صفحة جزء
غريب ألفاظ الأحاديث


759 . والنضر أو معمر خلف أول من صنف الغريب فيما نقلوا      760 . ثم تلا أبو عبيد واقتفى
القتبي ثم حمد صنفا      761 . فاعن به ولا تخض بالظن
ولا تقلد غير أهل الفن      762 . وخير ما فسرته بالوارد
كالدخ بالدخان لابن صائد      763 . كذاك عند الترمذي ، والحاكم
فسره الجماع وهو واهم


غريب الحديث ، هو ما يقع فيه من الألفاظ الغامضة البعيدة عن الفهم . وقد صنف فيه جماعة من الأئمة ، واختلفوا في أول من صنف فيه . فقال الحاكم في علوم الحديث : "أول من صنف الغريب في الإسلام النضر بن شميل . ثم صنف فيه أبو [ ص: 85 ] عبيد القاسم بن سلام كتابه الكبير" قال ابن الصلاح : "ومنهم من خالفه فقال : أول من صنف فيه أبو عبيدة معمر بن المثنى" . وقال الحافظ محب الدين الطبري في كتاب تقريب المرام : وقد قيل : إن أول من جمع في هذا الفن شيئا ، وألفه أبو عبيدة معمر بن المثنى ، ثم النضر بن شميل ، ثم عبد الملك بن قريب الأصمعي ، وكان في عصر أبي عبيدة ، وتأخر ، وكذلك قطرب ، وغيره من أئمة الفقه ، واللغة ، جمعوا أحاديث تكلموا على لغتها ، ومعناها ، في أوراق ذوات عدد ، ولم يكن أحد منهم ينفرد عن غيره بكثير حديث لم يذكره الآخر . واستمرت الحال إلى زمن أبي عبيد القاسم بن سلام ، وذلك بعد المائتين ، فجمع كتابه المشهور في غريب الحديث والآثار . انتهى . ثم بعد ذلك صنف أبو محمد عبد الله بن مسلم بن قتيبة الدينوري القتبي كتابه المشهور فزاد على أبي عبيد مواضع وتتبعه في مواضع . ثم صنف بعده أبو سليمان حمد بن محمد بن إبراهيم الخطابي كتابه في ذلك ، فزاد على القتبي ، ونبه على أغاليط له .

وصنف فيه جماعة منهم : قاسم بن ثابت بن حزم السرقسطي ، وعبد الغافر الفارسي كتابا سماه : مجمع الغرائب ، وصنف الزمخشري كتابه الفائق ، وبعده أبو الفرج ابن الجوزي . وكان جمع بين الغريبين : غريبي القرآن والحديث أبو عبيد أحمد [ ص: 86 ] بن محمد الهروي ، صاحب أبي منصور الأزهري ، وذيل عليه الحافظ أبو موسى المديني ذيلا حسنا . ثم جمع بينهما مقتصرا على غريب الحديث فقط أبو السعادات المبارك بن محمد بن الأثير الجزري ، وزاد عليهما زيادات كثيرة ، وذلك في كتابه النهاية . وبلغني أن الإمام صفي الدين محمود بن محمد بن حامد الأرموي ، ذيل عليه ذيلا لم أره ، وبلغني أنه كتبه حواش على أصل النهاية فقط ، وإن الناس أفردوه . وقد كنت كتبت على نسخة - كانت عندي من النهاية - حواشي كثيرة ، وأرجو أن أجمعها ، وأذيل عليه بذيل كبير ، إن شاء الله تعالى .

وقولي : (فاعن به) أي بعلم الغريب ، أي : اجعله من عنايتك ، واحفظه ، واشتغل به . فإن قيل : إنما تستعمل هذه اللفظة مبينة لما لم يسم فاعله ، يقال : عنيت بالأمر عناية ، كما جزم به صاحبا الصحاح والمحكم ، وعلى هذا فلا يؤمر منه بصيغة على صيغة افعل . قال الجوهري وإذا أمرت منه قلت : لتعن بحاجتي قلت فيه لغتان : عني ، وعني . وممن حكاهما صاحب الغريبين ، والمطرزي : وفي الحديث : أنه قال لرجل : لقد عني الله بك . قال ابن الأعرابي : أي : حفظ دينك . قال الهروي : يقال عنيت بأمرك ، فأنا معني بك ، وعنيت بأمرك أيضا ، فأنا عان .

ولا ينبغي لمن تكلم في غريب الحديث أن يخوض فيه رجما بالظن ، فقد روينا عن أحمد بن حنبل أنه سئل عن حرف منه ، فقال : سلوا أصحاب الغريب ، فإني أكره أن [ ص: 87 ] أتكلم في قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالظن . وسئل الأصمعي عن حديث : "الجار أحق بسقبه" ، فقال : أنا لا أفسر حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، ولكن العرب تزعم أن السقب : اللزيق .

ولا ينبغي أن يقلد من الكتب المصنفة في الغريب ، إلا ما كان مصنفوها أئمة جلة في هذا الشأن . فمن لم يكن من أهله ، تصرف فيه فأخطأ . وقد كان بعض العجم يقرأ علي من مدة سنين في المصابيح للبغوي ، فقرأ حديث : "إذا سافرتم في الخصب ، فأعطوا الإبل حقها ، وإذا سافرتم في الجدب ، فبادروا بها نقيها" ، فقرأها نقبها - بفتح النون وبالباء الموحدة بعد القاف - فقلت له : إنما هي نقيها - بالكسر والياء آخر الحروف - فقال : هكذا ضبطه بعض الشراح في طرة الكتاب . فأخذت منه الكتاب ، وإذا على الحاشية كما ذكر . وقال النقب : الطريق الضيق بين جبلين . فقلت : هذا خطأ وتصحيف فاحش ، وإنما هو النقي ، أي : المخ الذي في العظم . ومنه قوله في حديث أم زرع : "لا سمين فينتقى" ، وفي حديث [ ص: 88 ] الأضحية : "والعجفاء التي لا تنقي" . فليحذر طالب العلم ضبط ذلك من الحواشي ، إلا إذا كانت بخط من يعرف خطه من الأئمة .

وأحسن ما يفسر به الغريب ما جاء مفسرا به في بعض طرق الحديث ، كقول النبي - صلى الله عليه وسلم - في الحديث الصحيح المتفق عليه لابن صائد : "قد خبأت لك خبيئا فما هو ؟ قال : الدخ" . فالدخ هنا : هو الدخان ، وهو لغة فيه . حكاها ابن دريد ، وابن السيد ، والجوهري ، وغيرهم . وحكى ابن السيد فيه أيضا : فتح الدال . وقد روى أبو داود والترمذي من رواية الزهري ، عن سالم ، عن ابن عمر في هذا الحديث ، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال له : "إني قد خبأت لك خبيئة" -وقال الترمذي : "خبيئا" - وخبأ له يوم تأتي السماء بدخان مبين قال الترمذي : هذا حديث صحيح ، [ ص: 89 ] والحديث متفق عليه دون ذكر الآية . وذكر أبو موسى المديني : أن السر في كونه خبأ له الدخان ، أن عيسى - صلى الله عليه وسلم - يقتله بجبل الدخان فهذا هو الصواب في تفسير الدخ هنا . وقد فسره غير واحد على غير ذلك فأخطأ ، ومنهم الحاكم في علوم الحديث ، قال : سألت الأدباء عن تفسير الدخ ، قال : يدخها ، ويزخها ، بمعنى واحد ، الدخ والزخ ، قال : والمعنى الذي أشار إليه ابن صياد - خذله الله - فيه مفهوم ، ثم أنشد لعلي بن أبي طالب - رضي الله عنه - :


طوبى لمن كانت له مزخه يزخها ثم ينام الفخه



فالمزخة - بالفتح - : هي المرأة . قاله الجوهري . ومعنى يزخها : يجامعها . والفخة : أن ينام فينفخ في نومه . هذا الذي فسر الحاكم به الحديث من كونه [ ص: 90 ] الجماع ، تخليط فاحش ، كما قال ابن الصلاح ، ثم إني لم أر في كلام أهل اللغة أن الدخ -بالدال- : هو الجماع . وإنما ذكروه بالزاي فقط . وممن فسره على غير الصواب أيضا أبو سليمان الخطابي فرجح أن الدخ : نبت موجود بين النخيل ، وقال : لا معنى للدخان هاهنا ، إذ ليس مما يخبأ ، إلا أن يريد بـ : خبأت أضمرت وما قاله الخطابي أيضا غير مرضي . وقولي : ( والحاكم ) ، هو ابتداء كلام مرفوع ، (وفسره) : في موضع الخبر .

التالي السابق


الخدمات العلمية