صفحة جزء
4474 4475 ص: وفي حديث ابن عباس ما لو اكتفينا به كان حجة قاطعة، وذلك أنه قال: "فلما كان زمن عمر -رضي الله عنه- قال: يا أيها الناس قد كان لكم في الطلاق أناة، وإنه من تعجل أناة الله في الطلاق ألزمناه إياها".

حدثنا بذلك ابن أبي عمران ، قال: ثنا إسحاق بن أبي إسرائيل ، قال: أنا عبد الرزاق (ح).

وحدثنا عبد الحميد بن عبد العزيز، قال: ثنا أحمد بن منصور الرمادي، قال: ثنا عبد الرزاق ، عن معمر ، عن ابن طاوس ، عن أبيه ، عن ابن عباس، مثل الذي ذكرناه في أول هذا الباب، غير أنهما لم يذكرا أبا الصهباء ولا سؤاله ابن عباس، وأنهما ذكرا مثل جواب ابن عباس الذي في ذلك الحديث، وذكرا من كلام عمر -رضي الله عنه- ما قد ذكرناه قبل هذا الحديث، فخاطب عمر بذلك الناس جميعا وفيهم أصحاب رسول الله -عليه السلام- الذين قد علموا ما قد تقدم من ذلك في زمن رسول الله -عليه السلام- فلم ينكره عليه منهم منكر ولم يدفعه دافع، فكان ذلك أكبر الحجة في نسخ ما تقدم من ذلك؛ لأنه لما كان نقل أصحاب رسول الله -عليه السلام- فعلا تجب به الحجة، كان كذلك إجماعهم على القول إجماعا تجب به الحجة، وكما كان إجماعهم على النقل بريء من الوهم والزلل، كان كذلك إجماعهم على الرأي بريء من الوهم والزلل، وقد رأينا أشياء قد كانت على عهد رسول الله -عليه السلام- على معاني؛ فجعلها أصحابه من بعده على خلاف تلك المعاني لما رأوا منه مما قد خفي على من بعدهم، فكان ذلك [ ص: 49 ] حجة ناسخا لما قد تقدمه، من ذلك تدوين الدواوين، ومنع بيع أمهات الأولاد، وقد كن يبعن قبل ذلك، والتوقيت في حد الخمر ولم يكن فيه توقيت، فلما كان ما عملوا به من ذلك ووقفونا عليه لا يجوز لنا خلافه إلى ما رويناه مما تقدم فعلهم به، كان كذلك ما وقفونا عليه من الطلاق الثلاث الموقع معا أنه يلزم، لا يجوز لنا خلافه إلى غيره مما قد روي أنه كان قبله على خلاف ذلك.


ش: هذا جواب عن حديث ابن عباس الذي احتجت به أهل المقالة الأولى لما ذهبوا إليه، بيان ذلك أن يقال: روي عن ابن عباس في هذا الحديث مما لو اكتفينا به لقامت به حجة قاطعة فيما ندعيه من وقوع ثلاث طلقات عند التلفظ بها، وهو أنه قال في روايته: "فلما كان زمن عمر -رضي الله عنه- قال: أيها الناس، قد كان لكم في الطلاق أناة، وأنه من تعجل أناة الله في الطلاق ألزمناه إياه".

أخرجه من طريقين صحيحين:

الأول: عن أحمد بن أبي عمران موسى الفقيه البغدادي ، عن إسحاق بن أبي إسرائيل إبراهيم المروزي شيخ البخاري في غير الصحيح، عن عبد الرزاق بن همام ، عن معمر بن راشد ، عن عبد الله بن طاوس ، عن أبيه طاوس ، عن ابن عباس .

وأخرجه مسلم : نا إسحاق بن إبراهيم ومحمد بن رافع -واللفظ لابن رافع قال إسحاق: أنا، وقال [ابن] رافع-: نا عبد الرزاق، قال: أنا معمر ، عن ابن طاوس ، عن أبيه، عن ابن عباس قال: "كان الطلاق على عهد رسول الله -عليه السلام- وأبي بكر وسنتين من خلافة عمر؛ طلاق الثلاث واحدة، فقال عمر: إن الناس قد استعجلوا في أمر كانت لهم فيه أناة، فلو أمضيناه عليهم، فأمضاه عليهم".

[ ص: 50 ] الثاني: عن عبد الحميد بن عبد العزيز أبي خازم -بالمعجمتين- القاضي، أحد فقهاء الدنيا وأحد الأئمة الحنفية الكبار، الثقة الثبت، عن أحمد بن منصور بن سيار الرمادي شيخ ابن ماجه وأبي عوانة الإسفراييني ، عن عبد الرزاق ... إلى آخره.

وأخرجه البيهقي وغيره من حديث عبد الرزاق نحوه.

قوله: "أناة" بفتح الهمزة أي مهلة وبقية استمتاع وانتظار للرجعة. وفي "المطالع": الأناة -بالفتح والقصر- وهو الثبت في الأمور وترك العجلة. والثاني هو المكث والإبطاء، يقال: أنيت وأنيت -مشددا- وتأنيت.

قوله: "فخاطب عمر بذلك" أي بهذا القول الناس جميعا، والحال أن فيهم أصحاب رسول الله -عليه السلام-.

قوله: "فكان ذلك" أي رضاهم كلام عمر وعدم ردهم إياه أكبر الحجة؛ لأنه صار إجماعا، والإجماع من أقوى الحجج؛ بدليل قوله -عليه السلام-: "لا تجتمع أمتي على الضلالة" ولا سيما هؤلاء السادات من الصحابة -رضي الله عنهم- ومثل عمر بينهم.

قوله: "في نسخ ما تقدم من ذلك" أي من حديث ابن عباس .

فإن قيل: ما وجه هذا النسخ وعمر -رضي الله عنه- لا ينسخ؟! وكيف يكون النسخ بعد النبي -عليه السلام-؟! ولو كان عمر نسخ ذلك لبادرت الصحابة إلى إنكار ذلك عليه، وإن كان يراد أنه نسخ في حياة النبي -عليه السلام- فهو إرادة صحيحة ولكنه يلزم المحذور من وجه آخر؛ وهو أنه يخرج عن ظاهر الخبر في قوله: "كان على عهد النبي -عليه السلام- وأبي بكر"؛ لأنه إذا نسخ في عهد النبي -عليه السلام- لم يصدق الراوي فيما قال.

[ ص: 51 ] قلت: قد ذكرنا لك أن هذا بخطاب عمر للصحابة قد كان إجماعا، والنسخ بالإجماع جوزه بعض مشايخنا بطريق أن الإجماع يوجب علم اليقين كالنص، فيجوز أن يثبت النسخ به، والإجماع في كونه حجة أقوى من الخبر المشهور، فإذا كان النسخ يجوز بالخبر المشهور في الزيادة على النص، فجوازه بالإجماع أولى، وقد اعترض بعضهم بأن إجماعهم على النسخ من تلقاء أنفسهم لا يجوز في حقهم؛ لأنه يكون إجماعا على الخطأ وهم معصومون من ذلك.

وأجيب عن ذلك بأنه قد يحتمل أن يكون ظهر لهم نص أوجب النسخ ولم ينقل إلينا ذلك.

وقد أجاب الناس عن حديث ابن عباس بأجوبة غير ذلك منها: ما قال أحمد بن حنبل: إن رواية ابن عباس هذه مدفوعة برواية الناس عنه من وجوه بخلاف ذلك، وقال: كل أصحاب ابن عباس رووا عنه خلاف ما روى عنه طاوس .

وقال البيهقي: فلذلك ترك البخاري رواية هذا الحديث؛ لمخالفته سائر الروايات عن ابن عباس، أنه أجاز الطلاق وأمضاه، وقال بعضهم: هذا الحديث في غير المدخول بها، وذهب إلى هذا جماعة من أصحاب ابن عباس -رضي الله عنهما-، ورأوا أن الثلاث لا تقع على غير المدخول بها؛ لأنها بالواحدة تبين، فإذا قال: أنت طالق بانت، وقوله: ثلاثا كلام وقع بعد البينونة فلا يعتد به، وقال بعضهم: المراد به: أنه كان المعتاد في زمن النبي -عليه السلام- تطليقة واحدة، وقد اعتاد الناس الآن التطليق بالثلاث.

وقال أبو العباس أحمد بن سريج جوابا آخر قد ذكرناه في باب الرجل يطلق امرأته وهي حائض؛ فليعاود هناك.

وقال الجصاص: حديث ابن عباس هذا منكر على ما قيل.

قلت: قاله الطحاوي هكذا في غير هذا الموضع.

[ ص: 52 ] قوله: "من ذلك تدوين الدواوين". الدواوين: جمع ديوان، وهو الكتاب الذي يكتب فيه أهل الجيش وأهل العطية، وأول من دون الدواوين عمر بن الخطاب -رضي الله عنه-. والديوان أصله دون -بتشديد الواو- فعوض من إحدى الواوين ياء؛ لأنه جمع على دواوين، ولو كانت الياء أصلية لقالوا: دياوين. قاله الجوهري، وحكى ابن دريد: دياون، فافهم.

قوله: "ولم يكن فيه توقيت" أي حد معلوم.

التالي السابق


الخدمات العلمية