صفحة جزء
[ ص: 61 ] فصل

قال البخاري :

18 18 - حدثنا أبو اليمان : أنا شعيب عن الزهري : أخبرني أبو إدريس عائذ الله بن عبد الله أن عبادة بن الصامت وكان شهد بدرا ، وهو أحد النقباء ليلة العقبة - أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال وحوله عصابة من أصحابه : " بايعوني على أن لا تشركوا بالله شيئا ، ولا تسرقوا ، ولا تزنوا ، ولا تقتلوا أولادكم ، ولا تأتوا ببهتان تفترونه بين أيديكم وأرجلكم ، ولا تعصوا في معروف ; فمن وفى منكم فأجره على الله ، ومن أصاب من ذلك شيئا فعوقب به في الدنيا فهو كفارة ، ومن أصاب من ذلك شيئا ثم ستره الله فهو إلى الله ; إن شاء عفا عنه ، وإن شاء عاقبه " فبايعناه على ذلك .


هذا الحديث سمعه أبو إدريس [ ... ] عن عقبة بن عامر ، عن عبادة . وزيادة " عقبة " في إسناده وهم .

وقد خرج البخاري الحديث في " ذكر بيعة العقبة " ، وفي " تفسير سورة الممتحنة " من كتابه هذا ، وفيه التصريح بأن أبا إدريس أخبره به عبادة وسمعه منه .

وكان عبادة قد شهد بدرا ، وهو أحد النقباء ليلة العقبة حيث بايعت الأنصار النبي - صلى الله عليه وسلم - قبل الهجرة .

[ ص: 62 ] لكن هل هذه البيعة المذكورة في هذا الحديث كانت ليلة العقبة ؟ أم لا ؟ هذا وقع فيه تردد ; فرواه ابن إسحاق ، عن الزهري ، وذكر في روايته : أن هذه البيعة كانت ليلة العقبة .

وروى ابن إسحاق أيضا عن يزيد بن أبي حبيب ، عن أبي الخير مرثد بن عبد الله ، عن الصنابحي ، عن عبادة بن الصامت قال : كنت فيمن حضر العقبة الأولى ، وكنا اثني عشر رجلا ، فبايعنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على بيعة النساء ، وذلك قبل أن تفرض الحرب ، على أن لا نشرك بالله شيئا ، ولا نسرق ولا نزني ، الحديث .

خرجه الإمام أحمد من رواية ابن إسحاق هكذا .

وكذا رواه الواقدي عن يزيد بن أبي حبيب .

وخرجاه في " الصحيحين " من حديث الليث بن سعد ، عن يزيد بن أبي حبيب ، عن أبي الخير ، عن الصنابحي ، عن عبادة قال : إني من النقباء الذين بايعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، بايعنا على أن لا نشرك بالله شيئا ، فذكر الحديث .

وليس هذا بالصريح في أن هذه البيعة كانت ليلة العقبة .

ولفظ مسلم بهذه الرواية : عن عبادة بن الصامت قال : إني من النقباء الذين بايعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وقال : بايعناه على أن لا نشرك ، الحديث .

وهذا اللفظ قد يشعر بأن هذه البيعة غير بيعة النقباء .

[ ص: 63 ] وخرجه مسلم ، من وجه آخر من رواية أبي قلابة ، عن أبي الأشعث ، عن عبادة قال : أخذ علينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كما أخذ على النساء : أن لا نشرك بالله شيئا .

وهذا قد يشعر بتقدم أخذه على النساء على أخذه عليهم .

وخرج مسلم حديث عبادة من رواية أبي إدريس ، عنه ، وقال في حديثه : فتلا علينا آية النساء أن لا يشركن بالله شيئا الآية .

وخرجه البخاري في " تفسير سورة الممتحنة " من رواية ابن عيينة ، عن الزهري ، وقال فيه : وقرأ آية النساء . وأكثر لفظ سفيان : وقرأ الآية .

ثم قال : تابعه عبد الرزاق ، عن معمر - في الآية .

وكذا خرجه الإمام أحمد والترمذي وعندهما : فقرأ عليهم الآية .

زاد الإمام أحمد : التي أخذت على النساء إذا جاءك المؤمنات

وهذا تصريح بأن هذه البيعة كانت بالمدينة ; لأن آية بيعة النساء مدنية .

وروى هذا الحديث سفيان بن حسين ، عن الزهري ، وقال في حديثه : إن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لهم : " أيكم يبايعني على هؤلاء الآيات الثلاث ؟ ثم تلا هذه الآية : قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم ألا تشركوا به شيئا حتى فرغ من الثلاث آيات .

خرجه الهيثم بن كليب في " مسنده " .

[ ص: 64 ] وسفيان بن حسين ليس بقوي ، خصوصا في حديث الزهري ، وقد خالف سائر الثقات من أصحابه في هذا .

وقد روى عبادة بن الصامت أنهم بايعوا النبي - صلى الله عليه وسلم - على السمع والطاعة في المنشط والمكره ، وأن لا ينازعوا الأمر أهله ، وأن يقولوا بالحق .

فهذه صفة أخرى غير صفة البيعة المذكورة في الأحاديث المتقدمة .

وهذه البيعة الثانية مخرجة في " الصحيحين " من غير وجه عن عبادة .

وقد خرجها الإمام أحمد من رواية ابن إسحاق : حدثني عبادة بن الوليد بن عبادة بن الصامت ، عن أبيه عن جده عبادة - وكان أحد النقباء - قال : بايعنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بيعة الحرب ، وكان عبادة من الاثني عشر الذين بايعوا في العقبة الأولى على بيعة النساء على السمع والطاعة في عسرنا ويسرنا ، وذكر الحديث .

وهذه الرواية تدل على أن هذه البيعة هي بيعة الحرب ، وأن بيعة النساء كانت في العقبة الأولى قبل أن تفرض الحرب .

فهذا قد يشعر بأن هذه البيعة كانت بالمدينة بعد فرض الحرب ، وفي هذا نظر .

وقد خرجه الهيثم بن كليب في " مسنده " من رواية ابن إدريس ، عن ابن إسحاق ويحيى بن سعيد وعبيد الله بن عمر ، عن عبادة بن الوليد أن أباه حدثه ، عن جده قال : بايعنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في العقبة الآخرة على السمع والطاعة ، فذكره .

وخرجه ابن سعد من وجه آخر ، عن عبادة بن الوليد - مرسلا .

[ ص: 65 ] وخرج الإمام أحمد من وجه آخر ، عن عبادة أنهم بايعوا النبي - صلى الله عليه وسلم - هذه البيعة على السمع والطاعة ، الحديث ، وقال فيه : وعلى أن ننصر النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا قدم علينا يثرب ، فنمنعه مما نمنع منه أنفسنا .

وهذا يدل على أن هذه البيعة كانت قبل الهجرة ، وذلك ليلة العقبة .

وخرج - أيضا - هذا المعنى من حديث جابر بن عبد الله أن هذه البيعة كانت للسبعين بشعب العقبة ، وهي البيعة الثانية ، وتكون سميت هذه البيعة الثانية " بيعة الحرب " ; لأن فيها البيعة على منع النبي صلى الله عليه وسلم ، وذلك يقتضي القتال دونه ، فهذا هو المراد بالحرب ، وقد شهد عبادة البيعتين معا .

ويحتمل أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يبايع أصحابه على بيعة النساء قبل نزول آية مبايعتهن ، ثم نزلت الآية بموافقة ذلك .

وفي المسند عن أم عطية أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما قدم المدينة جمع النساء ، فبايعهن على هذه الآية إلى قوله : ولا يعصينك في معروف

وهذا قبل نزول سورة الممتحنة ، فإنها إنما نزلت قبل الفتح بيسير ، والله أعلم بحقيقة ذلك كله .

وأما ما بايعهم عليه فقد اتفقت روايات حديث عبادة من طرقه الثلاثة عنه ، أنهم بايعوه على أن لا يشركوا بالله ، ولا يسرقوا ، ولا يزنوا ، ولا يقتلوا .

[ ص: 66 ] وفي بعض الروايات : لا يقتلوا أولادهم ، كما في لفظ الآية ، وفي بعضها : لا يقتلوا النفس التي حرم الله . وهذه رواية الصنابحي ، عن عبادة .

ثم إن من الرواة من اقتصر على هذه الأربع ، ولم يزد عليها .

ومنهم من ذكر في رواية المبايعة على بقية ما ذكر في الآية ، كما في رواية البخاري المذكورة هاهنا .

ومنهم من ذكر خصلة خامسة بعد الأربع ، ولكن لم يذكرها باللفظ الذي في الآية ، ثم اختلفوا في لفظها ; فمنهم من قال : " ولا ننتهب " ، وهي رواية الصنابحي ، عن عبادة المخرجة في " الصحيحين " .

ومنهم من قال : " ولا يعضه بعضنا بعضا " وهي رواية أبي الأشعث عن عبادة ، خرجها مسلم .

ومنهم من قال : " ولا يغتب بعضنا بعضا " ، وهي رواية الإمام أحمد .

وأما الخصلة السادسة فمنهم من لم يذكرها بالكلية ، وهي رواية أبي الأشعث التي خرجها مسلم .

[ ص: 67 ] ومنهم من ذكرها وسماها المعصية ، فقال : " ولا نعصي " كما في رواية الصنابحي . وفي رواية أبي إدريس : " ولا تعصوا في معروف " .

فأما الشرك والسرقة والزنا والقتل فواضح ، وتخصيص قتل الأولاد بالذكر في بعض الروايات موافق لما ورد في القرآن في مواضع ، وليس له مفهوم ، وإنما خصص بالذكر للحاجة إليه ; فإن ذلك كان معتادا بين أهل الجاهلية .

وأما الإتيان ببهتان يفترونه بين أيديهم وأرجلهم على ما جاء في رواية البخاري فهذا يدل على أن هذا البهتان ليس مما تختص به النساء .

وقد اختلف المفسرون في البهتان المذكور في آية بيعة النساء ، فأكثرهم فسروه بإلحاق المرأة بزوجها ولدا من غيره . رواه علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس ، وقاله مقاتل بن حيان وغيره .

واختلفوا في معنى قوله : بين أيديهن وأرجلهن فقيل : لأن الولد إذا ولدته أمه سقط بين يديها ورجليها .

وقيل : بل أراد بما تفتريه بين يديها أن تأخذ لقيطا فتلحقه بزوجها ، وبما تفتريه بين رجليها أن تلده من زنا ، ثم تلحقه بزوجها .

ومن المفسرين من فسر البهتان المفترى بالسحر ، ومنهم من فسره بالمشي بالنميمة والسعي في الفساد ، ومنهم من فسره بالقذف والرمي بالباطل .

وقيل : البهتان المفترى يشمل ذلك كله وما كان في معناه ، [ ص: 68 ] ورجحه ابن عطية وغيره .

وهو الأظهر ، فيدخل فيه كذب المرأة فيما ائتمنت عليه من حمل وحيض وغير ذلك .

ومن هؤلاء من قال : أراد بما بين يديها حفظ لسانها وفمها ووجهها عما لا يحل لها ، وبما بين رجليها حفظ فرجها ، فيحرم عليها الافتراء ببهتان في ذلك كله .

ولو قيل : إن من الافتراء ببهتان بين يديها خيانة الزوج في ماله الذي في بيتها - لم يبعد ذلك .

وقد دل مبايعة النبي - صلى الله عليه وسلم - الرجال على أن لا يأتوا ببهتان يفترونه بين أيديهم وأرجلهم أن ذلك لا يختص بالنساء .

وجميع ما فسر به البهتان في حق النساء يدخل فيه الرجال أيضا ، فيدخل فيه استلحاق الرجل ولد غيره سواء كان لاحقا غيره أو غير لاحق كولد الزنا ، ويدخل فيه الكذب والغيبة . وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم : " إن كان في أخيك ما تقول فقد اغتبته ، وإن لم يكن فيه ما تقول فقد بهته " . خرجه مسلم .

وكذلك القذف ، وقد سمى الله قذف عائشة بهتانا عظيما .

وكذلك النميمة من البهتان .

وفي رواية أبي الأشعث ، عن عبادة : " ولا يعضه بعضكم بعضا " .

[ ص: 69 ] والعضيهة : النميمة .

وفي " صحيح مسلم " عن ابن مسعود مرفوعا : " ألا أنبئكم ما العضه ؟ هي النميمة القالة بين الناس " .

وروى إبراهيم الهجري ، عن أبي الأحوص ، عن ابن مسعود قال : كنا نسمي العضيهة السحر ، وهو اليوم : قيل وقال .

وفسر إسحاق بن راهويه العضيهة في حديث عبادة بن الصامت قال : " لا يبهت بعضكم بعضا " ، نقله عنه محمد بن نصر .

وذكر أهل اللغة أن العضيهة : الشتيمة ، والعضيهة : البهتان ، والعاضهة ، والمستعضهة : الساحرة والمستسحرة .

وفي رواية الصنابحي : " ولا ننتهب " ، والنهبة من البهتان ; فإن المنتهب يبهت الناس بانتهابه منه ما يرفعون إليه أبصارهم فيه .

وكل ما بهت صاحبه وحيره وأدهشه من قول أو فعل لم يكن في حسابه فهو بهتان ، فأخذ المال بالنهبى أو بالدعاوى الكاذبة بهتان ، وقد قال تعالى : وإن أردتم استبدال زوج مكان زوج وآتيتم إحداهن قنطارا فلا تأخذوا منه شيئا أتأخذونه بهتانا وإثما مبينا

وفي المسند ، والترمذي ، والنسائي ، عن صفوان بن عسال أن اليهود [ ص: 70 ] سألوا النبي - صلى الله عليه وسلم - عن التسع آيات البينات التي أوتيها موسى ، فقال : لا تشركوا بالله شيئا ، ولا تزنوا ، ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق ، ولا تسرقوا ، ولا تسحروا ، ولا تمشوا ببريء إلى سلطان فيقتله ، ولا تأكلوا الربا ، ولا تقذفوا محصنة ، ولا تفروا من الزحف ، وعليكم اليهود خاصة أن لا تعدوا في السبت .

فلم يذكر في هذا الحديث البهتان المفترى بلفظه ، ولكن ذكر مما فسر به البهتان المذكور في القرآن عدة خصال : السحر ، والمشي ببريء إلى السلطان ، وقذف المحصنات .

وهذا يشعر بدخول ذلك كله في اسم البهتان .

وكذلك الأحاديث التي ذكر فيها عد الكبائر ، ذكر في بعضها القذف ، وفي بعضها قول الزور أو شهادة الزور ، وفي بعضها اليمين الغموس والسحر ، وهذا كله من البهتان المفترى .

وأما الخصلة السادسة : فهي المعصية ، وتشمل جميع أنواع المعاصي ، فهو من باب ذكر العام بعد الخاص ، وهو قريب من معنى قوله تعالى : وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة وأطيعوا الرسول لعلكم ترحمون وقوله تعالى : ولا يعصينك في معروف

وفي بعض ألفاظ حديث عبادة " ولا تعصوا في معروف " ، وفي بعضها " ولا تعصوني في معروف " ، وقد خرجها البخاري في موضع آخر .

وكل هذا إشارة إلى أن الطاعة لا تكون إلا في معروف ، فلا يطاع مخلوق [ ص: 71 ] إلا في معروف ، ولا يطاع في معصية الخالق .

وقد استنبط هذا المعنى من هذه الآية طائفة من السلف ، فلو كان لأحد من البشر أن يطاع بكل حال لكان ذلك للرسول صلى الله عليه وسلم . فلما خصت طاعته بالمعروف ، مع أنه لا يأمر إلا بما هو معروف - دل على أن الطاعة في الأصل لله وحده ، والرسول مبلغ عنه وواسطة بينه وبين عباده ، ولهذا قال تعالى : من يطع الرسول فقد أطاع الله

فدخل في هذه الخصلة السادسة الانتهاء عن جميع المعاصي ، ويدخل فيها أيضا القيام بجميع الطاعات على رأي من يرى أن النهي عن شيء أمر بضده .

فلما تمت هذه البيعة على هذه الخصال ذكر لهم النبي - صلى الله عليه وسلم - حكم من وفى بها ، وحكم من لم يف بها عند الله عز وجل .

فأما من وفى بها فأخبر أن أجره على الله ، كذا في رواية أبي إدريس وأبي الأشعث ، عن عبادة . وفي رواية الصنابحي ، عنه : فالجنة إن فعلنا ذلك .

وقد قال الله تعالى : إن الذين يبايعونك إنما يبايعون الله يد الله فوق أيديهم فمن نكث فإنما ينكث على نفسه ومن أوفى بما عاهد عليه الله فسيؤتيه أجرا عظيما

وفسر الأجر العظيم بالجنة ، كذا قاله قتادة وغيره من السلف .

ولا ريب أن من اجتنب الشرك والكبائر والمعاصي كلها فله الجنة ، وعلى ذلك وقعت هذه البيعة ، وإن اختصر ذلك بعض الرواة فأسقط بعض هذه الخصال .

[ ص: 72 ] وأما من لم يوف بها ، بل نكث بعض ما التزم بالبيعة تركه لله عز وجل . والمراد : ما عدا الشرك من الكبائر ، فقسمه إلى قسمين :

أحدهما : أن يعاقب به في الدنيا ، فأخبر أن ذلك كفارة له ، وفي رواية " فهو طهور له " ، وفي رواية " طهور له أو كفارة " بالشك ، ورواه بعضهم " طهور وكفارة " بالجمع .

وقد خرجها البخاري في موضع آخر في " صحيحه " .

وروى ابن إسحاق ، عن الزهري حديث أبي إدريس ، عن عبادة ، وقال فيه : " فأقيم عليه الحد فهو كفارة له " .

وفي رواية أبي الأشعث ، عن عبادة : " ومن أتى منكم حدا فأقيم عليه فهو كفارة " خرجه مسلم .

وهذا صريح في أن إقامة الحدود كفارات لأهلها .

وقد صرح بذلك سفيان الثوري ، ونص على ذلك أحمد في رواية عبدوس بن مالك العطار ، عنه .

وقال الشافعي : لم أسمع في هذا الباب أن الحد كفارة أحسن من حديث عبادة .

وإنما قال هذا ; لأنه قد روي هذا المعنى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - من وجوه متعددة ، عن علي ، وجرير ، وخزيمة بن ثابت ، وعبد الله بن عمرو ، وغيرهم . وفي أسانيدها كلها مقال ، وحديث عبادة صحيح وثابت .

وقد روى عبد الرزاق ، عن معمر ، عن ابن أبي ذئب ، عن المقبري ، عن [ ص: 73 ] أبي هريرة ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : " ما أدري الحدود طهارة لأهلها أم لا ؟ " وذكر كلاما آخر .

خرجه الحاكم ، وخرج أبو داود بعض الحديث .

وقد رواه هشام بن يوسف ، عن معمر ، [عن ابن أبي ذئب ] ، عن الزهري - مرسلا .

قال البخاري في " تاريخه " : المرسل أصح ، قال : ولا يثبت هذا عن النبي صلى الله عليه وسلم ، وقد ثبت عنه أن الحدود كفارة . انتهى .

وقد خرجه البيهقي من رواية آدم بن أبي إياس ، عن ابن أبي ذئب ، عن المقبري ، عن أبي هريرة - مرفوعا أيضا .

وخرجه البزار من وجه آخر فيه ضعف ، عن المقبري ، عن أبي هريرة - مرفوعا أيضا .

وعلى تقدير صحته فيحتمل أن يكون النبي - صلى الله عليه وسلم - قال ذلك قبل أن يعلمه ثم علمه ، فأخبر به جزما .

فإن كان الأمر كذلك ، فحديث عبادة إذن لم يكن ليلة العقبة بلا تردد ; لأن حديث أبي هريرة متأخر عن الهجرة ، ولم يكن النبي - صلى الله عليه وسلم - علم حينئذ أن الحدود كفارة ، فلا يجوز أن يكون قد أخبر قبل الهجرة بخلاف ذلك .

وقد اختلف العلماء : هل إقامة الحد بمجرده كفارة للذنب من غير توبة ؟ [ ص: 74 ] أم لا ؟ على قولين :

أحدهما : أن إقامة الحد كفارة للذنب بمجرده ، وهو مروي عن علي بن أبي طالب ، وابنه الحسن ، وعن مجاهد ، وزيد بن أسلم ، وهو قول الثوري والشافعي وأحمد ، واختيار ابن جرير وغيره من المفسرين .

والثاني : أنه ليس بكفارة بمجرده ، فلا بد من توبة . وهو مروي عن صفوان بن سليم وغيره ، ورجحه ابن حزم وطائفة من متأخري المفسرين ، كالبغوي وأبي عبد الله بن تيمية وغيرهما .

واستدلوا بقوله تعالى في المحاربين : ذلك لهم خزي في الدنيا ولهم في الآخرة عذاب عظيم إلا الذين تابوا

وقد يجاب عن هذا بأن عقوبة الدنيا والآخرة لا يلزم اجتماعهما ، فقد دل الدليل على أن عقوبة الدنيا تسقط عقوبة الآخرة .

وأما استثناء الذين تابوا فإنما استثناهم من عقوبة الدنيا خاصة ، ولهذا خصهم بما قبل القدرة ، وعقوبة الآخرة تندفع بالتوبة قبل القدرة وبعدها .

ويدل على أن الحد يطهر الذنب قول ماعز للنبي صلى الله عليه وسلم : إني أصبت حدا فطهرني . وكذلك قالت له الغامدية ، ولم ينكر عليهما النبي - صلى الله عليه وسلم - ذلك ، فدل على أن الحد طهارة لصاحبه .

ويدخل في قول النبي صلى الله عليه وسلم : " من أصاب شيئا من ذلك ، فعوقب به في الدنيا - فهو كفارته " العقوبات القدرية من الأمراض والأسقام .

والأحاديث في تكفير الذنوب بالمصائب كثيرة جدا .

[ ص: 75 ] وهذه المصائب يحصل بها للنفوس من الألم نظير الألم الحاصل بإقامة الحد ، وربما زاد على ذلك كثيرا .

وقد يقال : في دخول هذه العقوبات القدرية في لفظ حديث عبادة نظر ; لأنه قابل من عوقب في الدنيا ستر الله عليه ، وهذه المصائب لا تنافي الستر ، والله أعلم .

والقسم الثاني :

أن لا يعاقب في الدنيا بذنبه ، بل ستر عليه ذنبه ويعافى من عقوبته ، فهذا أمره إلى الله في الآخرة إن شاء عذبه ، وإن شاء عفا عنه .

وهذا موافق لقول الله عز وجل : إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء

وفي ذلك رد على الخوارج والمعتزلة في قولهم : إن الله يخلده في النار إذا لم يتب .

وهذا المستور في الدنيا له حالتان :

إحداهما : أن يموت غير تائب ، فهذا في مشيئة الله كما ذكرنا .

والثانية : أن يتوب من ذنبه .

فقال طائفة : إنه تحت المشيئة أيضا ، واستدلوا بالآية المذكورة وحديث عبادة .

والأكثرون على أن التائب من الذنب مغفور له ، وأنه كمن لا ذنب له كما قال تعالى : إلا من تاب وآمن وعمل عملا صالحا فأولئك يبدل الله سيئاتهم حسنات وقال : أولئك جزاؤهم مغفرة من ربهم وجنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها

[ ص: 76 ] فيكون التائب - حينئذ - ممن شاء الله أن يغفر له .

واستدل بعضهم - وهو ابن حزم - بحديث عبادة هذا على أن من أذنب ذنبا فإن الأفضل له أن يأتي الإمام ، فيعترف عنده ; ليقيم عليه الحد حتى يكفر عنه ، ولا يبقى تحت المشيئة في الخطر .

وهذا مبني على قوله : إن التائب في المشيئة .

والصحيح أن التائب توبة نصوحا مغفور له جزما ، لكن المؤمن يتهم توبته ، ولا يجزم بصحتها ولا بقبولها ، فلا يزال خائفا من ذنبه وجلا .

ثم إن هذا القائل لا يرى أن الحد بمجرده كفارة ، وإنما الكفارة التوبة ، فكيف لا يقتصر على الكفارة بل يكشف ستر الله عليه ليقام عليه ما لا يكفر عنه ؟

وجمهور العلماء على أن من تاب من ذنب فالأصل أن يستر على نفسه ولا يقر به عند أحد ، بل يتوب منه فيما بينه وبين الله عز وجل .

روي ذلك عن أبي بكر ، وعمر ، وابن مسعود ، وغيرهم . ونص عليه الشافعي .

ومن أصحابه وأصحابنا من قال : إن كان غير معروف بين الناس بالفجور فكذلك ، وإن كان معلنا بالفجور مشتهرا به فالأولى أن يقر بذنبه عند الإمام ليطهره منه .

وقد روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال لمعاذ : " إذا أحدثت ذنبا فأحدث عنده توبة ; إن سرا فسرا ، وإن علانية فعلانية " .

وفي إسناده مقال .

وهو إنما يدل على إظهار التوبة ، وذلك لا يلزم منه طلب إقامة الحد .

[ ص: 77 ] وقد وردت أحاديث تدل على أن من ستر الله عليه في الدنيا فإن الله يستر عليه في الآخرة ، كحديث ابن عمر في النجوى ، وقد خرجه البخاري في " التفسير " .

وخرج الترمذي ، وابن ماجه عن علي مرفوعا : " من أذنب ذنبا في الدنيا ، فستره الله عليه - فالله أكرم أن يعود في شيء قد عفا عنه " .

وفي " المسند " عن عائشة مرفوعا : " لا يستر الله على عبد ذنبا في الدنيا إلا ستره عليه في الآخرة " .

وروي مثله عن علي ، وابن مسعود من قولهما .

وقد يحمل ذلك كله على التائب من ذنبه ; جمعا بين هذه النصوص وبين حديث عبادة هذا .

وأصح هذه الأحاديث المذكورة هاهنا حديث ابن عمر في النجوى ، وليس فيه تصريح بأن ذلك عام لكل من ستر عليه ذنبه ، والله تعالى أعلم .

وقد قيل : إن البيعة سميت بيعة ; لأن صاحبها باع نفسه لله .

والتحقيق أن البيع والمبايعة مأخوذان من مد الباع ; لأن المتبايعين للسلعة كل منهما يمد باعه للآخر ويعاقده عليها ، وكذلك من بايع الإمام ونحوه ، فإنه يمد باعه إليه ويعاهده ويعاقده على ما يبايعه عليه .

وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - يبايع أصحابه عند دخولهم في الإسلام على التزام أحكامه ، وكان أحيانا يبايعهم على ذلك بعد إسلامهم تجديدا للعهد ، وتذكيرا بالمقام عليه .

[ ص: 78 ] وفي " الصحيحين " عن ابن عباس أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أتى النساء في يوم عيد ، وتلا عليهن هذه الآية : يا أيها النبي إذا جاءك المؤمنات يبايعنك على أن لا يشركن بالله شيئا الآية ، وقال : " أنتن على ذلك ؟ " فقالت امرأة منهن : نعم .

وفي " صحيح مسلم " عن عوف بن مالك قال : كنا عند النبي - صلى الله عليه وسلم - تسعة أو ثمانية أو سبعة ، فقال : " ألا تبايعون رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ " وكنا حديث عهد ببيعة ، فقلنا : قد بايعناك يا رسول الله ! فقال : " ألا تبايعون رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ " قلنا : بايعناك يا رسول الله ! ثم قال : " ألا تبايعون رسول الله ؟ " فبسطنا أيدينا وقلنا : قد بايعناك يا رسول الله ، فعلام نبايعك ؟ فقال : " أن تعبدوا الله لا تشركوا به شيئا ، والصلوات الخمس ، وتطيعوا " وأسر كلمة خفية : " ولا تسألوا الناس شيئا " .

وحديث عبادة المذكور هاهنا في البيعة قد سبق أنه كان ليلة العقبة الأولى ، فيكون بيعة لهم على الإسلام والتزام أحكامه وشرائعه .

وقد ذكر طائفة من العلماء ، منهم القاضي أبو يعلى في كتاب " أحكام القرآن " من أصحابنا - أن البيعة على الإسلام كانت من خصائص النبي صلى الله عليه وسلم ، واستدلوا بأن الأمر بالبيعة في القرآن يخص الرسول بالخطاب بها وحده كما قال تعالى : " يا أيها النبي إذا جاءك المؤمنات يبايعنك على أن لا يشركن بالله شيئا

ولما كان الامتحان وجه الخطاب إلى المؤمنين عموما ، فقال : يا أيها الذين آمنوا إذا جاءكم المؤمنات مهاجرات فامتحنوهن

[ ص: 79 ] فدل على أنه يعم المؤمنين .

وكذلك قوله تعالى : إن الذين يبايعونك إنما يبايعون الله يد الله فوق أيديهم وهذا أمر يختص به الرسول صلى الله عليه وسلم ، لا يشركه فيه غيره .

ولكن قد روي عن عثمان أنه كان يبايع على الإسلام .

قال الإمام أحمد : حدثنا مسكين بن بكير قال : ثنا ثابت بن عجلان عن سليم أبي عامر أن وفد الحمراء أتوا عثمان بن عفان يبايعونه على الإسلام وعلى من وراءهم ، فبايعهم على أن لا يشركوا بالله شيئا وأن يقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة ويصوموا رمضان ويدعوا عيد المجوس ، فلما قالوا بايعهم .

وقد بايع عبد الله بن حنظلة الناس يوم الحرة على الموت ، فذكر ذلك لعبد الله بن زيد الأنصاري ، فقال : لا أبايع على هذا أحدا بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم !

خرجه البخاري في الجهاد .

وإنما أنكر البيعة على الموت لا أصل المبايعة .

وقال أبو إسحاق الفزاري : قلت للأوزاعي : لو أن إماما أتاه عدو كثير ، فخاف على من معه ، فقال لأصحابه : تعالوا نتبايع على أن لا نفر ، فبايعوا على ذلك ! قال : ما أحسن هذا ! قلت : فلو أن قوما فعلوا ذلك بينهم دون الإمام ! قال : لو فعلوا ذلك بينهم شبه العقد في غير بيعة .

التالي السابق


الخدمات العلمية