المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم

أبو العباس القرطبي - ضياء الدين أحمد بن عمر القرطبي

صفحة جزء
173 [ 95 ] وعن ابن شماسة المهري ، قال : حضرنا عمرو بن العاص وهو في سياقة الموت ، فبكى طويلا ، وحول وجهه إلى الجدار ، فجعل ابنه يقول : يا أبتاه ، أما بشرك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بكذا ؟! أما بشرك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بكذا ؟! قال : فأقبل بوجهه فقال : إن أفضل ما نعد : شهادة أن لا إله إلا الله ، وأن محمدا رسول الله ، إني كنت على أطباق ثلاثة : لقد رأيتني وما أحد أشد بغضا لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - مني ، ولا أحب إلي من أن أكون قد استمكنت منه فقتلته ، فلو مت على تلك الحال لكنت من أهل النار ، فلما جعل الله الإسلام في قلبي ، أتيت النبي - صلى الله عليه وسلم - فقلت : ابسط يمينك فلأبايعك ، فبسط يمينه ، قال : فقبضت يدي ، قال : ما لك يا عمرو ؟! ، قال : قلت : أردت أن أشترط ، قال : تشترط بماذا ؟! ، قلت : أن يغفر لي ، قال : أما علمت أن الإسلام يهدم ما كان قبله ؟! وأن الهجرة تهدم ما كان قبلها ؟! وأن الحج يهدم ما كان قبله ؟! ، وما كان أحد أحب إلي من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، ولا أجل في عيني منه ، وما كنت أطيق أن أملأ عيني منه ; إجلالا له ، ولو سئلت أن أصفه ، ما أطقت ; لأني لم أكن أملأ عيني منه ، ولو مت على تلك الحال ، لرجوت أن أكون من أهل الجنة ، ثم ولينا أشياء ما أدري ما حالي فيها ، فإذا أنا مت ، فلا تصحبني نائحة ولا نار ، فإذا دفنتموني ، فشنوا علي التراب شنا ، ثم أقيموا حول قبري قدر ما تنحر جزور ويقسم لحمها ، حتى أستأنس بكم ، وأنظر ماذا أراجع به رسل ربي .

رواه مسلم ( 121 ) .


و ( قول عمرو بن العاص : " إن أفضل ما نعد : شهادة : أن لا إله إلا الله ، وأن محمدا رسول الله ") أي : أفضل ما نتخذه عدة للقاء الله تعالى : الإيمان بالله تعالى ، وتوحيده ، وتصديق رسوله - صلى الله عليه وسلم - ، والنطق بذلك . وقد تقدم أن الإيمان أفضل الأعمال كلها ، ويتأكد أمر النطق بالشهادتين عند الموت ; ليكون ذلك خاتمة أمره ، وآخر كلامه .

و (قوله : " إني كنت على أطباق ثلاثة ") أي : أحوال ومنازل ، ومنه قوله تعالى : لتركبن طبقا عن طبق [ الانشقاق : 19 ] أي : حالا بعد حال .

و (قوله : " ابسط يمينك فلأبايعك ") بكسر اللام وإسكان العين على الأمر ، أي : أمر المتكلم لنفسه ، والفاء جواب لما تضمنه الأمر الذي هو ابسط من الشرط . ويصح أن تكون اللام لام كي ، وبنصب أبايعك ، وتكون اللام سببية ، والله أعلم .

[ ص: 329 ] و (قوله : " إن الإسلام يهدم ما كان قبله ، وإن الهجرة تهدم ما كان قبلها ، وإن الحج يهدم ما كان قبله ") الهدم هنا : استعارة وتوسع ، يعني به : الإذهاب والإزالة ; لأن الجدار إذا انهدم ، فقد زال وضعه ، وذهب وجوده ، وقد عبر عنه في الرواية الأخرى بالجب ، فقال : يجب ، أي : يقطع ، ومنه المجبوب ، وهو المقطوع ذكره .

ومعنى العبارتين واحد ، ومقصودهما : أن هذه الأعمال الثلاثة تسقط الذنوب التي تقدمتها كلها ، صغيرها وكبيرها ; فإن ألفاظها عامة خرجت على سؤال خاص ; فإن عمرا إنما سأل أن يغفر له ذنوبه السابقة بالإسلام ، فأجيب على ذلك ; فالذنوب داخلة في تلك الألفاظ العامة قطعا ، وهي بحكم عمومها صالحة لتناول الحقوق الشرعية ، والحقوق الآدمية ; وقد ثبت ذلك في حق الكافر الحربي إذا أسلم ; فإنه لا يطالب بشيء من تلك الحقوق ، ولو قتل وأخذ الأموال ، لم يقتص منه بالإجماع ، ولو خرجت الأموال من تحت يده ، لم يطالب بشيء منها .

ولو أسلم الحربي وبيده مال مسلم ; عبيد ، أو عروض ، أو عين ; فمذهب مالك : أنه لا يجب عليه رد شيء من ذلك ; تمسكا بعموم هذا الحديث ، وبأن للكفار شبه ملك فيما حازوه من أموال المسلمين وغيرهم ; لأن الله تعالى قد نسب لهم أموالا وأولادا ; فقال تعالى : فلا تعجبك أموالهم ولا أولادهم [ التوبة : 55 ] .

وذهب الشافعي : إلى أن ذلك لا يحل لهم ، وأنه يجب عليهم ردها إلى من كان يملكها من المسلمين ، وأنهم كالغصاب ; وهذا يبعده : أنهم لو استهلكوا ذلك في حالة كفرهم ثم أسلموا ، لم يضمنوا بالإجماع ; على ما حكاه أبو محمد عبد الوهاب .

فأما أسر المسلمين [ ص: 330 ] الأحرار : فيجب عليهم رفع أيديهم عنهم ; لأن الحر لا يملك . وأما من أسلم من أهل الذمة : فلا يسقط الإسلام عنه حقا وجب عليه لأحد من مال أو دم أو غيرهما ; لأن أحكام الإسلام جارية عليهم . واستيفاء الفروع في كتب الفقه . وأما الهجرة ، والحج : فلا خلاف في أنهما لا يسقطان إلا الذنوب والآثام السابقة ، وهل يسقطان الكبائر والصغائر ، أو الصغائر فقط ؟ موضع نظر سيأتي في كتاب الطهارة ، إن شاء الله تعالى .

و (قوله : " فإذا مت ، فلا تصحبني نائحة ولا نار ") إنما وصى باجتناب هذين الأمرين ; لأنهما من عمل الجاهلية ، ولنهي النبي - صلى الله عليه وسلم - عن ذلك .

و (قوله : " فإذا دفنتموني ، فشنوا علي التراب شنا ") روي هذا الحديث بالسين المهملة ، والمعجمة ، فقيل : هما بمعنى واحد ، وهو الصب ، وقيل : هو بالمهملة : الصب في سهولة ، وبالمعجمة : صب في تفريق . وهذه سنة في صب التراب على الميت في القبر ; قاله عياض ، وقد كره مالك في " العتبية " الترصيص على القبر بالحجارة والطوب .

و (قوله : " ثم أقيموا حول قبري قدر ما تنحر جزور ويقسم لحمها ") الجزور بفتح الجيم : من الإبل ، والجزرة : من غيرها ، وفي كتاب " العين " : الجزرة من الضأن والمعز خاصة ، وهي مأخوذة من الجزر ، وهو القطع .

التالي السابق


الخدمات العلمية