المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم

أبو العباس القرطبي - ضياء الدين أحمد بن عمر القرطبي

صفحة جزء
9 (1) كتاب الإيمان

(1) باب

معاني الإيمان والإسلام والإحسان شرعا

[ 7 ] عن يحيى بن يعمر ، قال : كان أول من قال في القدر بالبصرة معبد الجهني ، فانطلقت أنا وحميد بن عبد الرحمن الحميري - حاجين أو معتمرين - فقلنا : لو لقينا أحدا من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فسألناه عما يقول هؤلاء في القدر! فوفق لنا عبد الله بن عمر بن الخطاب داخلا المسجد ، فاكتنفته أنا وصاحبي ، أحدنا عن يمينه ، والآخر عن شماله ، فظننت أن صاحبي سيكل الكلام إلي ، فقلت : أبا عبد الرحمن ، إنه قد ظهر قبلنا ناس يقرؤون القرآن ، ويتقفرون العلم - وذكر من شأنهم : وأنهم يزعمون أن لا قدر ، وأن الأمر أنف . فقال : إذا لقيت أولئك فأخبرهم أني بريء منهم ، وأنهم برآء مني ، والذي يحلف به عبد الله بن عمر ! لو أن لأحدهم مثل أحد ذهبا فأنفقه ، ما قبل الله منه حتى يؤمن بالقدر . ثم قال : حدثني أبي عمر بن الخطاب ، قال : بينما نحن عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ذات يوم ، إذ طلع علينا رجل شديد بياض الثياب ، شديد سواد الشعر ، لا يرى عليه أثر السفر ، ولا يعرفه منا أحد ، حتى جلس إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فأسند ركبتيه إلى ركبتيه ، ووضع كفيه على فخذيه ، وقال : يا محمد ، أخبرني عن الإسلام . فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : الإسلام أن تشهد أن لا إله إلا الله ، وأن محمدا رسول الله ، وتقيم الصلاة ، وتؤتي الزكاة ، وتصوم رمضان ، وتحج البيت إن استطعت إليه سبيلا . قال : صدقت . قال : فعجبنا له يسأله ويصدقه ! قال : فأخبرني عن الإيمان ؟ قال : أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر ، وتؤمن بالقدر خيره وشره . قال : صدقت . قال : فأخبرني عن الإحسان ؟ قال : أن تعبد الله كأنك تراه ، فإن لم تكن تراه فإنه يراك .

قال : فأخبرني عن الساعة ؟ قال : ما المسؤول عنها بأعلم من السائل . قال : فأخبرني عن أماراتها ؟ قال : أن تلد الأمة ربتها ، وأن ترى الحفاة العراة العالة رعاء الشاء يتطاولون في البنيان . قال : ثم انطلق ، فلبثت مليا ، ثم قال : يا عمر ، أتدري من السائل ؟ قلت : الله ورسوله أعلم . قال : فإنه جبريل ; أتاكم يعلمكم دينكم .


رواه أحمد ( 1 \ 51 ) ، ومسلم ( 8 ) ، وأبو داود ( 4695 ) ، والترمذي ( 2613 ) ، والنسائي ( 8 \ 97 ) ، وابن ماجه ( 63 ) .


[ ص: 130 ] [ ص: 131 ] (1)

كتاب الإيمان

(1) ومن باب معاني الإيمان والإسلام والإحسان شرعا

مقصود هذا الباب : إيضاح معاني هذه الأسماء في الشرع دون اللغة ; فإن الشرع قد تصرف فيها على ما يأتي بيانه .

و (قول يحيى بن يعمر : " كان أول من قال في القدر بالبصرة معبد الجهني ") معبد هذا : هو معبد بن عبد الله بن محمد ، وقيل : معبد بن خالد ، والصحيح : أن لا ينسب . وهو بصري ، روى عن عمر مرسلا ، وعن عمران ، وروى عنه : قتادة ، ومالك بن دينار ، وعوف الأعرابي .

قال أبو حاتم : وكان صدوقا في الحديث ، ورأسا في القدر ، قدم المدينة فأفسد فيها ما شاء الله ، وقال يحيى بن معين : هو ثقة .

[ ص: 132 ] القدر : مصدر قدرت الشيء - خفيفة الدال ، أقدره ، وأقدره قدرا وقدرا : إذا أحطت بمقداره ، ويقال فيه : قدرت أقدر تقديرا ، مشدد الدال للتضعيف ; فإذا قلنا : إن الله تعالى قدر الأشياء ، فمعناه : أنه تعالى علم مقاديرها وأحوالها وأزمانها قبل إيجادها ، ثم أوجد منها ما سبق في علمه أنه يوجده على نحو ما سبق في علمه ; فلا محدث في العالم العلوي والسفلي إلا وهو صادر عن علمه تعالى وقدرته وإرادته .

هذا هو المعلوم من دين السلف الماضين ، والذي دلت عليه البراهين . وقد حكى أرباب المقالات عن طوائف من القدرية إنكار كون البارئ تعالى عالما بشيء من أعمال العباد قبل وقوعها منهم ، وإنما يعلمها بعد كونها ، قالوا : لأنه لا فائدة لعلمه بها قبل إيجادها ، وهو عبث ، وهو على الله محال .

قال الشيخ - رحمه الله تعالى - : وقد روي عن مالك أنه فسر مذهب القدرية بنحو ذلك ، وهذا المذهب هو الذي وقع لأهل البصرة ، وهو الذي أنكره ابن عمر .

ولا شك في تكفير من يذهب إلى ذلك ، فإنه جحد معلوم من الشرع ضرورة ; ولذلك تبرأ منهم ابن عمر ، وأفتى بأنهم لا تقبل منهم أعمالهم ولا نفقاتهم ، وأنهم كما قال الله تعالى فيهم : وما منعهم أن تقبل منهم نفقاتهم إلا أنهم كفروا بالله وبرسوله [ التوبة : 54 ]

وهذا المذهب هو مذهب طائفة منهم تسمى السكبية ، وقد ترك اليوم ، فلا يعرف من ينسب إليه من المتأخرين من أهل البدع المشهورين .

والقدرية اليوم : مطبقون على أن الله تعالى عالم بأفعال العباد قبل وقوعها ; [ ص: 133 ] ومعنى القدر عند القائلين به اليوم : أن أفعال العباد مقدورة لهم ، وواقعة منهم بقدرتهم ومشيئتهم ، على جهة الاستقلال ، وأنها ليست مقدورة لله تعالى ولا مخلوقة له ، وهو مذهب مبتدع باطل بالأدلة العقلية والسمعية المذكورة في كتب أئمتنا المتكلمين .

و (قوله : " فانطلقت أنا وحميد بن عبد الرحمن الحميري حاجين أو معتمرين ") كذا الرواية الصحيحة بـ " أو " التي للشك ; فكأنه عرض له شك في حالهما ، هل كانا حاجين أو كانا معتمرين ؟ وأجيب : بأنه وقع في بعض النسخ : حاجين ومعتمرين بالواو الجامعة ; على أنهما كانا قارنين ، وفيه بعد ، والصحيح الأول ، والله أعلم .

و (قوله : " لو لقينا أحدا من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ") " لو " هنا بمعنى ليت ; وهي نحو قوله تعالى : ربما يود الذين كفروا لو كانوا مسلمين [ الحجر : 2 ] ونحو قول امرئ القيس :


. . . . . . . . . . . . . . لو يشرون مقتلي

[ ص: 134 ] ويأتي لامتناع الامتناع وهو أصلها ، وبمعنى : إن ; كقوله تعالى : ولو أعجبتكم [ البقرة : 221 ] وللتقليل ; كقوله عليه الصلاة والسلام : " التمس ولو خاتما من حديد " .

و ( قوله : " فاكتنفته أنا وصاحبي ") أي : صرنا بكنفيه . والكنف والكنيف : الساتر ; ومنه قول العرب : أنا في كنفك ، أي : في سترك .

وإنما جاءاه كذلك تأدبا واحتراما ; إذ لو قاما أمامه ، لمنعاه المشي ، ولو صارا له من جانب واحد ، لكلفاه الميل إليهما ، وكانت هذه الهيئة أحسن ما أمكنهما .

و (قوله : " فظننت أن صاحبي سيكل الكلام إلي ") هذا منه اعتذار عن توهم اعتراض ينسب إليه فيه قلة المبالاة بصاحبه ، واستئثاره عليه بالمسابقة إلى الكلام ; فبين وجه اعتذاره عن ذلك ; وذلك أنه علم من صاحبه أنه يكل الكلام إليه : فإما لكونه أحسن منه سؤالا وأبلغ بيانا ، وإما لحياء يلحق صاحبه يمنعه من السؤال ، وإما إيثارا له ، والله أعلم .

و (قوله : " يا أبا عبد الرحمن : فيه دليل على ما كانوا عليه من الاقتصاد في كلماتهم ، وترك الإطراء والمدح وإن كان حقا ، فقد كان ابن عمر من أعلم الناس وأفضلهم ، وابن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب ، ومع ذلك فلم يمدحوه بشيء من ذلك مع جلالته ولا أطروه ; محاسبة منهم لأنفسهم على ألفاظهم ، واكتفاء بما [ ص: 135 ] يعلم من فضائل الرجل عن القول والمدح الذي يخاف منه الفتنة على المادح والممدوح .

و (قوله : " إنه قد ظهر قبلنا ناس ") أي : فشا مذهبهم وانتشر ، وهو من الظهور الذي يضاد الخفاء .

و (قوله : " يقرؤون القرآن ، ويتقفرون العلم ") ; وهذه اللفظة بتقديم القاف وتأخير الفاء ، أي : يتبعون ويجمعون ، يقال : اقتفر أثره ، أي : تتبعه . ورواهاأبو العلاء بن ماهان بتقديم الفاء وتأخير القاف ، أي : إنهم يخرجون غامضه ، ويبحثون عن أسراره ، ومنه قول عمر بن الخطاب - وذكر امرأ القيس - فقال : افتقر عن معان عور أصح بصر ، أي : فتح عن معان غامضة مبصرا .

وروي - في غير كتاب مسلم - : يتقفون بواو مكان الراء ، من قفوت أثره ، أي : تتبعته ، وهو من القفاء ، وكلها واضح .

و (قوله : " وذكر من شأنهم ") أي : عظم أمرهم في الذكاء ، والجد في طلب العلم ، وإنما ذكر له ذلك من أوصافهم ; تنبيها له على الاعتناء بمقالتهم والبحث عنها ; ليوضح أمرها ; فإن كلامهم قد وقع من القلوب بالموقع الذي لا يزيله إلا إيضاح بالغ ، وبرهان واضح ، ولما فهم ابن عمر ذلك أفتى بإبطال مذهبهم وفساده ، وحكم بكفرهم ، وتبرأ منهم ، واستدل على ذلك بالدليل القاطع عنده .

و (قوله : " إن الأمر أنف ") أي : مستأنف ، ومعناه عندهم : أنه لم تسبق به سابقة علم الله ولا مشيئته ، وإنما أفعال الإنسان موجودة بعلم الإنسان واختياره ; كما تقدم من مذهبهم .

وأنف كل شيء : أوله ، ومنه : أنف الوجه ; لأنه أول [ ص: 136 ] الأعضاء في الشخوص ، وأنف السيل : أوله ; كما قال امرؤ القيس :


قد غدا يحملني في أنفه     لاحق الأيطل محبوك ممر

وروض أنف : لم يرع قبل ، وكذلك كأس أنف : لم يشرب قبل ; ومنه قوله تعالى : ماذا قال آنفا [ محمد : 16 ] أي : هذه الساعة المستأنفة .

و (قوله : " والذي يحلف به عبد الله بن عمر " ) هذه كناية عن الحلف باسم الله ; فإنه هو الذي كان يحلف به غالبا ، ولم يتلفظ به ; إجلالا لأسماء الله تعالى عن أن تتخذ عرضة لكثرة الأيمان بها ، والله أعلم .

و (قوله : " لو أن لأحدهم مثل أحد ذهبا فأنفقه ما قبل الله منه حتى يؤمن بالقدر ") هذا صريح في أنه كفرهم بذلك القول المحكي عنهم ; لأنه حكم عليهم بما حكم الله به على الكفار في الآية المتقدمة ، وقد قلنا : إن تكفير هذه الطائفة مقطوع به ; لأنهم أنكروا معلوما ضروريا من الشرع .

و (قوله : " بينما نحن عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ") " بينا " هذه هي الظرفية ، زيدت عليها الألف ; لتكفها عن عملها الذي هو الخفض ، كما قد زيدت عليها أيضا " ما " لذلك ، وما بعدها مرفوع بالابتداء في اللغة المشهورة . ومنهم من خفض ما بعد الألف على الأصل ; فقال :

[ ص: 137 ]

بينا تعانقه الكماة وروغه     يوما أتيح له جريء سلفع

وروي بخفض تعانقه ورفعه ; وعلى هذا فالألف والميم ليستا للكف ، لكن لتمكن النطق .

وقد ذهب بعض النحويين إلى أنها للتأنيث في الوجهين ، وهي عنده فعلى كـ : شروى .

و " عند " : من ظروف الأمكنة غير المتمكنة ، يقال لما ملك أو اختص به حاضرا كان أو غائبا ، ومثلها لدى ، إلا أنها تختص بالحاضر ، وفي " لدى " لغات ثمان مذكورة في كتب النحو .

و (قوله : " إذ طلع علينا رجل شديد بياض الثياب ، شديد سواد الشعر ") : " إذ " و " إذا " أصلهما ظرفان غير متمكنين ، يضافان إلى الجمل ، إلا أن " إذ " : لما مضى ، وتضاف للجملتين الفعلية والاسمية . و " إذا " : لما يستقبل ، ولا تضاف إلا إلى الفعلية ، وفيها معنى الشرط ، وليس ذلك في " إذ " ، إلا إذا دخلت عليها " ما " ; كقولهم :


إذ ما أتيت على الرسول فقل له      . . . . . . .

وقد يقعان للمفاجأة ، كما وقعت " إذ " هاهنا . وأما " إذا " للمفاجأة ، ففي قوله تعالى : فإذا أصاب به من يشاء من عباده إذا هم يستبشرون [ الروم : 48 ] فـ " إذا " الأولى ظرفية ، والثانية مفاجئة ، ونحوه في القرآن كثير .

وفيه دليل على استحباب تحسين الثياب والهيئة والنظافة عند الدخول على العلماء والفضلاء والملوك ; فإن جبريل عليه السلام أتى معلما للناس بحاله ومقاله .

و (قوله : " لا يرى عليه أثر السفر ، ولا يعرفه منا أحد ") ; هكذا مشهور رواية هذا [ ص: 138 ] اللفظ : " يرى " مبنيا لما لم يسم فاعله ، بالياء باثنتين من تحتها ، " ولا يعرفه " بالياء أيضا . وقد رواه أبو حازم العذري : " لا نرى عليه أثر السفر ولا نعرفه " بالنون فيهما ، مبنيا لفعل الجماعة ، وكلاهما واضح المعنى .

و (قوله : " حتى جلس إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - ، فأسند ركبتيه إلى ركبتيه ، ووضع كفيه على فخذيه ، وقال : يا محمد " ) ; هكذا مشهور هذا الحديث في " الصحيحين " من حديث ابن عمر .

وقد روى النسائي هذا الحديث من حديث أبي هريرة ، وأبي ذر ، وزاد فيه زيادة حسنة ، فقالا : " كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يجلس بين ظهراني أصحابه فيجيء الغريب ، فلا يدري أهو هو حتى يسأل ، فطلبنا لرسول الله صلى الله عليه وسلم أن نجعل له مجلسا يعرفه الغريب إذا أتاه ، فبنينا له دكانا من طين يجلس عليه ، إنا لجلوس عنده ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - في مجلسه ; إذ أقبل رجل أحسن الناس وجها ، وأطيب الناس ريحا ، كأن ثيابه لم يمسها دنس ، حتى سلم من طرف السماط ، فقال : السلام عليكم يا محمد ، فرد عليه السلام ، قال : أدنو يا محمد ؟ قال : ادنه ، فما زال يقول : أدنو ؟ " مرارا " ، ويقول له : ادن ، حتى وضع يديه على ركبتي النبي - صلى الله عليه وسلم - . . . وذكر نحو حديث مسلم .

ففيه من الفقه : ابتداء الداخل بالسلام على جميع من دخل عليه ، وإقباله [ ص: 139 ] على رأس القوم ; فإنه قال : السلام عليكم ، فعم ، ثم قال : يا محمد ، فخص .

وفيه : الاستئذان في القرب من الإمام مرارا ، وإن كان الإمام في موضع مأذون في دخوله . وفيه : ترك الاكتفاء بالاستئذان مرة أو مرتين على جهة التعظيم والاحترام .

وفيه : جواز اختصاص العالم بموضع مرتفع من المسجد ، إذا دعت إلى ذلك ضرورة تعليم أو غيره . وقد بين فيه : أن جبريل وضع يديه على ركبتي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فارتفع الاحتمال الذي في لفظ " كتاب مسلم " ; فإنه قال فيه : فوضع كفيه على فخذيه ، وهو محتمل ، وإنما فعل جبريل ذلك - والله أعلم - ; تنبيها على ما ينبغي للسائل من قوة النفس عند السؤال ، وعدم المبالاة بما يقطع عليه خاطره ، وإن كان المسؤول ممن يحترم ويهاب ، وعلى ما ينبغي للمسؤول من التواضع والصفح عن السائل ، وإن تعدى على ما ينبغي من الاحترام والأدب . ونداء جبريل للنبي - صلى الله عليه وسلم - كما يناديه الأعراب : يا محمد ، تعمية على حاله .

الإسلام في اللغة هو : الاستسلام والانقياد ; ومنه قوله تعالى : قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا [ الحجرات : 14 ] أي : انقدنا ، وهو في الشرع : الانقياد بالأفعال الظاهرة الشرعية ، ولذلك قال - صلى الله عليه وسلم - فيما رواه أنس عنه : " الإسلام علانية ، والإيمان في القلب " ; ذكره ابن أبي شيبة في مصنفه .

والإيمان لغة : هو التصديق مطلقا ، وفي الشرع : التصديق بالقواعد الشرعية ; كما نبه عليه النبي - صلى الله عليه وسلم - ، في حديث أنس هذا .

[ ص: 140 ] وقد تنافس علماء الأصول في هذه الأسماء الشرعية تنافسا لا طائل له ، إذا حقق الأمر فيه ; وذلك أنهم متفقون على أنها لا يستفاد منها في الشرع زيادة على أصل الوضع ، وهل ذلك المعنى يصير تلك الأسماء موضوعة كالوضع الابتدائي من قبل الشرع ، أو هي مبقاة على الوضع اللغوي ، والشرع إنما تصرف في شروطها وأحكامها ، هنا تنافسهم في الأمر قريب .

والحاصل : أن الشرع تصرف في حال هذه الأسماء التي في أصل وضعها ، فخصص عاما ، كالحال في الإسلام والإيمان ; فإنهما بحكم الوضع يعمان كل انقياد ، وكل تصديق ، لكن قصرها الشرع على تصديق مخصوص وانقياد مخصوص ; وكذلك فعلت العرب في لغتها في الأسماء العرفية ، كالدابة : فإنها في الأصل لكل ما يدب ، ثم عرفهم خصصها ببعض ما يدب ; فالأسماء الشرعية كالأسماء العرفية في هذا التصرف ، والله أعلم .

وقد استفدنا من هذا البحث : أن الإيمان والإسلام حقيقتان متباينتان لغة وشرعا ; كما دل عليه حديث جبريل هذا وغيره ; وهذا هو الأصل في الأسماء المختلفة - أعني : أن يدل كل واحد منها على خلاف ما يدل عليه الآخر - غير أنه قد توسع الشرع فيهما : فأطلق اسم الإيمان على حقيقة الإسلام ; كما في حديث وفد عبد القيس الآتي بعد هذا ، وكقوله : " الإيمان بضع وسبعون بابا ، أدناها إماطة الأذى عن الطريق ، وأرفعها قول : لا إله إلا الله " . وقد أطلق الإسلام مريدا به مسمى الإسلام والإيمان ، بمعنى التداخل ، كقوله تعالى : إن الدين عند الله الإسلام [ آل عمران : 19 ] .

[ ص: 141 ] وقد أطلق الإيمان كذلك أيضا ; كما روي من حديث علي مرفوعا : " الإيمان اعتقاد بالقلب ، وإقرار باللسان ، وعمل بالأركان " .

وهذه الإطلاقات الثلاث من باب التجوز والتوسع على عادة العرب في ذلك ، وهذا إذا حقق يريح من كثير من الإشكال الناشئ من ذلك الاستعمال .

والصلاة لغة : الدعاء ; ومنه قوله تعالى : وصل عليهم [ التوبة : 103 ] أي : ادع ; قال الأعشى :


عليك مثل الذي صليت فاغتمضي     نوما فإن لجنب المرء مضطجعا

وقيل : إنها مأخوذة من الصلا ، والصلا : عرق عند أصل الذنب ، ومنه قيل للفرس الثاني في الحلبة : مصل ; لأن رأسه عند صلا السابق ; قال الشاعر :


فصلى أبوه له سابق     بأن قيل : فات العذار العذارا

والأول : أولى وأشهر . وهي في الشرع : أفعال مخصوصة ، بشروط مخصوصة ، الدعاء جزء منها .

والزكاة لغة : هي النماء والزيادة ، يقال : زكا الزرع والمال ، وسمي أخذ جزء من مال المسلم الحر زكاة ; لأنها إنما تؤخذ من الأموال النامية ، أو لأنها قد نمت وبلغت النصاب ، أو لأنها تنمي الأموال بالبركة ، وحسنات مؤديها بالتكثير .

[ ص: 142 ] والصوم : هو الإمساك مطلقا ; ومنه قوله تعالى : إني نذرت للرحمن صوما [ مريم : 2 ] ، أي : إمساكا عن الكلام ; قال الشاعر :


خيل صيام وخيل غير صائمة     تحت العجاج وأخرى تعلك اللجما

أي : ممسكة عن الحركة .

وهو في الشرع : إمساك جميع أجزاء اليوم عن أشياء مخصوصة ، بشرط مخصوص ، على ما يأتي .

والحج : هو القصد المتكرر في اللغة ; قال الشاعر :


وأشهد من عوف حلولا كثيرة     يحجون سب الزبرقان المزعفرا

وهو في الشرع : القصد إلى بيت الله المعظم ; لفعل عبادة مخصوصة .

والحج بالفتح : المصدر ، وبالكسر : الاسم ، وقرئ بهما : ولله على الناس حج البيت [ آل عمران : 97 ] .

والاستطاعة : هي القوة على الشيء ، والتمكن منه ; ومنه قوله تعالى : فما اسطاعوا أن يظهروه وما استطاعوا له نقبا [ الكهف : 97 ] ، وسيأتي اختلاف العلماء فيها .

والإحسان : هو مصدر أحسن يحسن إحسانا ، ويقال على معنيين :

[ ص: 143 ] أحدهما : متعد بنفسه ; كقولك : أحسنت كذا وفي كذا ، إذا حسنته وكملته ، وهو منقول بالهمزة من حسن الشيء .

وثانيهما : متعد بحرف جر ; كقولك : أحسنت إلى كذا ، أي : أوصلت إليه ما ينتفع به ، وهو في هذا الحديث بالمعنى الأول ، لا بالمعنى الثاني ; إذ حاصله راجع إلى إتقان العبادات ، ومراعاة حقوق الله تعالى فيها ، ومراقبته ، واستحضار عظمته وجلاله حالة الشروع ، وحالة الاستمرار فيها .

وأرباب القلوب في هذه المراقبة على حالين :

أحدهما : غالب عليه مشاهدة الحق ، فكأنه يراه ; ولعل النبي - صلى الله عليه وسلم - أشار إلى هذه الحالة بقوله : وجعلت قرة عيني في عبادة ربي .

وثانيهما : لا ينتمي إلى هذه الحالة ، لكن يغلب عليه أن الحق سبحانه مطلع عليه ومشاهد له ; وإليه الإشارة بقوله تعالى : الذي يراك حين تقوم وتقلبك في الساجدين [ الشعراء : 218 - 219 ] وبقوله : وما تتلو منه من قرآن ولا تعملون من عمل إلا كنا عليكم شهودا إذ تفيضون فيه [ يونس : 61 ] .

وهاتان الحالتان ثمرة معرفة الله تعالى وخشيته ; ولذلك فسر الإحسان في حديث أبي هريرة بقوله : " أن تخشى الله كأنك تراه " ; فعبر عن المسبب باسم السبب توسعا ، والألف واللام اللذان في الإحسان المسؤول عنه للعهد ، وهو الذي قال الله تعالى فيه : للذين أحسنوا الحسنى وزيادة [ يونس : 26 ] ، و : هل جزاء الإحسان إلا الإحسان [ الرحمن : 60 ] ، و : وأحسنوا إن الله يحب المحسنين [ البقرة : ] .

[ ص: 144 ] ولما تكرر الإحسان في القرآن ، وترتب عليه هذا الثواب العظيم ، سأل عنه جبريل النبي - صلى الله عليه وسلم - ، فأجابه ببيانه ; ليعمل الناس عليه ، فيحصل لهم هذا الحظ العظيم .

وسؤال جبريل عليه السلام عن الإيمان والإسلام بلفظ : " ما " كما في حديث أبي هريرة ، يدل على أنه إنما سأل عن حقيقتهما عنده ، لا عن شرح لفظهما في اللغة ، ولا عن حكمهما ; لأن " ما " في أصلها إنما يسأل بها عن الحقائق والماهيات . ولذلك أجابه النبي - صلى الله عليه وسلم - بقوله : " أن تؤمن بالله " وبكذا وكذا ; فلو كان سائلا عن شرح لفظهما في اللغة لما كان هذا جوابا له ; لأن المذكور في الجواب هو المذكور في السؤال ، ولما كان الإيمان في اللغة معلوما عندهما ، أعاد في الجواب لفظه ، وبين له متعلقاته ، وأنه قصره على تصديق بأمور مخصوصة .

والإيمان بالله : هو التصديق بوجوده تعالى ، وأنه لا يجوز عليه العدم ، وأنه تعالى موصوف بصفات الجلال والكمال من : العلم ، والقدرة ، والإرادة ، والكلام ، والسمع ، والبصر ، والحياة ، وأنه تعالى منزه عن صفات النقص التي هي أضداد تلك الصفات ، وعن صفات الأجسام والمتحيزات ، وأنه واحد صمد ، فرد ، خالق جميع المخلوقات ، متصرف فيها بما يشاء من التصرفات ، يفعل في ملكه ما يريد ، ويحكم في خلقه ما يشاء .

والإيمان بالملائكة : هو التصديق بأنهم : عباد مكرمون لا يسبقونه بالقول وهم بأمره يعملون [ الأنبياء : 26 - 27 ] ، لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون [ التحريم : 6 ] [ ص: 145 ] ، و : يسبحون الليل والنهار لا يفترون [ الأنبياء : 20 ] ، وأنهم سفراء الله بينه وبين رسله ، والمتصرفون كما أذن لهم في خلقه .

والإيمان برسل الله : هو أنهم صادقون فيما أخبروا به عن الله تعالى ، وأن الله تعالى أيدهم بالمعجزات الدالة على صدقهم ، وأنهم بلغوا عن الله رسالاته ، وبينوا للمكلفين ما أمرهم الله بنيانه ، وأنه يجب احترامهم ، وألا يفرق بين أحد منهم .

والإيمان باليوم الآخر : هو التصديق بيوم القيامة ، وما اشتمل عليه من الإعادة بعد الموت ، والنشر ، والحشر ، والحساب والميزان والصراط ، والجنة والنار ، وأنهما دارا ثوابه وجزائه للمحسنين والمسيئين ، إلى غير ذلك مما صح نصه ، وثبت نقله .

والإيمان بالقدر : هو التصديق بما تقدم ذكره ، وحاصله : هو ما دل عليه قوله تعالى : والله خلقكم وما تعملون [ الصافات : 96 ] وقوله : إنا كل شيء خلقناه بقدر [ القمر : 49 ] وقوله : وما تشاءون إلا أن يشاء الله [ الإنسان : 30 ] وإجماع السلف والخلف على صدق قول القائل : ما شاء الله كان ، وما لم يشأ لم يكن ، وقوله عليه الصلاة والسلام : " كل شيء بقدر حتى العجز والكيس " .

تنبيه :

مذهب السلف وأئمة الفتوى من الخلف : أن من صدق بهذه الأمور تصديقا جزما لا ريب فيه ولا تردد ولا توقف ، كان مؤمنا حقيقة ، وسواء كان ذلك عن براهين ناصعة ، أو عن اعتقادات جازمة .

[ ص: 146 ] على هذا انقرضت الأعصار الكريمة ، وبها صرحت فتاوى أئمة الهدى المستقيمة ، حتى حدثت مذاهب المعتزلة المبتدعة ، فقالوا : إنه لا يصح الإيمان الشرعي إلا بعد الإحاطة بالبراهين العقلية والسمعية ، وحصول العلم بنتائجها ومطالبها ، ومن لم يحصل إيمانه كذلك فليس بمؤمن ، ولا يجزئ إيمانه بغير ذلك ; وتبعهم على ذلك جماعة من متكلمي أصحابنا ; كالقاضي أبي بكر ، وأبي إسحاق الإسفراييني ، وأبي المعالي في أول قوليه .

والأول هو الصحيح ; إذ المطلوب من المكلفين ما يقال عليه : إيمان ; كقوله تعالى : آمنوا بالله ورسوله [ النساء : 136 ] ، ومن لم يؤمن بالله ورسوله [ الفتح : 13 ] .

والإيمان : هو التصديق لغة وشرعا ; فمن صدق بذلك كله ، ولم يجوز نقيض شيء من ذلك : فقد عمل بمقتضى ما أمره الله به على نحو ما أمره الله تعالى ، ومن كان كذلك ، فقد تقصى عن عهدة الخطاب ; إذ قد عمل بمقتضى السنة والكتاب ، ولأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه بعده حكموا بصحة إيمان كل من آمن وصدق بما ذكرناه ، ولم يفرقوا بين من آمن عن برهان أو عن غيره ; ولأنهم لم يأمروا أجلاف العرب بترديد النظر ، ولا سألوهم عن أدلة تصديقهم ، ولا أرجؤوا إيمانهم حتى ينظروا ، وتحاشوا عن إطلاق الكفر على أحد منهم ، بل سموهم المؤمنين والمسلمين ، وأجروا عليهم أحكام الإيمان والإسلام ، ولأن البراهين التي حررها المتكلمون ، ورتبها الجدليون ، إنما أحدثها المتأخرون ، ولم يخض في شيء من تلك الأساليب السلف الماضون ; فمن المحال والهذيان : أن يشترط في صحة الإيمان ، ما لم يكن معروفا ولا معمولا به لأهل ذلك الزمان ، وهم من هم فهما عن الله ، وأخذا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وتبليغا لشريعته ، وبيانا لسنته وطريقته ، وسيأتي قول شاف في ذلك إن شاء الله .

[ ص: 147 ] والملائكة : جمع ملك ، وقد اختلف في اشتقاقه ووزنه ; فقال ابن شميل : لا اشتقاق له ، وقال ابن كيسان : وزنه : فعل من الملك ، وقال أبو عبيدة : هو مفعل من : لأك ، أي : أرسل ، وقال غيره : إنه مأخوذ من الألوكة ، وهي الرسالة ، فكأنها تؤلك في الفم ، قال لبيد :


وغلام أرسلته أمه     بألوك فبذلنا ما سأل

فأصله على هذا : مألك ; فالهمزة فاء الفعل ، لكنهم قلبوها إلى عينه ، فقالوا : ملأك ، ثم سهلوه ، فقالوا : ملاك ، وقد جاء على أصله في الشعر ; قال :


فلست لإنسي ولكن لملأك     تنزل من جو السماء يصوب

وقيل : هو ملك من ملك ، نحو : شمل من شمل .

والساعة في أصل الوضع : مقدار ما من الزمان ، غير معين ولا محدود ; لقوله تعالى : ما لبثوا غير ساعة [ الروم : 55 ] .

وفي عرف أهل الشرع : عبارة عن يوم القيامة . وفي عرف المعدلين : جزء من أربعة وعشرين جزءا من أوقات الليل والنهار .

والأشراط : هي الأمارات والعلامات ; ومنه قوله تعالى : فقد جاء أشراطها [ محمد : 18 ] وبها سمي الشرط ; لأنهم يعلمون أنفسهم بعلامات يعرفون بها .

[ ص: 148 ] والأمة هنا هي : الجارية المستولدة ، وربها سيدها ، وقد سمي بعلا في الرواية الأخرى ، كما سماه الله تعالى بعلا في قوله : أتدعون بعلا وتذرون أحسن الخالقين [ الصافات : 125 ] . في قول ابن عباس ، وحكي عنه أنه قال : لم أدر ما البعل حتى قلت لأعرابي : لمن هذه الناقة ؟ فقال : أنا بعلها . وقد سمي الزوج بعلا ، ويجمع : بعولة ; كما قال تعالى : وبعولتهن أحق بردهن في ذلك [ البقرة : 228 ] ، وهذا بعلي شيخا [ هود : 72 ] وربتها : تأنيث رب .

واختلف في معنى (قوله : " أن تلد الأمة ربتها ") على ثلاثة أقوال :

أحدها : أن المراد به : أن يستولي المسلمون على بلاد الكفر ، فيكثر التسري ; فيكون ولد الأمة من سيدها بمنزلة سيدها ; لشرفه بأبيه ، وعلى هذا : فالذي يكون من أشراط الساعة : استيلاء المسلمين على المشركين ، وكثرة الفتوح والتسري .

وثانيها : أن يبيع السادة أمهات أولادهم ، ويكثر ذلك ; فتتداول الأمهات المستولدة ، فربما يشتريها ولدها أو ابنتها ولا يشعر بذلك ; فيصير ولدها ربها ، وعلى هذا : فالذي يكون من الأشراط : غلبة الجهل بتحريم بيع أمهات الأولاد ، والاستهانة بالأحكام الشرعية ; وهذا على قول من يرى تحريم بيع أمهات الأولاد ، وهم الجمهور ; ويصح أن يحمل ذلك على بيعهن في حال حملهن ، وهو محرم بالإجماع .

وثالثها : أن يكثر العقوق في الأولاد ، فيعامل الولد أمه معاملة السيد أمته من الإهانة والسب ; ويشهد لهذا قوله في حديث أبي هريرة : " المرأة " مكان " الأمة " . وقوله - صلى الله عليه وسلم - : " لا تقوم الساعة حتى يكون الولد غيظا " .

[ ص: 149 ] و (قوله : " وأن ترى الحفاة العراة العالة رعاء الشاء يتطاولون في البنيان ") .

الحفاة : جمع حاف ، وهو الذي لا يلبس في رجله شيئا . والعراة : جمع عار ، وهو الذي لا يلبس على جسده ثوبا . والعالة مخففة اللام : جمع عائل ، وهو الفقير ، والعيلة : الفقر ; يقال : عال الرجل يعيل عيلة : إذا افتقر ، وأعال يعيل : إذا كثر عياله ، وهذه الأوصاف هي غالبة على أهل البادية ، وقد وصفهم في حديث أبي هريرة بأنهم صم بكم عمي ، ويعني بذلك - والله تعالى أعلم - : أنهم جهلة رعاع ، لم يستعملوا أسماعهم ولا كلامهم في علم ولا في شيء من أمر دينهم ، وهذا نحو قوله تعالى : صم بكم عمي فهم لا يعقلون [ البقرة : 171 ] ; أطلق ذلك عليهم مع أنهم كانت لهم أسماع وأبصار ، ولكنهم لما لم تحصل لهم ثمرات تلك الإدراكات ، صاروا كأنهم عدموا أصلها ، وقد أوضح هذا المعنى قوله تعالى : لهم قلوب لا يفقهون بها ولهم أعين لا يبصرون بها ولهم آذان لا يسمعون بها أولئك كالأنعام بل هم أضل أولئك هم الغافلون [ الأعراف : 179 ] .

ومقصود هذا الحديث : الإخبار عن تبدل الحال وتغيره ; بأن يستولي أهل البادية الذين هذه صفاتهم على أهل الحاضرة ، ويتملكوا بالقهر والغلبة ، فتكثر أموالهم ، وتتسع في حطام الدنيا آمالهم ، فتنصرف هممهم إلى تشييد المباني ، وهدم الدين وشريف المعاني ، وأن ذلك إذا وجد ، كان من أشراط الساعة .

ويؤيد هذا : ما ذكر عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : " لا تقوم الساعة حتى يكون أسعد الناس بالدنيا لكع بن لكع " وقد شوهد هذا كله عيانا ، فكان ذلك على صدق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وعلى قرب الساعة حجة [ ص: 150 ] وبرهانا ، وفيه : دليل على كراهية ما لا تدعو الحاجة إليه من تطويل البناء وتشييده ; وقد قال - عليه الصلاة والسلام - : " يؤجر ابن آدم في كل شيء إلا ما يضعه في هذا التراب " ومات رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولم يضع حجرا على حجر ، ولا لبنة على لبنة ، أي : لم يشيد بناء ، ولا طوله ، ولا تأنق فيه .

والرعاء : جمع راع ، وأصل الرعي : الحفظ . والشاء : جمع شاة ، وهو من الجمع الذي بينه وبين واحده الهاء ، وهو كثير فيما كان خلقة لله تعالى ; كشجرة وشجر ، وثمرة وثمر ، وإنما خص رعاء الشاء بالذكر ; لأنهم أضعف أهل البادية .

والبهم بفتح الباء : جمع بهيمة ، وأصلها : صغار الضأن والمعز ، وقد يختص بالمعز ، وأصله من استبهم عن الكلام ، ومنه البهيمة .

ووقع في البخاري : " رعاء الإبل البهم " بضم الباء ، جمع بهم ، وهو : الأسود الذي لا يخالطه لون آخر ، وقيدت ميم البهم بالكسر والضم ، فمن كسرها جعلها صفة للإبل ، ومن رفعها جعلها صفة للرعاء ، وقيل : معناه : لا شيء لهم ; كما قال - عليه الصلاة والسلام - : " يحشر الناس يوم القيامة حفاة عراة غرلا " .

قال المؤلف رحمه الله تعالى : وهذا التأويل فيه نظر ; لأنه قد نسب لهم إبلا ، وظاهرها الملك ، وقال الخطابي : هو جمع بهيم ، وهو المجهول الذي لا يعرف . قال المؤلف رحمه الله تعالى : والأولى أن يحمل على أنهم سود الألوان ; لأن الأدمة غالبة على ألوانهم ، ورواية مسلم في رعاء البهم من غير ذكر الإبل أولى ; لأنها الأنسب لمساق الحديث ولمقصوده ; فإن مقصوده ، أن أضعف [ ص: 151 ] أهل البادية وهم رعاء الشاء ، سينقلب بهم الحال إلى أن يصيروا ملوكا مع ضعفهم وبعدهم عن أسباب ذلك ، وأما أصحاب الإبل فهم أهل الفخر والخيلاء ; فإن الإبل عز أهلها ، ولأن أهل الإبل ليسوا عالة ولا فقراء غالبا .

و ( قوله : " وتؤمن بالبعث الآخر " ) وصف البعث بالآخر يحتمل أن يكون على جهة التأكيد ، كما قالوا : أمس الدابر ، وأمس الذاهب . ويحتمل أن يقال : إن البعث : إحياء بعد إماتة ، وقد فعل الله ذلك مرتين ; فأحيانا بعد أن كنا نطفا وعلقا ومضغا وهي أموات ، ثم يحيينا ليوم القيامة وهو البعث الآخر ; كما قال الله تعالى : كيف تكفرون بالله وكنتم أمواتا فأحياكم ثم يميتكم ثم يحييكم [ البقرة : 28 ] قال أهل التفسير : أمواتا في حال كوننا نطفا وعلقا في الأرحام ، ثم نفخ الروح وأحيا .

و (قوله : " فعجبنا له يسأله ويصدقه ") ; إنما تعجبوا من ذلك ; لأن ما جاء به النبي - صلى الله عليه وسلم - لا يعرف إلا من جهته ، وليس هذا السائل ممن عرف بلقاء النبي - صلى الله عليه وسلم - ، ولا بالسماع منه ، ثم هو قد سأل سؤال عارف محقق مصدق ; فتعجبوا من ذلك تعجب المستبعد لأن يكون أحد يعرف تلك الأمور المسؤول عنها من غير جهة النبي - صلى الله عليه وسلم - .

و ( قوله : " فلبث مليا " ) أي : أقام بعد انصرافه حينا ، يعني : النبي - صلى الله عليه وسلم - ، ويروى : فلبثت بتاء مضمومة للمتكلم ، فيكون عمر هو الذي أخبر بذلك عن نفسه ، وكلاهما صحيح المعنى .

[ ص: 152 ] و ( قوله : " إنه جبريل ") دليل على أن الله تعالى مكن الملائكة من أن يتمثلوا فيما شاؤوا من صور بني آدم ; كما قد نص الله تعالى على ذلك في قوله تعالى : فتمثل لها بشرا سويا .

وقد كان جبريل يتمثل للنبي - صلى الله عليه وسلم - في صورة دحية بن خليفة ، وقد كان لجبريل صورة خاصة خلق عليها لم يره النبي - صلى الله عليه وسلم - عليها غير مرتين ; كما صح الحديث بذلك ; وهذا يدل على أن النبي - صلى الله عليه وسلم - عرف جبريل لكن في آخر الأمر ، فأما قبل ذلك ، فقد جاء في كتاب البخاري : التصريح بأنه لم يعرف أنه جبريل إلا في آخر الأمر .

و ( قوله : " أتاكم يعلمكم دينكم " ) أي : قواعد دينكم ، أو كليات دينكم ; قال القاضي : وهذا الحديث قد اشتمل على جميع وظائف العبادات الظاهرة والباطنة ; من عقود الإيمان ، وأعمال الجوارح ، وإخلاص السرائر ، والتحفظ من آفات الأعمال ، حتى إن علوم الشريعة كلها راجعة إليه ، ومتشعبة منه .

قال المؤلف - رحمه الله تعالى - : فيصلح هذا الحديث أن يقال فيه : إنه أم السنة ; لما تضمنه من جمل علم السنة ، كما سميت الفاتحة : أم الكتاب ; لما تضمنته من جمل معاني القرآن ، كما سيأتي بيانها ، إن شاء الله تعالى .

التالي السابق


الخدمات العلمية