المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم

أبو العباس القرطبي - ضياء الدين أحمد بن عمر القرطبي

صفحة جزء
3372 (30) باب

في غزوة ذي قرد وما تضمنته من الأحكام

[ 1320 ] عن سلمة بن الأكوع قال : قدمنا الحديبية مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ونحن أربع عشرة مائة ، وعليها خمسون شاة لا ترويها. قال: فقعد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على جبا الركية فإما دعا ، وإما بسق فيها. قال: فجاشت فسقينا واستقينا ، قال: ثم إن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- دعانا للبيعة في أصل الشجرة. قال فبايعته أول الناس ، ثم بايع وبايع حتى إذا كان في وسط من أول الناس . قال: بايع يا سلمة ، قال: قلت: قد بايعتك يا رسول الله في أول الناس . قال : وأيضا . قال : ورآني رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عزلا -يعني ليس معه سلاح- قال: فأعطاني رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حجفة أو درقة ، ثم بايع حتى إذا كان في آخر الناس قال: "ألا تبايعني يا سلمة". قال: قلت: قد بايعتك يا رسول الله في أول الناس، وفي أسط الناس، قال: وأيضا. قال: فقد بايعته الثالثة ثم قال لي: "يا سلمة! أين حجفتك أو درقتك التي أعطيتك؟ قال قلت: يا رسول الله لقيني عمي عامر عزلا فأعطيته إياها . قال: فضحك رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وقال: "إنك كالذي قال الأول: اللهم أبغني حبيبا هو أحب إلي من نفسي". ثم إن المشركين راسلونا الصلح ، حتى مشى بعضنا في بعض ، واصطلحنا قال : وكنت تبيعا لطلحة بن عبيد الله أسقي فرسه ، وأحسه ، وأخدمه وآكل من طعامه ، وتركت أهلي ومالي ، مهاجرا إلى الله ورسوله -صلى الله عليه وسلم-. قال: فلما اصطلحنا نحن وأهل مكة واختلط بعضنا ببعض أتيت شجرة فكسحت شوكها ، فاضطجعت في أصلها. قال: فأتاني أربعة من المشركين من أهل مكة ، فجعلوا يقعون في رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فأبغضتهم ، فتحولت إلى شجرة أخرى ، وعلقوا سلاحهم ، واضطجعوا فبينما هم كذلك ، إذ نادى مناد من أسفل الوادي : يا للمهاجرين! قتل ابن زنيم . قال : فاخترطت سيفي ، ثم شددت على أولئك الأربعة، وهم رقود ، وأخذت سلاحهم فجعلته ضغثا في يدي ، قال: ثم قلت : والذي كرم وجه محمد لا يرفع أحد منكم رأسه إلا ضربت الذي فيه عيناه ، قال: ثم جئت بهم أسوقهم إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: وجاء عمي عامر برجل من العبلات ، يقال له مكرز ، يقوده إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على فرس مجفف في سبعين من المشركين ، فنظر إليهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم- فقال: "دعوهم يكن لهم بدء الفجور ، وثناه" فعفا عنهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم-، وأنزل الله وهو الذي كف أيديهم عنكم وأيديكم عنهم ببطن مكة من بعد أن أظفركم عليهم [الفتح: 24] الآية كلها. قال: ثم خرجنا راجعين إلى المدينة ، فنزلنا منزلا ، بيننا وبين بني لحيان جبل ، وهم المشركون ، فاستغفر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لمن رقي هذا الجبل الليلة كأنه طليعة للنبي -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه . قال سلمة: فرقيت تلك الليلة مرتين أو ثلاثا ، ثم قدمنا المدينة فبعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم- بظهره مع رباح غلام رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ، وأنا معه ، وخرجت معه بفرس طلحة أنديه مع الظهر ، فلما أصبحنا إذا عبد الرحمن الفزاري قد أغار على ظهر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فاستاقه أجمع ، وقتل راعيه قال فقلت: يا رباح خذ هذا الفرس فأبلغه طلحة بن عبيد الله ، وأخبر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن المشركين قد أغاروا على سرحه ، قال: ثم قمت على أكمة فاستقبلت المدينة فناديت ثلاثا: يا صباحاه! ثم خرجت في آثار القوم أرميهم وأرتجز أقول :


أنا ابن الأكوع واليوم يوم الرضع

فألحق رجلا منهم ، فأصك سهما في رحله ، حتى خلص النصل إلى كتفه .

قال: قلت خذها:


وأنا ابن الأكوع     واليوم يوم الرضع

قال: فوالله ما زلت أرميهم ، وأعقر بهم ، فإذا رجع إلي فارس أتيت شجرة فجلست في أصلها ثم رميته ، فعقرت به ، حتى إذا تضايق الجبل ، فدخلوا في تضايقه ، علوت الجبل فجعلت أرميهم بالحجارة، قال: فما زلت كذلك أتبعهم حتى ما خلق الله من بعير من ظهر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلا خلفته وراء ظهري ، وخلوا بيني وبينه ، ثم اتبعتهم أرميهم حتى ألقوا أكثر من ثلاثين بردة وثلاثين رمحا ، يستخفون ولا يطرحون شيئا إلا جعلت عليه آراما من الحجارة ، يعرفها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه ، حتى أتوا متضايقا من ثنية ، فإذا هم قد أتاهم فلان بن بدر الفزاري ، فجلسوا يتضحون يعني يتغدون، وجلست على رأس قرن. قال الفزاري: ما هذا الذي أرى؟ قالوا: لقينا من هذا البرح ، والله ما فارقنا منذ غلس يرمينا ، حتى انتزع كل شيء في أيدينا. قال: فليقم إليه نفر منكم أربعة. قال فصعد إلي منهم أربعة في الجبل. قال: فلما أمكنوني من الكلام ، قال: قلت هل تعرفوني؟ قالوا: لا ، ومن أنت ؟ قال: قلت: أنا سلمة بن الأكوع والذي كرم وجه محمد -صلى الله عليه وسلم- ، لا أطلب رجلا منكم إلا أدركته ، ولا يطلبني فيدركني ، قال: أحدهم أنا أظن قال: فرجعوا فما برحت مكاني حتى رأيت فوارس رسول الله - صلى الله عليه وسلم- يتخللون الشجر. قال فإذا أولهم الأخرم الأسدي على إثره أبو قتادة الأنصاري ، وعلى إثره المقداد بن الأسود الكندي ، قال فأخذت: بعنان الأخرم. قال فولوا مدبرين قلت: يا أخرم احذرهم لا يقتطعوك حتى يلحق رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه ، قال: يا سلمة إن كنت تؤمن بالله واليوم الآخر ، وتعلم أن الجنة حق والنار حق فلا تحل بيني وبين الشهادة قال: فخليته فالتقى هو وعبد الرحمن قال: فعقر بعبد الرحمن فرسه ، فطعنه عبد الرحمن فقتله، وتحول على فرسه. ولحق أبو قتادة فارس رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بعبد الرحمن فطعنه فقتله، فوالذي كرم وجه محمد -صلى الله عليه وسلم- لتبعتهم أعدو على رجلي، حتى ما أرى ورائي من أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ولا غبارهم شيئا، حتى يعدلوا قبل غروب الشمس إلى شعب فيه ماء، يقال له: ذو قرد; ليشربوا منه ، وهم عطاش ، قال: فنظروا إلي أعدو وراءهم فحليتهم عنه (يعني أجليتهم عنه) فما ذاقوا منه قطرة قال: ويخرجون ويشتدون في ثنية قال: فأعدو فألحق رجلا منهم وأصكه بسهم في نغض كتفه. قال قلت: خذها:


وأنا ابن الأكوع     واليوم يوم الرضع

قال: يا ثكلته أمه أكوعه بكرة. قال: قلت: نعم يا عدو نفسه أكوعك بكرة. قال وأردوا فرسين على الثنية. قال: فجئت بهما أسوقهما إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم- قال: ولحقني عامر بسطيحة فيها مذقة من لبن ، وسطيحة فيها ماء ، فتوضأت وشربت ، ثم أتيت رسول الله، وهو على الماء الذي حليتهم عنه ، فإذا رسول الله - صلى الله عليه وسلم-، قد أخذ تلك الإبل وكل شيء استنقذته من المشركين، وكل رمح وكل بردة ، وإذا بلال نحر ناقة من الإبل الذي استنقذت من القوم، وإذا هو يشوي لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- من كبدها وسنامها قال: قلت يا رسول الله! خلني فأنتخب من القوم مائة رجل فأتبع القوم، فلا يبقى منهم مخبر إلا قتلته. قال: فضحك رسول الله، -صلى الله عليه وسلم- حتى بدت نواجذه في ضوء النار، فقال: "يا سلمة! أتراك كنت فاعلا؟" قلت: نعم والذي أكرمك. قال: "إنهم الآن ليقرون في أرض غطفان" . قال فجاء رجل من غطفان فقال: نحر لهم فلان جزورا ، فلما كشفوا جلدها رأوا غبارا فقالوا: أتاكم القوم ، فخرجوا هاربين فلما أصبحنا قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- "كان خير فرساننا اليوم أبو قتادة ، وخير رجالتنا سلمة". قال: ثم أعطاني رسول الله -صلى الله عليه وسلم- سهمين: سهم الفارس ، وسهم الراجل، فجمعهما لي جميعا، ثم أردفني رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وراءه على العضباء راجعين إلى المدينة قال: فبينا نحن نسير ، قال: وكان رجل من الأنصار لا يسبق شدا، قال: فجعل يقول: ألا مسابق إلى المدينة؟ هل من مسابق؟ فجعل يعيد ذلك، قال: فلما سمعت كلامه قلت: أما تكرم كريما؟ ولا تهاب شريفا؟ قال: لا ، إلا أن يكون رسول الله - صلى الله عليه وسلم-. قال: قلت: يا رسول الله! بأبي وأمي ذرني فلأسبق الرجل. قال: "إن شئت". قال: قلت: اذهب إليك، قال : وثنيت رجلي فطفرت، فعدوت، قال: فربطت عليه شرفا أو شرفين، أستبقي نفسي، ثم عدوت في إثره فربطت عليه شرفا أو شرفين، قال ثم إني رفعت حتى ألحقه، قال: فأصكه بين كتفيه ، قال: قلت: قد سبقت والله، قال: أنا أظن، قال: فسبقته إلى المدينة قال: فوالله ما لبثنا إلا ثلاث ليال حتى خرجنا إلى خيبر مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم-، قال: فجعل عمي عامر يرتجز بالقوم:


تالله لولا الله ما اهتدينا     ولا تصدقنا ولا صلينا
ونحن عن فضلك ما استغنينا     فثبت الأقدام إن لاقينا
وأنزلن سكينة علينا

فقال رسول الله-صلى الله عليه وسلم-: من هذا؟. قال: أنا عامر، قال: غفر لك ربك. قال وما استغفر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لإنسان يخصه، إلا استشهد، قال: فنادى عمر بن الخطاب ، وهو على جمل له: يا نبي الله، لولا ما متعتنا بعامر؟ قال: فلما قدمنا خيبر ، قال: خرج ملكهم مرحب يخطر بسيفه يقول:


قد علمت خيبر أني مرحب     شاكي السلاح بطل مجرب
إذا الحروب أقبلت تلهب

قال: وبرز له عمي عامر فقال:


قد علمت خيبر أني عامر     شاكي السلاح بطل مغامر

قال: فاختلفا ضربتين فوقع سيف مرحب في ترس عامر، وذهب عامر يسفل له، فرجع سيفه على نفسه فقطع أكحله ، فكانت فيها نفسه.

قال سلمة: فخرجت فإذا نفر من أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم- يقولون: بطل عمل عامر، قتل نفسه، قال: فأتيت النبي -صلى الله عليه وسلم- وأنا أبكي، فقلت: يا رسول الله! بطل عمل عامر؟ قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: من قال ذلك؟ قال: قلت: ناس من أصحابك، قال: "كذب من قال ذلك، بل له أجره مرتين". ثم أرسلني إلى علي وهو أرمد ، فقال: "لأعطين الراية رجلا يحب الله ورسوله، أو يحبه الله ورسوله". قال: فأتيت عليا فجئت به أقوده ، وهو أرمد حتى أتيت به رسول الله - صلى الله عليه وسلم-، فبسق في عينيه ، فبرأ ، وأعطاه الراية، وخرج مرحب فقال:


قد علمت خيبر أني مرحب     شاكي السلاح بطل مجرب
إذا الحروب أقبلت تلهب

فقال علي رضي الله عنه :


أنا الذي سمتني أمي حيدره     كليث غابات كريه المنظره
أوفيهم بالصاع كيل السندره

قال: فضرب رأس مرحب فقتله، ثم كان الفتح على يديه .


رواه مسلم (1807).


[ ص: 669 ] (30) ومن باب: غزوة ذي قرد

( الحديبية ) تقال بتخفيف الياء ، وتشديدها ، لغتان . وهو موضع فيه ماء على قرب من مكة ، كما تقدم . والرواية الصحيحة المشهورة : ( جبا الركية ) بالفتح في الجيم والباء بواحدة مقصورا ، وهو جانب البئر . و ( الركية ) البئر غير المطوية ، فإذا طويت فهي : الطوي . وللعذري : (جب ركية) بضم الجيم ، وكسر الباء . والجب : البئر ليست بعيدة القعر . و ( جاشت ) ; أي : ارتفعت . يقال : جاش الشيء ، يجيش جيشا ; إذا ارتفع .

[ ص: 670 ] وقوله : ( حجفة أو درقة ) على الشك من الراوي . والحجفة : الترس . وإنما يكون من عيدان ، والدرق من الجلود .

واختصاصه -صلى الله عليه وسلم- سلمة بتكرار البيعة ثلاثا ; تأكيدا في حقه ، لما علم -صلى الله عليه وسلم- من خصاله ، وكثرة غنائه ، كما قد ظهر منه على ما يأتي.

و ( عزلا ) الرواية فيه هنا ، وفي الحرف الآتي بعده : بفتح العين وكسر الزاي . وقال بعض اللغويين : الصواب : أعزل ، ولا يقال : عزل. وقيده بعضهم : عزلا- بضم العين والزاي- ، وكذا ذكره الهروي ، كما يقال : ناقة علط ، وجمل فنق . والجمع : أعزال . كما يقال : جنب وأجناب ، وماء سدم ، ومياه أسدام. والأعزل : الذي لا سلاح معه .

و ( أبغني ) : أعطني . يقال : بغيت الشيء من فلان فأبغانيه ; أي : أعطاني ما طلبته .

وقوله : ( ثم إن المشركين راسلونا الصلح ) ; هذه رواية العذري ، وهي من الرسالة . ورواه جماعة من رواة مسلم : ( راسونا ) بسين مهملة مشددة مضمومة ، [ ص: 671 ] وهو من : رس الحديث ، يرسه : إذا ابتدأه . ورسست بين القوم : أصلحت بينهم . ورسا لك الحديث رسوا : إذا ذكر لك منه طرفا . وروي : (راسونا) - بفتح السين- لابن ماهان . قال عياض : ولا وجه لها .

قوله : ( كنت تبيعا لأبي طلحة ) ; أي : خديما له . وهو من : تبعت الرجل : إذا سرت خلفه . و ( أحسه ) أنفض عنه التراب . والحس : الحك . و ( كسحت شوكها ) : كنسته . و ( الضغث ) : القبضة من الحشيش وغيره . و ( العبلات ) بطن من بني عبد شمس ، نسبوا إلى أم لهم تسمى : عبلة بنت عبيد ، من البراجم . و ( الفرس المجفف ) : الذي عليه تجفاف- بكسر التاء- وهو الجل . و ( بدء الفجور ) : أوله ، والفجور ضد البر . و ( ثناه ) : عوده ، بكسر الثاء المثلثة ، مقصورا . وهي الرواية [ ص: 672 ] المشهورة ، ولابن ماهان : (وثنياه) بضم الثاء ، وهو بالمعنى الأول. والفجور هنا هو : نقض العهد ، وروم غرة المسلمين ، وكان هذا في صلح الحديبية .

وعفو النبي -صلى الله عليه وسلم- عن هؤلاء السبعين ليتم أمر الصلح . والله تعالى أعلم .

وقد اختلف في سبب نزول قوله تعالى : وهو الذي كف أيديهم عنكم [الفتح: 24] على أقوال هذا أحدها ، وهو أصحها .

وقوله : ( وهم المشركون ) بضم الهاء ، وتخفيف الميم ، وهي ضمير الجمع . وقد ضبطه بعض الشيوخ : (وهم) بفتح الهاء ، والميم وتشديدها ; على أنه فعل ماض . و ( المشركون ) فاعل به .

قال عياض : معناه : هم النبي -صلى الله عليه وسلم- والمسلمين أمرهم لئلا يغدروهم ، ويبيتوهم لقربهم منهم . يقال : همني الأمر ، وأهمني . ويقال : همني : أذابني ، وأهمني : غمني .

قلت : والأقرب أن يكون معناه : هم المشركون بالغدر ، واستشعر المسلمون منهم بذلك .

[ ص: 673 ] و ( الظهر ) : الإبل التي تحمل على ظهورها الأثقال . و ( أنديه مع الظهر ) ; أي : أورده الماء فيشرب قليلا ، ثم أرعاه وأورده. وهي التندية ، وأصلها للإبل . وقد تكون التندية في الفرس بمعنى : التضمير ، وهي : أن يجري الفرس حتى يعرق . ويقال لذلك العرق : الندى ، قاله الأصمعي .

و ( استاقه ) ; أي : حمله ، والتاء زائدة للاستفعال . و ( السرح ) الإبل التي تسرح في المرعى . و ( الأكمة ) : الجبيل الصغير .

وقوله : ( يا صباحاه ) هاؤه ساكنة ، وهو يشبه المنادى المندوب ، وليس به . ومعناه هنا : الإعلام بهذا الأمر المهم الذي قد دهمهم في الصباح .

وقوله : ( وأنا ابن الأكوع ) الكوع : اعوجاج في اليدين . قيل : الكوع والوكع في الرجل : أن تميل إبهامها على أصابعها . واسم الأكوع : سنان بن عبد الله بن بشير ، وهو أبو سلمة على ما ذكره محمد بن سعد . وقيل : اسم أبي سلمة : عمرو بن الأكوع ، وهو جد سلمة ، فنسب إليه .

وقوله : ( واليوم يوم الرضع ) : الرضع : جمع راضع ، وهو اللئيم . وأصله : أن رجلا كان يرضع الإبل، ولا يحلبها ، لئلا يسمع صوت الحلب فيقصد، فعبروا [ ص: 674 ] عن كل لئيم بذلك . وعليه قالوا في المثل : لئيم راضع . وقيل : لأنه يرضع اللؤم من أمه ، وهو مطبوع عليه . وقيل : معناه : اليوم يظهر من أرضعته كريمة أو لئيمة . وقيل : اليوم يعرف من أرضعته الحرب من صغره .

وقوله : ( فأصك سهما في رحله ، حتى خلص نصل السهم إلى كتفه ) ; كذا روايتنا فيه ، بالحاء المهملة. ويعني به : أن سهمه أصاب أخرة رحله ، فنفذها ، ووصل إلى كتفه . وفي بعض النسخ : ( فأصكه سهما في رجله حتى خلص إلى كعبه ) ، والأول أشبه. و ( أصك ) : أضرب. و ( ألحق ) و ( أصك ) : مضارعان ، ومعناهما : المضي .

وقوله : ( فما زلت أرميهم ) ; أي : أرميهم بالسهام ( وأعقر بهم ) خيلهم ، ومنه ( فعقر بعبد الرحمن فرسه ) ، ويحتمل أن يكون معناه : أصيح بهم ، من قولهم : رفع [ ص: 675 ] عقيرته ; أي : صوته . و ( يتضحون ) ; أي : يتغدون . وأصله : يأكلون عند الضحى . و ( يقرون ) : يضافون . أخبرهم -صلى الله عليه وسلم- : بأنهم قد وصلوا إلى بلادهم ، وأنهم قد فاتوهم . و ( الأرام ) : بألف ساكنة من غير همز : الأعلام من الحجارة . قال الشاعر :


وبيداء تحسب آرامها رجال إياد بأجلادها

يعني : بأشخاصها . و (الأرآم) بهمز الألف : الظباء . و ( القرن ) : جبل صغير منفرد منقطع من جبل كبير . و ( البرح ) مفتوحة الباء ، ساكنة الراء ، يعني به : المشقة الشديدة .

وقوله : ( أنا أظن ) أي : أتيقن . كما قال تعالى : إني ظننت أني ملاق حسابيه [الحاقة: 20] ; أي تحققت ، وأيقنت . ويحتمل البقاء على أصل الظن الذي هو تغليب لأحد المحتملين ، وقد اقتصر عليها ولم يذكر لها هنا مفعول . ويحتمل أن يكون حذف مفعولها للعلم به ، وهو : ذاك الذي هو إشارة إلى أن المصدر الذي يكتفى به عن المفعولين ، كما تقول : ظننت ذاك . والله أعلم .

و ( أعدو على رجلي ) ; أي : أشتد في الجري . و ( حليتهم ) كذا وقع في رواية القاضي بالياء ، وقال : أصله الهمز فسهل .

[ ص: 676 ] قلت : وصوابه : الهمز ، وهو أصله ، وهذا تسهيل لا يقتضيه القياس ، وروايتي فيه بالهمز على الأصل . ومعناه : طردتهم عن الماء.

و ( الثنية ) : الطريق في الجبل .

وقوله : ( يا ثكلته أمه ) يا : للنداء ، والمنادى محذوف ويشبه أن يكون المحذوف (من) الموصولة متعلقة بـ ( ثكلته أمه ) ، وكأنه قال : يا من ثكلته أمه. [ ص: 677 ] فحذفها للعلم بها . ويحتمل غير هذا ، وهذا أشبه . والثكل : الفقد. والثكلى : المرأة الفاقدة ولدها ، الحزينة عليه . ومنه قولهم : ثكل خير من عقوق ، وكأنه دعا عليه بالفقد والهلاك .

وقوله : ( أكوعه بكرة ) الضمير في أكوعه يعود على المتكلم على تقدير الغيبة ، كأنه قال : أكوع الرجل المتكلم ، وقد فهم منه هذا سلمة ، حيث أجابه بقوله : ( أكوعك بكرة ) ، فخاطبه بذلك و (بكرة) منصوب ، غير منون على الظرف ; لأنه لا ينصرف للتعريف والتأنيث ; لأنه أريد بها بكرة معينة ، وكذلك : غدوة . وليس ذلك لشيء من ظروف الأزمنة سواهما فيما علمت .

وقوله : ( وأرذوا فرسين ) ، روايتي فيه بالذال ، ومعناه : تركوا فرسين معيبين لم يقدرا على النهوض من الضعف والكلال . والرذية : المعيبة ، وجمعها : رذايا ، ومنه قول الشاعر :


................     فهن رذايا في الطريق ودائع

وقد روي بالدال المهملة ( أردوا ) ; أي : تركوهما هلكى ، من الردى ، وهو الهلاك ، والأول أوجه ; لأنه قال : فأقبلت بهما أسوقهما ، فدل على أنهما لم يهلكا ، وإنما ثقلا كلالا وإعياء .

و ( السطيحة ) : إناء من جلود يسطح بعضها فوق بعض . و ( المذقة ) : القطرة من اللبن الممزوج بالماء . و ( المذق ) : مزج اللبن بالماء ، وقد تقدم القول في النواجذ ، وأن المراد بها- هنا- : الضواحك .

[ ص: 678 ] وقوله : ( أعطاني سهمين : سهم الفارس ، وسهم الراجل ) ; أما سهم الراجل فهو حقه ، وأما سهم الفارس فإنما أعطاه النبي -صلى الله عليه وسلم- إياه لشدة غنائه ، ولأنه هو الذي استنقذ تلك الغنائم ، وهو الذي تنزل منزلة الجيش فيما فعل ، ولم يسمع بمن فعل مثل فعله في تلك الغزاة ، ثم لعل النبي -صلى الله عليه وسلم- إنما أعطاه سهم الفارس من الخمس ، فإن كان أعطاه من الغنيمة فذلك خصوص به لخصوص فعله .

وقوله : ( ألا مسابق ؟ ) ألا مسابق؟ : قيدناه مفتوحا بغير تنوين ; لأنها (لا) التي للنفي والتبرئة ، زيدت عليها همزة الاستفهام ، وأشربت معنى التمني ; كما قالوا : ألا سيف صارما ؟ ألا ماء باردا ؟ بغير تنوين على ما حكاه سيبويه ، وأنشد :


ألا طعان ، ألا فرسان عادية     إلا تجشؤكم عند التنانير

[ ص: 679 ] ويجوز الرفع على أن تكون ( ألا ) استفتاحا ، ويكون ( مسابق ) مبتدأ خبره محذوف ، تقديره : ألا هنا مسابق ، أو نحوه .

وقول سلمة للرجل : أما تكرم كريما ، ولا تهاب شريفا ؟ يدل على أنه فهم من قول الرجل : ( ألا مسابق ) النفي . فكأنه قال : لا أحد يسبقني. فلذلك أنكر عليه سلمة .

ولو كان عرضا فقط لم يكن فيه ما ينكره .

و ( ذرني ) ; أي : دعني ( فلأسبق ) منصوب بلام كي ، على زيادة الفاء. و ( طفرت ) : وثبت وقــفزت . و ( ربطت عليه ) : شددت عليه. ( شرفا أو شرفين ) ; يعني : طلقا أو طلقين . ( أستبقي ) أبقي . ( نفسي ) رويناه بفتح الفاء وسكونها. ففي الفتح يعني به : التنفس. يريد : أنه رفق في جريه مخافة ضيق النفس. وبالسكون يعني به : أروح نفسي وأجمها لجري آخر .

وقوله : ( ثم إني رفعت ) ; أي : زدت في السير . ويروى : (دفعت) بالدال ; أي : دفعت دفعة شديدة من الجري ، وكلاهما قريب في المعنى.

[ ص: 680 ] وقوله : ( اذهب إليك ) ; قيدناه على من يوثق بعلمه على الأمر ; أي : انفذ لوجهك ، وخذ في الجري . يقوله سلمة وهو راكب خلف النبي -صلى الله عليه وسلم- للرجل الذي قال : ألا مسابق . ولذلك قال : وثنيت رجلي ; أي : نزلت عن ظهر العضباء . و ( إليك ) على هذا معمول لـ ( اذهب ) ; أي : انفذ لوجهك .

وقوله : ( والله! ما لبثنا إلا ثلاث ليال حتى خرجنا إلى خيبر ) ; ظاهر هذا الكلام : أن غزوة خيبر كانت على إثر غزوة ذي قرد ; إذ لم يكن بينهما إلا هذا الزمان اليسير ، الذي هو ثلاث ليال ، وليس كذلك عند أحد من أصحاب السير والتواريخ ; فإن غزوة ذي قرد كانت في جمادى الأولى من السنة السادسة من الهجرة ، ثم غزا بعدها بني المصطلق في شعبان من تلك السنة ، ثم اعتمر عمرة الحديبية في ذي القعدة من تلك السنة ، ثم رجع إلى المدينة ، وأقام بها ذا الحجة وبعض المحرم ، وخرج في بقية منه إلى خيبر ، هكذا ذكره أبو عمر بن عبد البر وغيره ، ولا يكادون يختلفون في ذلك . وهذا الذي وقع في هذا الحديث وهم من بعض الرواة ، ويحتمل أن يكون النبي -صلى الله عليه وسلم- أغزى سرية فيهم سلمة إلى خيبر قبل فتحها ، فأخبر سلمة عن نفسه ، وعمن خرج معه. وقد ذكر ابن إسحاق في كتاب "المغازي" له : أنه -صلى الله عليه وسلم- أغزى إليها عبد الله بن رواحة قبل فتحها مرتين . والله أعلم .

و ( ذو قرد ) المشهور فيه بفتح القاف والراء . وقد قيل فيه بضمهما . والقرد في اللغة هو : الصوف الرديء . يقال في المثل : عثرت على الغزل بأخرة فلم تدع [ ص: 681 ] بنجد قردة . وهو في الحديث : موضع معروف. حكى هذا كله السهيلي .

وقول عمر : ( يا رسول الله! لولا متعتنا به ; أي : هلا دعوت الله أن يمتعنا ببقائه . و ( يخطر بسيفه ) ; أي : يهزه متكبرا ، و ( شاكي السلاح ) هو الذي جمع عليه سلاحه. يقال : شاكي السلاح ، و (شاك) بالكسر- و (شاك) بالرفع ، و (شائك) ، وهذا أصوب ، وما قبله مقلوب . والشكة ، والشوكة : السلاح. و ( مجرب ) روايتنا فيه بفتح الراء على أنه اسم مفعول ; يعني : أنه جربت حروبه ، وعلمت . ويصح أن يقال بالكسر على أنه اسم فاعل ، يعني : أنه جرب الحروب بنفسه ، فخبرها.

وقول عامر : ( بطل مغامر ) ; البطل : الشجاع . يقال : بطل بين البطولة والبطالة . و (المغامر) : اسم فاعل من: غامر ; يعني : أنه يأتي غمرات الحروب ، ويقتحمها. وأصله من الغمر ، وهو الماء الكثير . و ( يسفل ) بسيفه ; أي : يختل أن يضربه ، من أسفله .

[ ص: 682 ] وقول علي : ( أنا الذي سمتني أمي حيدرة ) ; حيدرة : من أسماء الأسد ، وله أسماء كثيرة . وكان علي سماه أبوه عليا ، وسمته أمه أسدا باسم أبيها ، فغلب عليه ما سماه به أبوه ، فذكر الآن ما سمته به أمه لمناسبة ما بين الحرب وصولة الأسد .

والهاء في ( حيدره ) وفي ( المنظره ) زائدة للاستراحة . والمنظرة : المنظر . ويعني : أنه كريه المنظر في عين عدوه ; لأن موت عدوه مقرون بنظره إليه .

و ( ليث ) من [ ص: 683 ] أسماء الأسد . و ( الغابات ) : جمع غابة ، وهي ملتف الشجر ; لأنها تغيب فيها من يدخلها . و ( السندرة ) : مكيال واسع . قال القتبي : ويحتمل أن يكون أخذ من السندرة وهي شجرة يعمل منها النبل والقسي . قال صاحب العين : كيل السندرة : ضرب من الكيل ، ومعناه : أقتلهم قتلا واسعا . وقيل : السندرة : العجلة ; أي : أقتلهم قتلا عجلا عاجلا .

وفي هذا الحديث أربع ، ومن الفقه والأحكام ما فيه كثرة لا تخفى على فطن ، من أهمها : جواز استقتال المرء نفسه في سبيل الله إرادة الشهادة ، واقتحام الواحد على الجمع ; إذا كان من أهل النجدة . وجواز المبارزة بغير إذن الإمام . وهو حجة على من كرهها مطلقا ، وهو الحسن ، وعلى من اشترط في جوازها إذن الإمام : وهو إسحاق ، وأحمد ، والثوري . ثم هل يعان المبارز أم لا ؟ أجازها أحمد وإسحاق ، ومنعها الأوزاعي ، وفسر الشافعي فقال : إن شرط المبارز عدمها لم يجز ، وإن لم يشترط جاز .

وظاهر هذا الحديث : أن الذي قتل مرحبا هو علي رضي الله عنه . وقد روي : أن الذي قتله محمد بن مسلمة . وحكى محمد بن سعد : أن الذي قتله ، محمد ، وذفف عليه علي .

التالي السابق


الخدمات العلمية