صفحة جزء
4959 باب من أجاز طلاق الثلاث لقول الله تعالى : الطلاق مرتان فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان


أي : هذا باب في بيان من أجاز تطليق المرأة بالطلاق الثلاث دفعة واحدة ، وفي رواية أبي ذر " باب من جوز الطلاق الثلاث " ، وهذا أوجه وأوضح .

ووضع البخاري هذه الترجمة إشارة إلى أن من السلف من لم يجوز وقوع الطلاق الثلاث ، وفيه خلاف ; فذهب طاوس ومحمد ابن إسحاق والحجاج بن أرطاة والنخعي وابن مقاتل والظاهرية إلى أن الرجل إذا طلق امرأته ثلاثا معا فقد وقعت عليها واحدة ، واحتجوا في ذلك بما رواه مسلم من حديث طاوس أن أبا الصهباء قال لابن عباس : أتعلم إنما كانت الثلاث تجعل واحدة على عهد النبي - صلى الله تعالى عليه وسلم - وأبي بكر وثلاثا من إمارة عمر ؟ فقال ابن عباس : نعم . وأخرجه الطحاوي أيضا وأبو داود والنسائي ، وقيل : لا يقع شيء . ومذهب جماهير العلماء من التابعين ومن بعدهم منهم الأوزاعي والنخعي والثوري وأبو حنيفة وأصحابه ومالك وأصحابه والشافعي وأصحابه وأحمد وأصحابه وإسحاق وأبو ثور وأبو عبيد وآخرون كثيرون - على أن من طلق امرأته ثلاثا وقعن ولكنه يأثم ، وقالوا : من خالف فيه فهو شاذ مخالف لأهل السنة ، وإنما تعلق به أهل البدع ومن لا يلتفت إليه لشذوذه عن الجماعة التي لا يجوز عليهم التواطؤ على تحريف الكتاب والسنة . وأجاب الطحاوي عن حديث ابن عباس بما ملخصه : إنه منسوخ ، بيانه أنه لما كان زمن عمر رضي الله تعالى عنه قال : يا أيها الناس ، قد كان لكم في الطلاق أناة ، وإنه من تعجل أناة الله في الطلاق ألزمناه إياه . رواه الطحاوي بإسناد صحيح ، وخاطب عمر رضي الله تعالى عنه بذلك الناس الذين قد علموا ما قد تقدم من ذلك في زمن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم ، فلم ينكر عليه منهم منكر ولم يدفعه دافع ، فكان ذلك أكبر الحجج في نسخ ما تقدم من ذلك ، وقد كان في أيام النبي - صلى الله عليه وسلم - أشياء على معان فجعلها أصحابه من بعده على خلاف تلك المعاني ، فكان ذلك حجة ناسخة لما تقدم ; من ذلك تدوين الدواوين ، وبيع أمهات الأولاد وقد كن يبعن قبل ذلك ، والتوقيت في حد الخمر ولم يكن فيه توقيت ، فإن قلت : ما وجه هذا النسخ وعمر رضي الله تعالى عنه لا ينسخ ؟ وكيف يكون النسخ بعد النبي صلى الله عليه وسلم ؟ قلت : لما خاطب عمر الصحابة بذلك فلم يقع إنكار صار إجماعا ، والنسخ بالإجماع جوزه بعض مشايخنا بطريق أن الإجماع موجب علم اليقين كالنص ، فيجوز أن يثبت النسخ به ، والإجماع في كونه حجة أقوى من الخبر المشهور ، فإذا كان النسخ جائزا بالخبر المشهور في الزيادة على النص فجوازه بالإجماع أولى . فإن قلت : هذا إجماع على النسخ من تلقاء أنفسهم ، فلا يجوز ذلك في حقهم - قلت : يحتمل أن يكون ظهر لهم نص أوجب النسخ ولم ينقل إلينا ذلك ، على أن الطحاوي قد روى أحاديث عن ابن عباس تشهد بانتساخ ما قاله من ذلك ، منها ما رواه من حديث الأعمش عن مالك بن الحارث قال : جاء رجل إلى ابن عباس فقال : إن عمي طلق امرأته ثلاثا ! فقال : إن عمك عصى الله فأثمه الله ، وأطاع الشيطان فلم يجعل له مخرجا . فقلت : فكيف ترى في رجل يحلها له ؟ فقال : من يخادع الله يخادعه . وقال الشافعي رضي الله تعالى عنه : يشبه أن يكون ابن عباس قد علم شيئا ثم نسخ ; لأنه لا يروي عن رسول الله - صلى الله تعالى عليه وسلم - شيئا ثم يخالفه بشيء [ ص: 234 ] لا يعلمه كان من النبي - صلى الله تعالى عليه وسلم - فيه خلاف ، فأجاب قوم عن حديث ابن عباس المتقدم أنه في غير المدخول بها ، وقال الجصاص : حديث ابن عباس هذا منكر .

قوله ( لقوله تعالى : الطلاق مرتان إلى آخره ، وجه الاستدلال به أن قوله تعالى الطلاق مرتان " معناه مرة بعد مرة ، فإذا جاز الجمع بين ثنتين جاز بين الثلاث ، وأحسن منه أن يقال : إن قوله أو تسريح بإحسان " عام متناول لإيقاع الثلاث دفعة واحدة . وقال ابن أبي حاتم : أنا يونس بن عبد الأعلى قراءة عليه ، أنا ابن وهب ، أخبرني سفيان الثوري ، حدثني إسماعيل بن سميع ، سمعت أبا رزين يقول : جاء رجل إلى النبي - صلى الله تعالى عليه وسلم - فقال : يا رسول الله ، أرأيت قول الله عز وجل فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان " ، أين الثالثة ؟ قال : التسريح بالإحسان . هذا إسناده صحيح ولكنه مرسل ، ورواه ابن مردويه من طريق قيس بن الربيع عن إسماعيل بن سميع عن أبي رزين مرسلا ، ثم قال : حدثنا عبد الله بن أحمد بن عبد الرحيم ، حدثنا أحمد بن يحيى ، حدثنا عبيد الله بن جرير بن خالد ، حدثنا عنبسة ، عن حماد بن سلمة ، عن قتادة ، عن أنس بن مالك رضي الله تعالى عنه قال : جاء رجل إلى النبي - صلى الله تعالى عليه وسلم - فقال : يا رسول الله ، ذكر الله الطلاق مرتين ، فأين الثالثة ؟ قال : إمساك بمعروف أو تسريح بإحسان .

التالي السابق


الخدمات العلمية