صفحة جزء
1869 1870 1871 ص: وذهب آخرون في ذلك إلى ما حدثنا يونس، قال: أنا ابن وهب ، أن مالكا حدثه، عن يزيد بن رومان ، عن صالح بن خوات ، عن من صلى مع النبي - عليه السلام - يوم ذات الرقاع صلاة الخوف: "أن طائفة صفت معه وطائفة وجاه العدو، فصلى بالذين معه ركعة ثم ثبت قائما وأتموا لأنفسهم، ثم انصرفوا، فصفوا وجاه العدو، ثم جاءت الطائفة الأخرى فصلى بهم الركعة التي بقيت من صلاته، ثم ثبت جالسا وأتموا لأنفسهم ثم سلم بهم".

[ ص: 228 ] حدثنا يونس، قال: أنا ابن وهب ، أن مالكا حدثه، عن يحيى بن سعيد ، عن القاسم بن محمد بن أبي بكر ، - رضي الله عنهم -، عن صالح بن خوات الأنصاري ، أن سهل بن أبي حثمة أخبره أن صلاة الخوف ... فذكر نحوه، ولم يذكره عن النبي - عليه السلام - وزاد في ذكر الركعة الآخرة قال: "فيركع بهم، . ثم يسجد، ثم يسلم، فيقومون فيركعون لأنفسهم الركعة الثانية، ثم يسلمون".

حدثنا أبو بكرة، قال: ثنا مؤمل ، قال: ثنا سفيان ، عن يحيى بن سعيد ..... فذكر بإسناده مثله.


ش: أي ذهب جماعة آخرون في باب "صلاة الخوف" إلى حديث صالح بن خوات، وأراد بهم: مالكا في رواية، والشافعي وأحمد وأصحابهما الأكثرين.

وقال أبو عمر بن عبد البر في "التمهيد": وإلى حديث يزيد بن رومان ذهب الشافعي وأصحابه في صلاة الخوف، وبه قال داود، وهو قول مالك الأول; لأن ابن القاسم ذكر عنه أنه رجع إلى حديث القاسم بن محمد في ذلك، والخلاف منه إنما هو في موضع واحد; وذلك أن الإمام عنده لا ينتظر الطائفة التي تقضي لأنفسها.

قال ابن القاسم: كان مالك يقول: لا يسلم الإمام حتى تقوم الطائفة الثانية فتتم لأنفسها ثم يسلم بهم.

وقال عياض في "شرح مسلم": أخذ مالك برواية صالح بن خوات التي رواها عنه في "موطإه"، وأخذ الشافعي وأشهب من أصحاب مالك برواية ابن عمر - رضي الله عنهما -.

وقال ابن قدامة في "المغني" بعد أن ذكر حديث سهل بن أبي حثمة: وبهذا قال مالك والشافعي .

ثم قال: ولنا ما روى صالح بن خوات عن من صلى مع النبي - عليه السلام - يوم ذات الرقاع.

وقال صاحب "البدائع": احتج الشافعي بما روى سهل بن أبي حثمة، ولنا ما روى ابن مسعود وابن عمر - رضي الله عنهم - انتهى.

[ ص: 229 ] وقال أحمد: وقد روي عن النبي - عليه السلام - صلاة الخوف على أوجه، وما أعلم في هذا الباب إلا حديثا صحيحا، واختار حديث سهل بن أبي حثمة .

وهكذا قال إسحاق بن إبراهيم، قال: قد ثبتت الروايات عن النبي - عليه السلام - في صلاة الخوف فرأى كل ما روي عن النبي - عليه السلام - في صلاة الخوف فهو جائز، وهذا على قدر الخوف.

قال إسحاق: ولسنا نختار حديث سهل بن أبي حثمة على غيره من الروايات.

ثم إنه أخرج حديث صالح بن خوات من ثلاث طرق صحاح.

الأول: عن يونس بن عبد الأعلى ، عن عبد الله بن وهب ، عن مالك ... إلى آخره.

وأخرجه البخاري في باب "غزوة ذات الرقاع": ثنا قتيبة بن سعيد ، عن مالك ، عن يزيد بن رومان ، عن صالح بن خوات عن من شهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم ذات الرقاع صلى صلاة الخوف: "أن طائفة صلت معه ... " إلى آخره نحو رواية الطحاوي سواء.

وأخرجه مسلم : عن يحيى بن يحيى ، عن مالك ... إلى آخره.

وأبو داود : عن القعنبي ، عن مالك .

والنسائي : عن قتيبة ، عن مالك .

الثاني: وهو موقوف: عن يونس بن عبد الأعلى أيضا ... إلى آخره.

وأخرجه مالك في "موطإه" : عن يحيى بن سعيد ، عن القاسم بن محمد ، عن صالح بن خوات الأنصاري، أن سهل بن أبي حثمة الأنصاري حدثه: "أن صلاة

[ ص: 230 ] الخوف أن يقوم الإمام ومعه طائفة من أصحابه، وطائفة مواجهة العدو، فيركع الإمام ركعة ويسجد بالذين معه،
ثم يقوم، فإذا استوى قائما ثبت، وأتموا لأنفسهم الركعة الثانية، ثم يسلمون وينصرفون والإمام قائم، فيكونون وجاه العدو، ثم يقبل الآخرون الذين لم يسلموا فيكبرون وراء الإمام، فيركع بهم الإمام ويسجد، ثم يسلم، فيقومون، فيركعون لأنفسهم الركعة الثانية، ثم يسلمون".

الثالث: موقوف أيضا، عن أبي بكرة بكار القاضي ، عن مؤمل بن إسماعيل ، عن سفيان الثوري ، عن يحيى بن سعيد الأنصاري ، عن القاسم بن محمد ، عن صالح بن خوات، أن سهل بن أبي حثمة أخبره.

وأخرجه العدني في "مسنده": ثنا سفيان ، عن يحيى بن سعيد ، عن القاسم بن محمد، عن سهل بن أبي حثمة قال: "صلاة الخوف أن يقوم الإمام مستقبل القبلة، ويقوم معه طائفة من أصحاب، وتقوم طائفة مستقبلة العدو، فيصلي بالطائفة التي معه ركعة ثم يستأخر أولئك، وتقوم الطائفة الأخرى فيصلي بهم ركعة، فيكون الإمام قد صلى ركعتين، وتصلي كل طائفة مكانها ركعة".

قوله: "يوم ذات الرقاع" وهي غزوة مشهودة كانت سنة خمس من الهجرة بأرض غطفان من نجد; سميت ذات الرقاع لأن أقدام المسلمين ثقبت من الحفاء فلفوا عليها الخرق، هذا هو الصحيح في سبب تسميتها، وقيل: سميت به لجبل هناك يقال له الرقاع; لأن فيه بياضا وحمرة وسوادا، وقيل: سميت بشجرة هناك يقال لها ذات الرقاع، وقيل: لأن المسلمين رقعوا راياتهم، ويحتمل أن هذه الأمور كلها وجدت فيها.

وقال النووي: شرعت صلاة الخوف في غزوة ذات الرقاع، وقيل: في غزوة بني النضير.

قوله: "وجاه العدو" بضم الواو أي مقابلهم وحذاءهم. وقال ابن الأثير: وتكسر الواو وتضم، وفي رواية "تجاه العدو" والتاء بدل من الواو مثلها في تقاة وتخمة.

[ ص: 231 ] وقال ابن قدامة: والعمل بهذا -أي بحديث صالح بن خوات- أولى; لأنه أشبه بكتاب الله تعالى، وأحوط للصلاة والحرب.

أما موافقة الكتاب: فإن قول الله تعالى: ولتأت طائفة أخرى لم يصلوا فليصلوا يقتضي أن جميع صلاتها معه، وعنده -أي عند أبي حنيفة- تصلى معه ركعة فقط، وعندنا جميع صلاتها معه، إحدى الركعتين توافقه في أفعاله وقيامه، والثانية تأتي بها قبل سلامه ثم تسلم معه، ومن مفهوم قوله: لم يصلوا أن الطائفة الأولى قد صلت جميع صلاتها، وعلى قولهم لم تصل إلا بعضها.

وأما الاحتياط للصلاة: فإن كل طائفة تأتي بصلاتها متوالية، بعضها توافق الإمام فيها فعلا، وبعضها تفارقه وتأتي به وحدها كالمسبوق، وعنده تنصرف من الصلاة فإما أن تمشي وإما أن تركب، وهذا عمل كثير وتستدبر القبلة، وهذا ينافي الصلاة ويفرق بين الركعتين تفريقا كثيرا بما ينافيها، ثم جعلوا الطائفة الأولى مؤتمة بالإمام بعد سلامه، ولا يجوز أن يكون المأموم مأموما في ركعة يأتي بها بعد سلام إمامه.

وأما الاحتياط للحرب: فإنه يتمكن من الضرب والطعن والتحريض، وإعلام غيره بما يراه مما يخفى عليه من أمر العدو وتحذيره، وإعلام الذين مع الإمام بما يحدث، ولا يمكن هذا على قولهم; ولأن مبنى صلاة الخوف على التخفيف; لأنهم في موضع الحاجة إليه، وعلى قولهم تطول الصلاة أضعاف ما كانت حال الأمن; لأن كل طائفة تحتاج إلى مضي إلى مكان الصلاة، ورجوع إلى وجاه العدو، وانتظار لمضي الطائفة الأخرى ورجوعها، فعلى تقدير أن يكون بين المكانين نصف ميل تحتاج كل طائفة إلى مشي ميل، وانتظار الأخرى قدر مشي ميل وهي في الصلاة، ثم تحتاج إلى تكلف الرجوع إلى موضع الصلاة لإتمام الصلاة من غير حاجة إليه والمصلحة تتعلق به فلو احتاج الأمر إلى مثل هذه الكلفة في الجماعة لسقطت عنه، فكيف نكلف الخائف وهو في مظنة التخفيف والحاجة إلى الرفق به؟

[ ص: 232 ] وأما مفارقة الإمام فجائزة للعذر ولا بد منها على القولين، فإنهم جوزوا للطائفة الأولى مفارقة الإمام والذهاب إلى وجه العدو، وهذا أعظم مما ذكرناه; فإنه لا نظير له في الشرع، ولا يوجد مثله في موضع آخر، والله أعلم، انتهى.

قلت: في جميع ما ذكره نظر:

أما قوله: أما موافقة الكتاب ... إلى آخره فليس كذلك، بل الذي ذكره يخالف الآية; لأن قوله تعالى: ولتأت طائفة أخرى لم يصلوا فليصلوا معك يدل على معنيين:

أحدهما: أن الإمام يجعلهم طائفتين في الأصل، طائفة معه، وطائفة بإزاء العدو على ما قال أبو حنيفة; لأنه قال: ولتأت طائفة أخرى وعلى قولهم يفتتح جميع الصلاة مع الإمام.

والثاني: قوله: لم يصلوا فليصلوا معك يقتضي نفي كل جزء من الصلاة، وهم يقولون: يفتتح الجميع الصلاة مع الإمام فيكونون حينئذ بعد الافتتاح فاعلين لشيء من الصلاة، وهذا خلاف الآية.

وأما قوله: "وعنده ينصرف في الصلاة ... " إلى آخره فغير مسلم; وذلك لأن المشي له نظير في الأصول وهو الراكب المنهزم يصلي وهو سائر بالاتفاق، وقد مر الكلام فيه عن قريب مستقصى.

وأما قوله: "ولا يجوز أن يكون المأموم مأموما في ركعة يأتي بها بعد سلام إمامه" فغير مسلم أيضا; لأن الطائفة الأولى لاحقة ولهذا يتمون صلاتهم بغير قراءة، فكأنهم في الحقيقة وراء الإمام.

وأما قوله: "فإنه يتمكن من الضرب والطعن" فمردود بقوله: "فإما أن يمشي وإما أن يركب"، وهذا عمل كثير; وذلك لأن المشي إذا كان عملا كثيرا فكذلك

[ ص: 233 ] الضرب والطعن عمل كثير، بل هو أقوى في الإفساد من ذاك، فكلما أجابوا عن ذلك فهو جوابنا عن ذاك.

وأما قوله: "وعلى قولهم: تطول الصلاة ... " إلى آخره، فغير مسلم، بل تطويل الصلاة فيما ذكروه; لأن ثبات الإمام قائما لأجل الطائفة الأولى لأن يتموا صلاتهم، وثباته جالسا لأجل الطائفة الثانية ليتموا صلاتهم حتى يسلم معهم مما يوجب التطويل، لكون الإمام مقيدا بالصلاة لأجل تكميل الطائفتين صلاتهم فيحتاج ذلك إلى زمن مديد، وفيما ذكرنا لا يلبث الإمام في الصلاة إلا زمنا يسيرا فهذا أولى; لأن الإمام هو الأصل في إعلام غيره بما يراه مما يخفى عليه من أمر العدو وتحذيره.

وأما قوله: "فإنه لا نظير له في الشرع" فباطل; لما قلنا: إن الراكب المنهزم يصلي وهو سائر، فكذلك الطائفة الأولى إذا فارقوا الإمام وذهبوا إلى وجه العدو ويكونون سائرين فسيرهم لا يضر صلاتهم، وهم وإن فارقوا الإمام ظاهرا ولكنهم وراء الإمام حكما لأنهم لاحقون، والله أعلم.

التالي السابق


الخدمات العلمية