث قال : أشبه الأمور ما ذهب إليه أحمد بن حنبل ، وهو أنه فسخ عليها عمرتها ; لأن مذهبه أن فسخ الحج عام غير خاص .

وهذا وهم على أحمد ; فإن أحمد يرى جواز فسخ الحج إلى العمرة قبل أن يقف بعرفة ، وأما فسخ العمرة إلى الحج فلا يقول به أحمد ، وإنما يقوله الكوفيون في الحائض إذا كانت معتمرة وخافت فوات الحج ، وتأولوا حديث عائشة عليه .

والعجب ممن جوز فسخ العمرة إلى الحج بتأويل محتمل ، ومنع من فسخ الحج إلى العمرة ، مع تواتر النصوص الصريحة الصحيحة بذلك التي لا تقبل التأويل بمجرد دعوى النسخ أو الاختصاص . ولم يثبت حديث واحد يدل على شيء من ذلك ، وسيأتي القول في هذا مستوفى في موضعه من ( الحج ) إن شاء الله تعالى .

فإن المقصود هنا هو نقض الشعر وتسريحه عند الغسل من الحيض ، وممن أمر به في الحيض دون الجنابة طاوس والحسن ، وهو قول وكيع وأحمد .

واختلف أصحابنا : هل ذلك واجب ؟ أو مستحب ؟ على وجهين ، وظاهر كلام الخرقي وجوبه .

وقد ورد حديث صريح بالنقض في غسل الحيض دون الجنابة من رواية سلمة بن صبيح ، عن حماد بن سلمة ، عن ثابت ، عن أنس ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( إذا اغتسلت المرأة من حيضها نقضت شعرها ، وغسلته [ ص: 480 ] بخطمي وأشنان ، وإذا اغتسلت من جنابة صبت على رأسها الماء وعصرته ) .

خرجه الطبراني وأبو عبد الله محمد بن عبد الواحد المقدسي في ( صحيحه ) المسمى ( بالمختارة ) .

وخرجه الدارقطني في ( الأفراد ) وعنده : ( مسلم بن صبيح ) ، وقال : تفرد به عن حماد .

وكذا ذكره أبو بكر الخطيب ، وقال : هو مسلم بن صبيح ، بصري يكنى أبا عثمان ، وكذا ذكره ابن ماكولا وغيره ، ومع هذا فليس بالمشهور .

وأما ما نقله مهنا عن أحمد أن المرأة لا تنقض شعرها من الجنابة ، بل تفيض عليه الماء ; لحديث أم سلمة عن النبي صلى الله عليه وسلم ، والحائض تنقضه .

قال مهنا : قلت له : كيف تنقضه من الحيضة ، ولا تنقضه من الجنابة ؟ فقال : حديث أسماء عن النبي صلى الله عليه وسلم ، قال : ( تنقضه ) . قلت : من أسماء ؟ قال : أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما .

فهذا لعله وهم من مهنا ، أو ممن روى عنه ، ولا يعرف لأسماء بنت أبي بكر في هذا الباب حديث بالكلية ، إنما حديثها في غسل دم الحيض من الثوب ، وقد تقدم .

ولكن في حديث عائشة أن أسماء سألت النبي صلى الله عليه وسلم عن غسل الحيض ، وليس فيه أنه أمرها بالنقض ، بل أمرها بدلكه دلكا شديدا حتى يبلغ شئون رأسها ، ولم يأمرها بنقضه .

وفي الحديث أنها سألته عن غسل الجنابة ، فأمرها بمثل ذلك ، غير أنه [ ص: 481 ] لم يقل : ( دلكا شديدا ) . وقد خرجه مسلم كما تقدم .

وأسماء هذه وقع في ( صحيح مسلم ) أنها ( بنت شكل ) ، وذكر أبو بكر الخطيب أنها أسماء بنت يزيد بن السكن ، وخرج الحديث من رواية يوسف القاضي ، من طريق شعبة ، عن إبراهيم بن المهاجر - بالإسناد الذي خرجه مسلم ، وفيه أن أسماء بنت يزيد سألت النبي صلى الله عليه وسلم عن غسل الحيض ، فذكره .

وأكثر العلماء على التسوية بين غسل الجنابة والحيض ، وأنه لا ينقض الشعر في واحد منهما .

وفي ( صحيح مسلم ) من حديث أم سلمة ، قالت : قلت : يا رسول الله ، إني امرأة أشد ضفر رأسي ، أفأنقضه للحيضة والجنابة ؟ قال : ( لا ) .

وهذه اللفظة - أعني : لفظة ( الحيضة ) - تفرد بها عبد الرزاق عن الثوري ، وكأنها غير محفوظة ; فقد رواه غير واحد عن الثوري ، فلم يذكروها .

وقد رويت أيضا هذه اللفظة من حديث سالم الخياط ، عن الحسن ، عن أم سلمة . وسالم ضعيف ، والحسن لم يسمع من أم سلمة .

وروى أبو بكر الحنفي ، عن سفيان ، عن أبي الزبير ، عن جابر - مرفوعا : ( لا يضر المرأة الحائض والجنب أن لا تنقض شعرها إذا أصاب الماء شئون رأسها ) . تفرد به الحنفي ، ورفعه منكر .

وقد روي عن أبي الزبير ، عن جابر موقوفا ، وهو أصح .

[ ص: 482 ] وروى عبيد الله بن عمر ، عن نافع ، قال : كن نساء ابن عمر يغتسلن من الحيض والجنابة ، فما ينقضن شعورهن ، ولكن يبلغن بالماء أصول الشعر .

هذا كله إذا وصل الماء إلى غضون الشعر المضفور ، فإن لم يصل بدونه وجب نقضه عند الأكثرين . وهو قول مالك والشافعي ، والمشهور عند أصحابنا ، ورواية عن أبي حنيفة . وهو قول أبي خيثمة ، وأبي بكر بن أبي شيبة ، وسليمان بن داود الهاشمي ، ويحيى بن يحيى ، والجوزجاني ، وغيرهم من فقهاء الحديث . واستدلوا بالأحاديث الواردة في الأمر بحل الشعر ، وقد تكلم في أسانيدها .

وقالت طائفة : لا يجب ذلك ، وحكي عن مالك . وهو قول طائفة من أصحابنا ، منهم صاحب ( المغني ) ، وذكر أنه ظاهر كلام الخرقي ، وأن الشعر حكمه حكم المنفصل عن الجسد ، لا حكم المتصل به .

ولأصحابنا وجه أنه يفرق بين غسل الحيض والجنابة ، فيجب غسل الشعر في غسل الحيض خاصة .

والصحيح من مذهب الحنفية أن الشعر إذا كان مضفورا لا يلزم المرأة نقضه في جنابة ولا حيض ; لمشقة نقضه ، بخلاف الرجل فإنه يلزمه نقضه ، وإن كان محلولا وجب غسله وإيصال الماء إلى بواطنه كشعر اللحية .

وخرج الطبراني من رواية عمر بن هارون ، عن جعفر بن محمد ، عن أبيه ، عن سالم خادم النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( إن أزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم كن يجعلن رءوسهن أربع قرون ، فإذا اغتسلن جمعنهن على أوساط رءوسهن ) .

[ ص: 483 ] عمر بن هارون ضعيف .

وفي أمر النبي صلى الله عليه وسلم لعائشة بالغسل للإحرام وهي حائض دليل على أن الأغسال المستحبة تفعل مع الحيض كأغسال الحج المستحبة ، ويدخل ذلك في قوله لها : ( اصنعي ما يصنع الحاج ) .

ولو كان على الحائض غسل جنابة ، إما قبل الحيض أو في حال الحيض - فهل يستحب لها الاغتسال في حال حيضها للجنابة ؟ فيه روايتان عن أحمد .

واختلف السلف في ذلك ; فقال النخعي وغيره : تغتسل . وقال عطاء : لا تغتسل ; الحيض أكبر .

قال أحمد : ثم رجع عن ذلك ، وقال : تغتسل .

وأما الوضوء فلا يشرع للحائض في حال حيضها ما لم ينقطع دمها ، فتصير كالجنب . ونص أحمد على أنها لو توضأت وهي حائض لم يجز لها الجلوس في المسجد بخلاف الجنب ، وفيه وجه : يجوز إذا أمنت تلويثه .

ونص الشافعي على أنه لا يشرع لها الوضوء عند النوم والأكل ، وهو قول أصحابنا ، واختلف أصحاب مالك في ذلك .

وأما وضوؤها عند كل صلاة ، وجلوسها قدر الصلاة للذكر - ففيه خلاف نذكره في موضع آخر إن شاء الله تعالى .

التالي السابق


الخدمات العلمية