صفحة جزء
4060 ( باب قول الله عز وجل : ويوم حنين إذ أعجبتكم كثرتكم فلم تغن عنكم شيئا وضاقت عليكم الأرض بما رحبت ثم وليتم مدبرين ثم أنـزل الله سكينته إلى قوله : غفور رحيم


أي هذا باب في ذكر قول الله عز وجل : ويوم حنين إلى آخره ، هكذا وقع في رواية أبي ذر ، ووقع في رواية غيره إلى قوله : ثم أنـزل الله سكينته ثم قال إلى : غفور رحيم ووقع في رواية النسفي : باب غزوة حنين ، وقول الله تعالى : ويوم حنين إذ أعجبتكم كثرتكم فلم تغن عنكم شيئا وضاقت عليكم الأرض بما رحبت إلى قوله : غفور رحيم قوله : " ويوم حنين إلى آخره " ، وأول [ ص: 294 ] الآية : لقد نصركم الله في مواطن كثيرة وأراد بالمواطن الكثيرة وقعات بدر وقريظة والنضير والحديبية وخيبر ، وفتح مكة ، وقوله : " ويوم حنين " عطف على المواطن ، قال الزمخشري : فإن قلت : كيف عطف الزمان على المكان ، وهو يوم حنين على المواطن قلت : معناه : وموطن يوم حنين أو في أيام مواطن كثيرة ، ويوم حنين ، وحنين واد بين مكة والطائف ، وقال البكري : هو واد قريب من الطائف ، بينه وبين مكة بضعة عشر ميلا ، والأغلب عليه التذكير لأنه اسم ماء ، وقيل : إنه سمي بحنين بن قانية بن مهلاييل ، قوله : إذ أعجبتكم كثرتكم إما بدل من يوم حنين ، والتقدير : اذكر إذ أعجبتكم عند الملاقاة مع الكفار كثرتكم ، فلم تغن الكثرة عنكم شيئا ، وضاقت عليكم الأرض بما رحبت ، وكلمة " ما " مصدرية ، والباء بمعنى " مع " أي : مع رحبها ، أي : وسعها ، ثم وليتم مدبرين ، أي : منهزمين ، وقال ابن جريج : عن مجاهد : هذه أول آية نزلت من سورة براءة يذكر الله للمؤمنين فضله عليهم في نصره إياهم في مواطن كثيرة ، وأن ذلك من عنده لا بعددهم ولا عددهم ، ونبههم على أن النصر من عنده سواء ، قل الجمع أو كثر ، فإن يوم حنين أعجبتهم كثرتهم ، ومع هذا ما أجدى ذلك عنهم شيئا ، قوله : " مدبرين " إلا القليل منهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ثم أنزل نصره وتأييده على رسوله وعلى المؤمنين الذين كانوا معه كما سيجيء بيانه إن شاء الله تعالى .

واعلم أن وقعة حنين كانت بعد فتح مكة في شوال سنة ثمان من الهجرة ، وذلك لما فرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم من فتح مكة ، وتمهدت له أمورها ، وأسلم عامة أهلها ، وأطلعهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، بلغه أن هوازن قد جمعوا له ليقاتلوه وأميرهم مالك بن عون النضري ومعه ثقيف بكمالها وبنو جشم ، وبنو سعد بن بكر ، وأوزاع من بني هلال ، وهم قليل ، وناس من بني عمرو بن عامر ، وعون بن عامر ، وأقبلوا ومعهم النساء والولدان والشاء والنعم ، وجاءوا بقضهم وقضيضهم ، فخرج إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم في جيشه الذين جاءوا معه للفتح ، وهو عشرة آلاف من المهاجرين والأنصار وقبائل العرب ، ومعه الذين أسلموا من أهل مكة وهم الطلقاء في ألفين ، فسار بهم إلى العدو فالتقوا بواد بين مكة والطائف يقال له حنين ، فكانت فيه الوقعة من أول النهار في غلس الصبح ، وانحدروا في الوادي ، وقد كمنت فيه هوازن ، فلما توجهوا لم يشعر المسلمون إلا بهم قد ساوروهم ورشقوا بالنبال ، وأصلتوا السيوف ، وحملوا حملة رجل واحد كما أمرهم ملكهم ، فعند ذلك ولى المسلمون مدبرين كما قال الله تعالى ، وثبت رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهو يومئذ على بغلته الشهباء يسوقها إلى نحو العدو ، والعباس آخذ بركابه الأيمن ، وأبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب آخذ بركابه الأيسر يثقلانه لئلا يسرع السير ، وهو ينوه باسمه ويدعو المسلمين إلى الرجعة ويقول : أي عباد الله إلي ، أنا رسول الله ، ويقول في تلك الحال :


أنا النبي لا كذب أنا ابن عبد المطلب

وثبت معه من أصحابه قريب من مائة ، وقيل : ثمانون منهم : أبو بكر ، وعمر ، والعباس ، وعلي ، والفضل بن عباس ، وأبو سفيان بن الحارث ، وأيمن ابن أم أيمن ، وأسامة بن زيد ، وغيرهم رضي الله تعالى عنهم ، ثم أمر رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم عمه العباس وكان جهير الصوت بأن ينادي بأعلى صوته : يا أصحاب الشجرة ، يعني شجرة بيعة الرضوان ، يا أصحاب سورة البقرة ، فجعلوا يقولون : لبيك يا لبيك ، فتراجع شرذمة من الناس إلى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فأمرهم أن يصدقوا الحملة ، وأخذ قبضة من التراب بعد ما دعا ربه واستنصره ، وقال : اللهم أنجز لي ما وعدتني ، ثم رمى القوم بها ، فما بقي إنسان منهم إلا أصابه منها في عينه وفمه ما يشغله عن القتال ، ثم انهزموا واتبع المسلمون أقفيتهم يأسرون ويقتلون ، وما تراجع بقية الناس إلا والأسارى مجدلة ، أي : ملقاة بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم .

وفي مسند أحمد من حديث يعلى بن عطاء قال : فحدثني أبناؤهم عن آبائهم أنهم قالوا : لم يبق منا أحد إلا امتلأت عيناه وفمه ترابا ، وسمعنا صلصلة بين السماء والأرض كإمرار الحديد على الطست الجديد ، وقال محمد بن إسحاق : حدثني والدي إسحاق بن بشار ، عمن حدثه عن جبير بن مطعم قال : إنا لمع رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم يوم حنين ، والناس يقتلون إذ نظرت إلى مثل النجاد الأسود يهوي من السماء حتى وقع بيننا وبين القوم ، فإذا نمل منثور قد ملأ الوادي فلم يكن إلا هزيمة القوم ، فما نشك أنها الملائكة ، وقال أبو معشر ثبت مع النبي صلى الله عليه وسلم يومئذ مائة رجل ; بضعة وثلاثون من المهاجرين ، وسائرهم من الأنصار ، وسل النبي صلى الله عليه وسلم سيفه ثم طرح غمده ، وقال [ ص: 295 ] الرجز المذكور ، وقال لأبي سفيان بن الحارث : ناولني ترابا فناوله ، وكان صلى الله تعالى عليه وسلم على بغلته البيضاء التي أهداها له فروة بن نفاثة ، وقال ابن هشام : قال صلى الله تعالى عليه وسلم حينئذ لبغلته الشهباء : البدي ، فوضعت بطنها على الأرض فأخذ حفنة فضرب بها وجوه هوازن ، وعند ابن سعد هذه البغلة هي دلدل ، وفي مسلم بغلته الشهباء يعني دلدلا التي أهداها له المقوقس ، ويجوز أن يكون ركبهما يومئذ معا ، والله أعلم .

قوله : " ثم أنـزل الله سكينته " أي : الأمنة والطمأنينة بعد الهزيمة ، وقال الزمخشري : رحمته التي سكنوا بها وآمنوا ، قوله : " وأنـزل جنودا لم تروها " قال ابن عباس : يعني الملائكة ، وكانوا ثمانية آلاف ، وقيل : خمسة آلاف ، وقيل : ستة عشر ألفا ، وكان سيماهم عمائم حمرا قد أرخوها بين أكتافهم ، قوله : " وعذب الذين كفروا " أي : بالقتل والهزيمة ، وقيل بالخوف ، وقيل بالأسر وسبي الأولاد ، وسبى النبي صلى الله تعالى عليه وسلم منهم ستة آلاف رأس ، ومن الإبل أربعة وعشرين ألف بعير ، ومن الغنم أكثر من أربعين ألفا ، ومن الفضة أربعة آلاف أوقية ، قوله : " وذلك جزاء الكافرين " أي : ما ذكر من القتل والأسر جزاء الكافرين ، قوله : ثم يتوب الله من بعد ذلك على من يشاء فيهديه إلى الإسلام ولا يؤاخذه بما سلف منه ، والله غفور رحيم ، وقد تاب الله على بقية هوازن وأسلموا وقدموا مسلمين ، ولحقوا النبي صلى الله تعالى عليه وسلم ، وقد قارب مكة عند الجعرانة ، وذلك بعد الوقعة بقريب من عشرين يوما ، فعند ذلك خيرهم بين سبيهم وأموالهم فاختاروا سبيهم ، وقسم أموالهم بين الغانمين ، ونفل ناسا من الطلقاء لتتألف قلوبهم على الإسلام ، فأعطاهم مائة مائة من الإبل ، وكان من جملة من أعطى مائة مالك بن عوف النضري ، فاستعمله على قومه كما كان وقال أبو عمر : مالك بن عوف بن سعد بن ربيعة بن يربوع بن واثلة بن دهمان بن نضر بن معاوية بن بكر بن هوازن النضري ، انهزم يوم حنين كافرا ، ولحق بالطائف فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لو أتاني مسلما لرددت إليه أهله وماله ، فبلغه ذلك فلحق برسول الله صلى الله عليه وسلم وقد خرج من الجعرانة ، فأسلم وأعطاه من الإبل كما أعطى سائر المؤلفة قلوبهم ، وهو أحدهم ، وحسن إسلامه فامتدحه بقصيدته التي يقول فيها :


ما إن رأيت ولا سمعت بمثله     في الناس كلهم بمثل محمد
أوفى وأعطى للجزيل إذا احتدى     ومتى يشاء يخبرك عما في غد
وإذا الكتيبة غردت أنيابها     بالسمهري وضرب كل مهند
فكأنه ليث على أشباله     وسط المياه جاذر في مرصد



التالي السابق


الخدمات العلمية