صفحة جزء
3960 218 - حدثنا عبد الله بن مسلمة ، حدثنا حاتم بن إسماعيل ، عن يزيد بن أبي عبيد ، عن سلمة بن الأكوع رضي الله عنه قال : خرجنا مع النبي صلى الله عليه وسلم إلى خيبر ، فسرنا ليلا ، فقال رجل من القوم لعامر : يا عامر ألا تسمعنا من هنياتك - وكان عامر رجلا شاعرا - فنزل يحدو بالقوم يقول :


أللهم لولا أنت ما اهتدينا ولا تصدقنا ولا صلينا     فاغفر فداء لك ما أبقينا
وثبت الأقدام إن لاقينا     وألقين سكينة علينا
إنا إذا صيح بنا أتينا     وبالصياح عولوا علينا

فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : من هذا السائق ؟ قالوا : عامر بن الأكوع ، قال : يرحمه الله ، قال رجل من القوم : وجبت يا نبي الله لولا أمتعتنا به فأتينا خيبر ، فحاصرناهم حتى أصابتنا مخمصة شديدة ، ثم إن الله تعالى فتحها عليهم ، فلما أمسى الناس مساء اليوم الذي فتحت عليهم أوقدوا نيرانا كثيرة ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم :
ما هذه النيران ؟ على أي شيء توقدون ؟ قالوا : على لحم ، قال : على أي لحم ؟ قالوا : لحم حمر الإنسية ، قال النبي صلى الله عليه وسلم : أهريقوها واكسروها ، فقال رجل : يا رسول الله أو نهريقها ونغسلها ، قال : أو ذاك ، فلما تصاف القوم كان سيف عامر قصيرا فتناول به ساق يهودي ليضربه ويرجع ذباب سيفه فأصاب عين ركبة عامر فمات منه ، قال : فلما قفلوا قال سلمة : رآني رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو [ ص: 235 ] آخذ بيدي قال مالك : قلت له فداك أبي وأمي زعموا أن عامرا حبط عمله ، قال النبي صلى الله عليه وسلم : كذب من قاله ; إن له لأجرين ، وجمع بين أصبعيه ، إنه لجاهد مجاهد ، قل عربي مشى بها مثله .



مطابقته للترجمة ظاهرة ، وعبد الله بن مسلمة بفتح الميمين هو القعنبي شيخ مسلم أيضا ، وحاتم بالحاء المهملة مر عن قريب ، ومضى الحديث مختصرا في المظالم في باب هل تكسر الدنان التي فيها الخمر ; فإنه أخرجه هناك ، عن أبي عاصم ، عن يزيد بن أبي عبيد ، عن سلمة . قوله : " فقام رجل من القوم " لم يعرف اسم الرجل . قوله : " لعامر " هو عم سلمة بن الأكوع ، واسم الأكوع سنان ، وهو اسم جد سلمة ، وأبو سلمة هو عمرو ، وهو سلمة بن عمرو بن الأكوع ، وعامر هو ابن الأكوع استشهد يوم خيبر على ما ذكر في الحديث ، قوله : " من هنياتك " بضم الهاء وفتح النون وتشديد الياء آخر الحروف وبالتاء المثناة من فوق المكسورة ، هكذا هو في رواية الكشميهني ، وفي رواية غيره : " هنيهاتك " بضم الهاء وفتح النون وسكون الياء آخر الحروف بعدها هاء أخرى جمع هنيهة ، وهو مصغر هنة ، كما قالوا في مصغر سنة : سنيهة ، وأصل هنة هنو كما أن أصل سنة سنو مصغره هنية ، وقد تبدل من الياء الثانية هاء ، فيقال : هنيهة والجمع هنيهاة ، وجمع الأول هنيات ، ووقع في الدعوات من وجه آخر عن يزيد بن أبي عبيد : لو أسمعتنا من هناتك بفتح الهاء والنون ، وبعد الألف تاء مثناة من فوق ، فيكون جمع هنة ، وقال الكرماني : أما هن على وزن أخ ، فكلمة كناية عن الشيء ، وأصله هنو ، وتقول للمؤنث هنة ، وتصغيرها هنية ، والمراد بالهنيات الأراجيز جمع الأرجوزة ، وقال السهيلي : الهنة كناية عن كل شيء لا يعرف اسمه أو تعرفه فتكني عنه ، وقال الهروي : كناية عن شيء لا تذكره باسمه ، ولا تخص جنسا من غيره ، وقال الأخفش : كما تقول هذا فلان بن فلان تقول : هذا هن بن هن ، وهذه هنة بنت هنة ، وهو نص بأن يكنى بها عن الأعلام ، وقال ابن عصفور : وهو الصحيح ، قوله : " يحدو بالقوم " من الحدو ، وهو سوق الإبل والغناء لها ، يقال : حدوت الإبل حدوا وحداء ، ويقال للشمال : حدواء ; لأنها تحدو السحاب .

والإبل تحب الحداء ، ولا يكون الحداء إلا شعرا أو رجزا ، وأول من سن حداء الإبل مضر بن نزار لما سقط عن بعيره ، فكسرت يده ، فبقي يقول : وايداه وايداه ، قوله : " اللهم لولا أنت ما اهتدينا " ... إلى آخره رجز ، وأكثره تقدم في الجهاد ، واختلف في الرجز أنه شعر أم لا ; فقيل : إنه شعر ، وإن لم يكن قريضا ، وقد قيل : إن هذا ليس بشعر ، وإنما هو أشطار أبيات ، وإنما الرجز الذي هو شعر هو سداسي الأجزاء ، أو رباعي الأجزاء .

قوله : " فداء لك " بكسر الفاء وبالمد ، وحكى ابن التين فدى لك ، بفتح الفاء مع القصر ، وزعم أنه هنا بكسر الفاء مع القصر لضرورة الوزن ، وليس كما قال ; فإنه لا يتزن إلا بالمد على ما لا يخفى ، وقال المازري : لا يقال لله فدى لك ; لأنه إنما يستعمل في مكروه يتوقع حلوله بالشخص ، فيختار شخص آخر أن يحل ذلك به ويفديه منه ، فهو إما مجاز عن الرضا ، كأنه قال : نفسي مبذولة لرضاك ، أو هذه الكلمة وقعت في البيت خطابا لسامع الكلام ، وقيل : هذه لا يراد ظاهرها ، بل المراد بها المحبة والتعظيم ، مع قطع النظر عن ظاهر اللفظ ، وقيل : المخاطب بهذا الشعر النبي صلى الله تعالى عليه وسلم ، والمعنى لا تؤاخذنا بتقصيرنا في حقك ونصرك ، وقوله : " اللهم " لم يقصد بها الدعاء ، وإنما افتتح بها الكلام والمخاطب بقوله : " لولا أنت " النبي صلى الله تعالى عليه وسلم إلى آخره . قلت : في هذين الجوابين نظر لا يخفى خصوصا في الجواب الثاني ; فإن قوله :


فأنزلن سكينة علينا وثبت الأقدام إن لاقينا

يرد هذا وينقضه ، والذي قاله المازري أقرب إلى التوجيه ، قوله : " ما أبقينا " في محل النصب على أنه مفعول لقوله : " فاغفر " ، وقوله : " فداء لك " جملة معترضة ، ولفظ أبقينا بالباء الموحدة والقاف ، هكذا في رواية الأصيلي والنسفي ، ومعناه ما خلفنا وراءنا مما اكتسبناه من الآثام ، وفي رواية الأكثرين : ما اتقينا من الاتقاء بتشديد التاء المثناة من فوق ، وبالقاف ، ومعناه ما تركناه من الأوامر ، وفي رواية القابسي : " ما لقينا " بفتح اللام وكسر القاف من اللقاء ، ومعناه : ما وجدنا من المناهي ، ووقع في رواية قتيبة عن حاتم بن إسماعيل كما سيأتي في الأدب : " ما اقتفينا " من الاقتفاء بالقاف والفاء ، أي ما تبعنا من الخطايا ، من قفوت أثره إذا تبعته ، وكذا وقع لمسلم عن قتيبة ، وهي أشهر الروايات في هذا الرجز ، قوله : " وألقين " أمر مؤكد بالنون الخفيفة وسكينة [ ص: 236 ] مفعوله ، وفي رواية النسفي : " وألق السكينة " بحذف النون وبالألف واللام في السكينة ، قوله : " إنا إذا صيح بنا أتينا " من الإتيان أي إذا دعينا للقتال أو إلى الحق جئنا ، وقال الكرماني : " أبينا " في بعض الروايات من الإباء ، ومعناه إذا دعينا إلى غير الحق أبينا ، أي امتنعنا عنه ، قيل : هذه رواية النسفي ، قوله : " وبالصياح عولوا علينا " ، أي : وبالصوت العالي قصدونا واستغاثوا ، يقال : عولت على فلان وعولت بفلان ، أي : استعنت به ، ووقع عند أحمد من الزيادة في هذا الرجز في حديث إياس بن سلمة ، عن أبيه ، وهو قوله :


إن الذين قد بغوا علينا     إذا أرادوا فتنة أبينا
ونحن عن فضل الله ما استغنينا

قوله : " من هذا السائق " أي من هذا الذي يسوق الإبل ويحدو ، قالوا : عامر بن الأكوع ، يعني عم سلمة .

فإن قيل : قد مضى في الجهاد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم هو الذي كان يقولها في حفر الخندق ، وأنها من أراجيز عبد الله بن رواحة .

وأجيب بعدم المنافاة بينهما ; لاحتمال التوارد .

قوله : " قال : يرحمه الله " أي قال النبي صلى الله عليه وسلم : يرحم الله عامرا ، وفي رواية إياس بن سلمة : فقال : غفر لك ربك ، قال : وما استغفر رسول الله صلى الله عليه وسلم لإنسان يخصه إلا استشهد . قوله : " قال رجل من القوم " هذا الرجل هو عمر رضي الله تعالى عنه ، سماه مسلم في رواية إياس بن سلمة ، ولفظه فنادى عمر بن الخطاب - وهو على جمل : يا نبي الله لولا متعتنا بعامر . قوله : " وجبت " أي وجبت الجنة له ببركة دعائك له ، وقيل : وجبت له الشهادة بدعائك ، قوله : " لولا أمتعتنا به " أي هلا أبقيته لنا لنتمتع بعامر ، يعني بشجاعته ، ويروى : لولا متعتنا به من التمتع ، وهو الترفه إلى مدة ، ومنه في الدعاء يقال : متعني الله بك ، قوله : " فحصرناهم " أي حصرنا أهل خيبر ، ويروى : " فحاصرناهم " ، وقال ابن إسحاق : أول حصون خيبر فتحا حصن ناعم ، وعنده قتل محمود بن سلمة ألقيت عليه رحى منه فقتلته ، قوله : " مخمصة " بفتح الميم أي مجاعة ، قوله : " على لحم " أي توقد النيران على لحم ، قوله : " على أي لحم " أي على أي لحم من أنواع اللحوم ، توقدونها ، قوله : " قالوا لحم حمر " يجوز في لفظ لحم الرفع والنصب ; فالرفع على أنه خبر مبتدأ محذوف تقديره : هو لحم حمر ، والنصب بنزع الخافض ، والتقدير على لحم حمر ، والحمر بضمتين جمع حمار ، قوله : " الإنسية " بالجر صفة حمر ، وهو بكسر الهمزة وسكون النون وكسر السين المهملة وتشديد الياء آخر الحروف نسبة الحمر إلى الإنس ، ومعناه الحمر الأهلية ، وفي المطالع الأنسية بفتح الهمزة وفتح النون ، كذا ذكره البخاري عن ابن أبي أويس ، وكذا قيدناه عن الشيخ أبي بحر في مسلم ، وكذا قيده الأصيلي وابن السكن وأبو ذر وأكثر روايات الشيوخ فيه بكسر الهمزة وسكون النون ، وكلاهما صحيح ، وأما الأنس بفتح الهمزة والنون فهم الناس ، وكذلك الإنس ، قوله : " أهريقوها " أي أريقوها ، والهاء فيه زائدة ، ويروى بدون الهمزة : " هريقوها " ، قوله : " واكسروها " ، وقد تقدم في المظالم ، قال : " اكسروها وأهريقوها " ، قوله : " أو نهريقها ونغسلها " وفي المظالم : قالوا ألا نهريقها ونغسلها ؟ قال : اغسلوها ، وهنا قال : " أو ذاك " أي أو الغسل ، ومر الكلام فيه هناك ، قوله : " سيف عامر " ، وهو عامر بن الأكوع المذكور فيه ، وفي رواية إياس بن سلمة : " قال : فلما قدمنا خيبر خرج ملكهم مرحب يخطر بسيفه يقول :


قد علمت خيبر أني مرحب     شاكي السلاح بطل مجرب
إذا الحروب أقبلت تلهب

قال : فبرز له عامر فقال :


قد علمت خيبر أني عامر     شاكي السلاح بطل مغامر

قال : فاختلفا ضربتين ، فوقع سيف مرحب في ترس عامر ، فذهب عامر يسفل له ، أي يضربه من أسفل ، فرجع سيفه على نفسه ، قوله : " ذباب سيفه " ، وهو طرفه الذي يضرب به ، وقيل : ذباب السيف حده ، قوله : " عين ركبة عامر " أي رأس ركبته ، فمات منه ، قوله : " فلما قفلوا " أي رجعوا من خيبر ، قوله : " وهو آخذ بيدي " هكذا هو رواية الكشميهني : " بيدي " بالباء الموحدة ، وفي رواية غيره : " يدي " بدون الباء ، قوله : " حبط عمله " أي عمل عامر ; لأنه قتل نفسه ، قوله : " إن له لأجرين " وهما أجر الجهد في الطاعة ، وأجر المجاهدة في سبيل الله ، واللام فيه للتأكيد ، وهو رواية الكشميهني ، وفي رواية غيره : " أجرين " بدون اللام قوله : " لجاهد مجاهد " اللام فيه للتأكيد ، وجاهد اسم فاعل من جهد ، ومجاهد اسم فاعل أيضا من جاهد ، وروى أبو ذر عن الحموي والمستملي : لجاهد وجاهد بلفظ الماضي [ ص: 237 ] قوله : " قل عربي مشى بها مثله " حاصل المعنى من العرب قليل مشى في الدنيا بهذه الخصلة الحميدة التي هي الجهاد مع الجهد ، أي الجد ، وكذا وقع في هذه الرواية : مشى بلفظ الماضي من المشي ، قوله : " بها " أي بالأرض أو المدينة أو الحرب أو الخصلة ، قوله : " مثله " أي مثل عامر .

التالي السابق


الخدمات العلمية