المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم

أبو العباس القرطبي - ضياء الدين أحمد بن عمر القرطبي

صفحة جزء
(6) باب

الأمر بتنزيل الناس منازلهم ووجوب الكشف عمن له عيب من رواة الحديث

[ 6 ] عن عائشة ; أنها قالت : أمرنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن ننزل الناس منازلهم .

استدل به مسلم هكذا ولم يسنده ، وقد ذكره أبو داود في مصنفه ، وأبو بكر البزار في مسنده ، وقال : لا يعلم إلا من حديث ميمون بن أبي شبيب ، عن عائشة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم .

- وعن أبي عقيل يحيى بن المتوكل صاحب بهية ، قال : كنت جالسا عند القاسم بن عبيد الله ، ويحيى بن سعيد ، وقال يحيى للقاسم : يا أبا محمد ، إنه قبيح - على مثلك - عظيم أن تسأل عن شيء من أمر هذا الدين ، فلا يوجد عندك منه علم ولا فرج ، أو علم ولا مخرج . فقال له القاسم : وعم ذاك ؟ قال : لأنك ابن إمامي هدى ; ابن أبي بكر وعمر ، قال : يقول له القاسم : أقبح من ذلك عند من عقل عن الله أن أقول بغير علم ، أو آخذ عن غير ثقة ، قال : فسكت فما أجابه .

- وفي رواية : فقال له يحيى بن سعيد : إني لأعظم أن يكون مثلك - وأنت ابن إمامي الهدى ; يعني عمر وابن عمر - تسأل عن أمر ليس عندك فيه علم ، فقال : أعظم من ذلك عند الله ، وعند من عقل عن الله ، أن أقول بغير علم ، أو آخذ عن غير ثقة .

- وقال يحيى بن سعيد القطان : لم نر أهل الخير في شيء أكذب منهم في الحديث .

قال مسلم : يقول : يجري الكذب على لسانهم ، ولا يتعمدون الكذب .

- وقال أبو الزناد : أدركت بالمدينة مائة ، كلهم مأمون ، ما يؤخذ عنهم الحديث ، يقال : ليس من أهله .

- وقال يحيى بن سعيد : سألت سفيان الثوري ، وشعبة ، ومالكا ، وابن عيينة ، عن الرجل لا يكون ثبتا في الحديث ، فيأتيني الرجل فيسألني عنه ؟ فقالوا : أخبر عنه أنه ليس بثبت .

- وذكر مسلم عن جماعة كثيرة من السلف كابن المبارك ، والشعبي ، وإبراهيم النخعي ، وأيوب السختياني ، وغيرهم : التنصيص على عيوب أقوام بأعيانهم ، وذكر كذب بعضهم ، والتحذير عن الرواية عنهم : بابا طويلا قال في آخره : وإنما ألزموا أنفسهم الكشف عن معايب رواة الحديث ، وناقلي الأخبار ، وأفتوا بذلك حين سئلوا ، لما فيه من عظيم الخطر ; إذ الأخبار في أمر الدين إنما تأتي بتحليل أو تحريم ، أو أمر أو نهي ، أو ترغيب أو ترهيب ; فإذا كان الراوي لها ليس بمعدن الصدق والأمانة ، ثم أقدم على الرواية عنه من قد عرفه ، ولم يبين ما فيه لغيره ممن جهل معرفته : كان آثما بفعله ذلك ، غاشا لعوام المسلمين ; إذ لا يؤمن على بعض من سمع تلك الأخبار أن يستعملها ، أو يستعمل بعضها ، ولعلها أو أكثرها أحاديث أكاذيب لا أصل لها .

فهذا الباب ما ذكره في صدر كتابه .

رواه مسلم ( 1 \ 6 - المقدمة ) ، وأبو داود ( 4842 ) مرفوعا من قوله صلى الله عليه وسلم - بلفظ : " أنزلوا الناس منازلهم " وفيه انقطاع .


(6) ومن باب : الأمر بتنزيل الناس منازلهم ووجوب الكشف عمن له عيب من رواة الحديث

(قول عائشة - رضي الله عنها - : " أمرنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن ننزل الناس منازلهم ") . استدلال مسلم بهذا الحديث يدل ظاهرا على أنه لا بأس به ، وأنه مما يحتج به عنده ، وإنما لم يسنده في كتابه ; لأنه ليس على شرط كتابه .

وقد أسنده أبو بكر البزار في مسنده ، عن ميمون بن أبي شبيب ، عن عائشة ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وقال : لا يعلم عن النبي - صلى الله عليه وسلم - إلا من هذا الوجه ، وقد روي عن عائشة من غير هذا الوجه موقوفا .

وقد ذكره أبو داود في " مصنفه " ، فقال : حدثنا إسماعيل بن أبي خلف ; أن يحيى بن يمان أخبرهم ، عن سفيان ، عن حبيب بن أبي ثابت ، عن ميمون بن [ ص: 126 ] أبي شبيب ; أن عائشة مر بها سائل فأعطته كسرة ، ومر بها رجل عليه ثياب زاهية ، فأقعدته فأكل ، فقيل لها في ذلك ، فقالت : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " أنزلوا الناس منازلهم " . قال ابن الأعرابي : قال أبو داود : ميمون لم ير عائشة .

قال المؤلف رحمه الله تعالى : وعلى هذا ، فالحديث منقطع ; فقد ظهر لأبي داود من هذا الحديث ما لم يظهر لمسلم ، ولو ظهر له ذلك ، لما جاز له أن يستدل به ، إلا أن يكون يعمل بالمراسيل ، والله أعلم أن مسلما إنما قال : وذكر عن عائشة ، وهو مشعر بضعفه ، وأنه لم يكن عنده مما يعتمده .

[ ص: 127 ] ومعنى هذا الحديث : الحض على مراعاة مقادير الناس ، ومراتبهم ، ومناصبهم ، فيعامل كل أحد منهم بما يليق بحاله ، وبما يلائم منصبه في الدين والعلم والشرف والمرتبة ; فإن الله تعالى قد رتب عبيده وخلقه ، وأعطى كل ذي حق حقه ، وقد قال صلى الله عليه وسلم : " خيارهم في الجاهلية خيارهم في الإسلام إذا فقهوا " .

و " أبو عقيل " هو : بفتح العين وكسر القاف ، واسمه : يحيى بن المتوكل ; كما ذكره في الأصل .

" وبهية " بضم الباء ، وفتح الهاء ، وما بعدها ، تصغير بهية ، وهي امرأة كانت تروي عن عائشة أم المؤمنين ، وهي التي سمتها بهذا الاسم ، وكان هذا أبو عقيل قد روى عنها ، وعرف بها ; فنسب إلى صحبتها ، وقد خرج عنها أبو داود .

و (قول يحيى بن سعيد الأنصاري للقاسم : " إنك ابن أبي بكر وعمر ") إنما صحت النسبتان على القاسم ; لأن أباه هو عبيد الله بن عبد الله بن عمر ، وأمه هي ابنة القاسم بن محمد بن أبي بكر ، وباسم جده هذا ، كان يكنى ; فـ " عمر " جده لأبيه الأعلى ، و " أبو بكر " جده لأمه ; فصدقت عليه النسبتان .

و (قول يحيى القطان : " لم ير أهل الخير في شيء أكذب منهم في الحديث ") يعني به : الغلط والخطأ ; كما فسره مسلم . وسبب هذا : أن أهل الخير هؤلاء المعنيين غلبت عليهم العبادة ، فاشتغلوا بها عن الرواية ، فنسوا الحديث ، ثم إنهم [ ص: 128 ] تعرضوا للحديث فغلطوا ، أو كثر عليهم الوهم فترك حديثهم ، كما اتفق للعمري ، وفرقد السبخي ، وغيرهما .

و (قول أبي الزناد : " أدركت بالمدينة مائة كلهم مأمون ") يعني : أنهم كانوا موثوقا بهم في دينهم وأمانتهم ، غير أنهم لم يكونوا حفاظا للحديث ، ولا متقنين لروايته ، ولا متحرزين فيه ; فلم تكن لهم أهلية الأخذ عنهم ، وإن كانوا قد تعاطوا الحديث والرواية .

[ ص: 129 ] وفتيا سفيان ومن بعده هي التي يجب العمل بها . ولا يختلف المسلمون في ذلك ; كما ذكره مسلم بعد هذا وأوضحه .

وحاصله أن ذكر مساوئ الراوي والشاهد القادحة في عدالتهما وفي روايتهما : أمر ضروري ; فيجب ذلك ; فإنه إن لم يفعل ذلك ، قبل خبر الكذاب ، وشهادة الفاسق ، وغش المسلمون ، وفسدت الدنيا والدين . ولا يلتفت لقول غبي جاهل يقول : ذلك غيبة ; لأنها وإن كانت من جنس الغيبة ، فهي واجبة بالأدلة القاطعة ، والبراهين الصادعة ; فهي مستثناة من تلك القواعد ; للضرورة الداعية .

التالي السابق


الخدمات العلمية