صفحة جزء
[ ص: 45 ] فصل

خرج البخاري ومسلم :

16 16 - من حديث أبي قلابة ، عن أنس ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، قال : ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإيمان : أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما ، وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله ، وأن يكره أن يعود في الكفر كما يكره أن يقذف في النار " .


وقد خرجه مسلم ، وعنده في رواية : " فقد وجد طعم الإيمان " ، وجاء في رواية : " وجد طعم الإيمان وحلاوته " .

فهذه الثلاث خصال من أعلى خصال الإيمان ، فمن كملها فقد وجد حلاوة الإيمان وطعم طعمه ; فالإيمان له حلاوة وطعم تذاق بالقلوب كما تذاق حلاوة الطعام والشراب بالفم ; فإن الإيمان هو غذاء القلوب وقوتها كما أن الطعام والشراب غذاء الأبدان وقوتها .

وكما أن الجسد لا يجد حلاوة الطعام والشراب إلا عند صحته ، فإذا سقم لم يجد حلاوة ما ينفعه من ذلك ، بل قد يستحلي ما يضره وما ليس فيه حلاوة ; لغلبة السقم عليه . فكذلك القلب إنما يجد حلاوة الإيمان إذا سلم من أسقامه وآفاته ، فإذا سلم من مرض الأهواء المضلة والشهوات المحرمة وجد حلاوة الإيمان حينئذ ، ومتى مرض وسقم لم يجد حلاوة الإيمان ، بل يستحلي ما فيه هلاكه من الأهواء والمعاصي .

[ ص: 46 ] ومن هنا قال صلى الله عليه وسلم : " لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن " ; لأنه لو كمل إيمانه لوجد حلاوة الإيمان ، فاستغنى بها عن استحلاء المعاصي .

سئل وهيب بن الورد : هل يجد طعم الإيمان من يعصي الله ؟ قال : لا ، ولا من هم بالمعصية .

وقال ذو النون : كما لا يجد الجسد لذة الطعام عند سقمه ، كذلك لا يجد القلب حلاوة العبادة مع الذنوب .

فمن جمع هذه الخصال الثلاثة المذكورة في هذا الحديث فقد وجد حلاوة الإيمان وطعم طعمه :

أحدها : أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما .

ومحبة الله تنشأ تارة من معرفته ، وكمال معرفته تحصل من معرفة أسمائه وصفاته وأفعاله الباهرة ، والتفكر في مصنوعاته وما فيها من الإتقان والحكم والعجائب ; فإن ذلك كله يدل على كماله وقدرته وحكمته وعلمه ورحمته .

وتارة تنشأ من مطالعة النعم ، وفي حديث ابن عباس المرفوع : " أحبوا الله لما يغذوكم من نعمه ، وأحبوني لحب الله " .

خرجه الترمذي في بعض نسخ كتابه .

وقال بعض السلف : من عرف الله أحبه ، ومن أحبه أطاعه .

[ ص: 47 ] فإن المحبة تقتضي الطاعة كما قال بعض العارفين : المحبة الموافقة في جميع الأحوال ، ثم أنشد :


ولو قلت لي مت مت سمعا وطاعة وقلت لداعي الموت أهلا ومرحبا



ومحبة الله على درجتين :

إحداهما : فرض ، وهي المحبة المقتضية لفعل أوامره الواجبة ، والانتهاء عن زواجره المحرمة ، والصبر على مقدوراته المؤلمة . فهذا القدر لا بد منه في محبة الله ، ومن لم تكن محبته على هذا الوجه فهو كاذب في دعوى محبة الله ، كما قال بعض العارفين : من ادعى محبة الله ، ولم يحفظ حدوده - فهو كاذب .

فمن وقع في ارتكاب شيء من المحرمات ، أو أخل بشيء من فعل الواجبات - فلتقصيره في محبة الله ، حيث قدم محبة نفسه وهواه على محبة الله ; فإن محبة الله لو كملت لمنعت من الوقوع فيما يكرهه .

وإنما يحصل الوقوع فيما يكرهه الله لنقص محبته الواجبة في القلوب ، وتقديم هوى النفس على محبته ، وبذلك ينقص الإيمان كما قال صلى الله عليه وسلم : " لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن " الحديث .

والدرجة الثانية من المحبة ، وهي فضل مستحب - أن ترتقي المحبة من ذلك إلى التقرب بنوافل الطاعات والانكفاف عن دقائق الشبهات والمكروهات ، والرضا بالأقضية المؤلمات .

[ ص: 48 ] كما قال عامر بن عبد قيس : أحببت الله حبا هون علي كل مصيبة ، ورضاني بكل بلية ، فما أبالي مع حبي إياه على ما أصبحت ، ولا على ما أمسيت .

وقال عمر بن عبد العزيز : أصبحت وما لي سرور إلا في مواقع القضاء والقدر ! ولما مات ولده الصالح قال : إن الله أحب قبضه ، وأعوذ بالله أن تكون لي محبة تخالف محبة الله !

وقال بعض التابعين في مرضه : أحبه إلي أحبه إليه .

وأما محبة الرسول فتنشأ عن معرفته ومعرفة كماله وأوصافه ، وعظم ما جاء به . وينشأ ذلك في معرفة مرسله وعظمته كما سبق ; فإن محبة الله لا تتم إلا بطاعته ، ولا سبيل إلى طاعته إلا بمتابعة رسوله ، كما قال تعالى : قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله

ومحبة الرسول على درجتين أيضا :

إحداهما : فرض ، وهي ما اقتضى طاعته في امتثال ما أمر به من الواجبات ، والانتهاء عما نهى عنه من المحرمات ، وتصديقه فيما أخبر به من المخبرات والرضا بذلك . وأن لا يجد في نفسه حرجا مما جاء به ، ويسلم له تسليما ، وأن لا يتلقى الهدى من غير مشكاته ، ولا يطلب شيئا من الخير إلا ما جاء به .

الدرجة الثانية : فضل مندوب إليه ، وهي ما ارتقى بعد ذلك إلى اتباع سنته وآدابه وأخلاقه ، والاقتداء به في هديه وسمته وحسن معاشرته لأهله وإخوانه ، وفي التخلق بأخلاقه الظاهرة في الزهد في الدنيا ، والرغبة في الآخرة ، وفي جوده وإيثاره وصفحه وحلمه واحتماله وتواضعه .

وفي أخلاقه الباطنة ، من كمال خشيته لله ومحبته له وشوقه إلى لقائه ، [ ص: 49 ] ورضاه بقضائه ، وتعلق قلبه به دائما ، وصدق الالتجاء إليه ، والتوكل والاعتماد عليه ، وقطع تعلق القلب بالأسباب كلها ، ودوام لهج القلب واللسان بذكره ، والأنس به والتنعم بالخلوة بمناجاته ودعائه ، وتلاوة كتابه بالتدبر والتفكر .

وفي الجملة : فكان خلقه - صلى الله عليه وسلم - القرآن ، يرضى لرضاه ويسخط لسخطه ، فأكمل الخلق من حقق متابعته وتصديقه قولا وعملا وحالا ، وهم الصديقون من أمته الذين رأسهم أبو بكر خليفته من بعده ، وهم أعلى أهل الجنة درجة بعد النبيين كما قال صلى الله عليه وسلم : " إن أهل الجنة ليتراءون أهل الغرف من فوقهم ، كما تتراءون الكوكب الدري الغابر من الأفق من المشرق إلى المغرب لتفاضل ما بينهم " . قالوا " : يا رسول الله ، تلك منازل الأنبياء ما يبلغها غيرهم ! قال : " إي والذي نفسي بيده ، رجال آمنوا بالله وصدقوا المرسلين " .

خرجاه في " الصحيحين " من حديث أبي سعيد .

الخصلة الثانية :

أن يحب المرء لا يحبه إلا لله .

والحب في الله من أصول الإيمان وأعلى درجاته .

وفي " المسند " عن معاذ بن أنس الجهني أن النبي - صلى الله عليه وسلم - سئل عن أفضل الإيمان ، فقال : أن تحب لله ، وتبغض لله ، وتعمل لسانك في ذكر الله " .

وفيه أيضا عن عمرو بن الجموح ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم قال : لا يحق [ ص: 50 ] العبد حق صريح الإيمان حتى يحب لله ، ويبغض لله . فإذا أحب لله ، وأبغض لله - فقد استحق الولاية من الله " .

وفيه : عن البراء عن النبي صلى الله عليه وسلم ، قال : " أوثق عرى الإيمان أن تحب في الله ، وتبغض في الله " .

وخرج الإمام أحمد ، وأبو داود عن أبي ذر ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، قال : " أفضل الأعمال الحب في الله ، والبغض في الله " .

ومن حديث أبي أمامة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، قال : " من أحب لله ، وأبغض لله ، وأعطى لله ، ومنع لله - فقد استكمل الإيمان " .

وخرجه أحمد والترمذي من حديث معاذ بن أنس ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، وزاد أحمد في رواية " وأنكح لله " .

وإنما كانت هذه الخصلة تالية لما قبلها ; لأن من كان الله ورسوله أحب إليه مما سواهما فقد صار حبه كله لله ، ويلزم من ذلك أن يكون بغضه لله ، وموالاته له ومعاداته له ، وأن لا تبقى له بقية من نفسه وهواه .

[ ص: 51 ] وذلك يستلزم محبة ما يحبه الله من الأقوال والأعمال ، وكراهة ما يكرهه من ذلك ، وكذلك من الأشخاص . ويلزم من ذلك معاملتهم بمقتضى الحب والبغض ; فمن أحبه الله أكرمه وعامله بالعدل والفضل ، ومن أبغضه الله أهانه بالعدل .

ولهذا وصف الله المحبين له بأنهم: أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين يجاهدون في سبيل الله ولا يخافون لومة لائم

وكان من دعاء النبي صلى الله عليه وسلم : " أسألك حبك ، وحب من يحبك ، وحب عمل يبلغني إلى حبك " .

فلا تتم محبة الله ورسوله إلا بمحبة أوليائه وموالاتهم ، وبغض أعدائه ومعاداتهم .

وسئل بعض العارفين : بم تنال المحبة ؟ قال : بموالاة أولياء الله ، ومعاداة أعدائه ، وأصله الموافقة .

الخصلة الثالثة :

أن يكره الرجوع إلى الكفر كما يكره الرجوع إلى النار ; فإن علامة محبة الله ورسوله محبة ما يحبه الله ورسوله ، وكراهة ما يكرهه الله ورسوله كما سبق . فإذا رسخ الإيمان في القلب ، وتحقق به ، ووجد حلاوته وطعمه - أحبه ، وأحب ثباته ودوامه ، والزيادة منه . وكره مفارقته ، وكان كراهته لمفارقته أعظم عنده من كراهة الإلقاء في النار . قال الله تعالى ولكن الله حبب إليكم الإيمان وزينه في قلوبكم وكره إليكم الكفر والفسوق والعصيان أولئك هم الراشدون

[ ص: 52 ] والمؤمن يحب الإيمان أشد من حب الماء البارد في شدة الحر للظمآن ، ويكره الخروج منه أشد من كراهة التحريق بالنيران ، كما في " المسند " عن أبي رزين العقيلي أنه سأل النبي - صلى الله عليه وسلم - عن الإيمان ، فقال : " أن تشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأن محمدا عبده ورسوله ، وأن يكون الله ورسوله أحب إليك مما سواهما ، وأن تحرق في النار أحب إليك من أن تشرك بالله ، وأن تحب غير ذي نسب لا تحبه إلا لله . فإذا كنت كذلك فقد دخل حب الإيمان في قلبك كما دخل حب الماء للظمآن في اليوم القائظ " .

وفي " المسند " أيضا أن النبي - صلى الله عليه وسلم - وصى معاذ بن جبل فقال له فيما وصاه به : " لا تشرك بالله شيئا وإن قطعت وحرقت " .

وفي " سنن ابن ماجه " أن النبي - صلى الله عليه وسلم - وصى أبا الدرداء وغيره أيضا .

وقد أخبر الله عن أصحاب الأخدود بما أخبر به ، وقد كانوا فتنوا المؤمنين والمؤمنات وحرقوهم بالنار ليرتدوا عن الإيمان ، فاختاروا الإيمان على النار .

وفي " الصحيح " عن النبي صلى الله عليه وسلم " أن امرأة منهم أتي بها ومعها صبي لها يرضع ، فكأنها تقاعست أن تلقي نفسها في النار من أجل الصبي ، فقال لها الصبي : يا أمه ، اصبري ; فإنك على الحق " .

وألقي أبو مسلم الخولاني في النار على امتناعه أن يشهد للأسود بالنبوة ، [ ص: 53 ] فصارت عليه بردا وسلاما .

وعرض على عبد الله بن حذافة أن يتنصر فأبى ، فأمر ملك الروم بإلقائه في قدر عظيمة مملوءة ماء تغلي عليه ، فبكى وقال : لم أبك جزعا من الموت ، ولكن أبكي أنه ليس لي إلا نفس واحدة يفعل بها هذا في الله ، لوددت أنه كان لي مكان كل شعرة مني نفسا يفعل بها ذلك في الله عز وجل !

هذا مع أن التقية في ذلك باللسان جائزة مع طمأنينة القلب بالإيمان كما قال تعالى : إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان ولكن الأفضل الصبر وعدم التقية في ذلك .

فإذا وجد القلب حلاوة الإيمان أحس بمرارة الكفر والفسوق والعصيان ، ولهذا قال يوسف عليه السلام : رب السجن أحب إلي مما يدعونني إليه

سئل ذو النون : متى أحب ربي ؟ قال : إذا كان ما يكرهه أمر عندك من الصبر .

وقال بشر بن السري : ليس من أعلام المحبة أن تحب ما يبغضه حبيبك .

واعلم أن القدر الواجب من كراهة الكفر والفسوق والعصيان هو أن ينفر من ذلك ، ويتباعد منه جهده ، ويعزم على أن لا يلابس شيئا منه جهده ; لعلمه بسخط الله له وغضبه على أهله . فأما ميل الطبع إلى ما يميل من ذلك ، خصوصا لمن اعتاده ، ثم تاب منه - فلا يؤاخذ به إذا لم يقدر على إزالته ; ولهذا مدح الله من نهى النفس عن الهوى ، وذلك يدل على أن الهوى يميل [ ص: 54 ] إلى ما هو ممنوع منه ، وأن من عصى هواه كان محمودا عند الله عز وجل .

وسئل عمر عن قوم يشتهون المعاصي ولا يعملون بها ، فقال : أولئك الذين امتحن الله قلوبهم للتقوى لهم مغفرة وأجر عظيم

وقد ترتاض النفس بعد ذلك وتألف التقوى حتى تتبدل طبيعتها وتكره ما كانت مائلة إليه ، ويصير التقوى لها طبيعة ثابتة .

وهل هذا أفضل من الأول ؟ أم الأول أفضل ؟

هذا قد يخرج على اختلاف العلماء فيمن عمل طاعة ونفسه تأباها وهو يجاهدها ، وآخر عملها ونفسه طائعة مختارة لها - أيهما أفضل ؟

وفيه قولان مشهوران للعلماء والصوفية ، والأظهر أن الثاني أفضل . وفي كلام الإمام أحمد ما يدل على خلافه .

وفي " مسند الإمام أحمد " : حدثنا يحيى بن سعيد ، عن حميد ، عن أنس أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لرجل : " أسلم ! " قال : أجدني كارها ! قال : " وإن كنت كارها " .

وهذا يدل على صحة الإسلام مع نفور القلب عنه وكراهته له ، لكن إذا دخل في الإسلام واعتاده وألفه دخل حبه قلبه ووجد حلاوته .

وخرج مسلم حديث أنس المتقدم ، ولفظه " ومن كان أن يلقى في النار أحب إليه من أن يرجع في الكفر بعد إذ أنقذه الله منه " .

ويستشكل من هذا اللفظ أنه يقتضي وجود محبة الأمرين أعني : الإلقاء [ ص: 55 ] في النار والرجوع إلى الكفر ، وترجح محبة الأول على الثاني .

ووقع مثله في القرآن في قوله تعالى حاكيا عن يوسف عليه السلام : قال رب السجن أحب إلي مما يدعونني إليه ومثله قول علي رضي الله عنه : إذا حدثتكم عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فلأن أخر من السماء إلى الأرض أحب إلي من أن أكذب عليه .

ويجاب عن ذلك بأن من خير بين أمرين مكروهين ، فاختار أحدهما على الآخر لشدة كراهته لما رغب عنه - فإنه يقال : إنه محب لما اختاره مريد له ، وإن كان لا يحبه ولا يختاره لنفسه ، بل لدفع ما هو عنده أشد كراهة وأعظم ضررا .

ومن هنا ورد ما ورد من حب الموت في الفتنة والتخلص منها .

وقيل لعطاء السليمي : لو أججت نار ، وقيل : من دخلها نجي من جهنم - هل كنت تدخلها ؟ فقال : بل كنت أخشى أن تخرج نفسي فرحا بها قبل وصولي إليها .

ويشبه هذا حال المكره على فعل بضرب أو سجن أو تهديد أو بقتل ونحو ذلك إذا فعله افتداء لنفسه مما أكره به عليه - هل هو مختار له ؟ أم لا ؟ وفيه اختلاف مشهور بين الأصوليين .

والتحقيق أنه مختار له لا لنفسه ، بل للافتداء به من المكروه الأعظم ، فهو مختار له من وجه دون وجه . وهذا بخلاف فعل المؤمن الطاعات خوفا من الله ، فإنه ليس فعله كفعل المكره ; لأن المؤمن يجب عليه أن يأتي بالطاعة خوفا من عقاب الله ورجاء لثوابه وحبا له ، فبذلك يفارق حال المكره .

[ ص: 56 ] ومن هنا تظهر المسألة التي يفر منها الفقهاء وهي : إذا قال رجل لامرأته : إن كنت تحبيني أن يعذبك الله بالنار فأنت طالق ، فقالت : أنا أحبه . فقال كثير منهم من أصحابنا وغيرهم : إنها تطلق ; لأنها قد تختار ذلك وتحبه افتداء به من معاشرة زوجها لشدة بغضها له ، وجهلا منها بتصور عذاب جهنم ، فتكون صادقة فيما أخبرت به .

ومن هذا الحديث الذي فيه أن الكافر يقول من شدة ما يجد في الموقف يوم القيامة : رب ، أرحني ولو إلى النار !

فظهر بهذا أن من خير بين مكروهين ، فاختار أخفهما دفعا لأعظمهما - أنه يكون محبا لما اختاره مختارا له من وجه دون وجه .

وأما ما يقتضيه لفظ الحديث من كونه محبا للآخر فهذا أولا غير لازم على قول الكوفيين الذين لا يرون أن " أفعل " التفضيل يلزم منه المشاركة مطلقا ، فيجوز عندهم أن يقال : الثلج أبرد من النار .

وأما على قول البصريين فإنه قد ورد في كثير من نصوص الكتاب والسنة ما تمتنع فيه المشاركة ، وتأولوا فيه " أفعل " بـ " فاعل " فكذلك تتأول هاهنا .

ومما بقي مما يتعلق بلفظ هذا الحديث أن قوله صلى الله عليه وسلم : " أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما " - يدل على أنه يجوز الجمع بين اسم الله واسم غيره من المخلوقين في كلمة واحدة .

وفي " سنن أبي داود " عن ابن مسعود أن النبي صلى الله عليه وسلم ، كان يقول في خطبته : " من يطع الله ورسوله فقد رشد ، ومن يعصهما فإنه لا يضر إلا نفسه ، ولا يضر الله شيئا .

[ ص: 57 ] وقال ابن مسعود لما قضى في بروع : إن يكن صوابا فمن الله ، وإن يكن خطأ فمني ومن الشيطان ، والله ورسوله بريئان من الخطإ .

وقد اختلف الناس في جواز مثل هذا التركيب في الكلام على أقوال :

أحدها : أنه يجوز .

والثاني : أنه لا يجوز إلا في كلام الله عز وجل دون غيره .

والثالث : أنه ممتنع مطلقا .

واحتجوا بحديث عدي بن حاتم أن رجلا خطب عند النبي صلى الله عليه وسلم ، فقال : ومن يعصهما فقد غوى ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم " بئس الخطيب أنت ! قل : ومن يعص الله ورسوله " .

خرجه مسلم .

وقد قيل : إن قوله : " قل : ومن يعص الله ورسوله " - مدرجة في الحديث ، وإنما أنكر عليه وقفه على قوله : " ومن يعصهما " .

وقد ذكر هذا الاختلاف ابن عطية في " تفسيره " وغيره .

وفيه قول آخر : أنه يمتنع في واو الجمع أو ألف التثنية المتصلين بالأفعال نحو : يفعلون ، وتفعلان ، كقوله تعالى : إن الله وملائكته يصلون على النبي وهذا هو الذي ذكره القاضي أبو يعلى في كتابه " أحكام القرآن " .

ومن منع ذلك أجاب بأن في الكلام حذفا تقديره : إن الله يصلي وملائكته يصلون ، والله تعالى أعلم .

التالي السابق


الخدمات العلمية