المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم

أبو العباس القرطبي - ضياء الدين أحمد بن عمر القرطبي

صفحة جزء
2989 (30) باب

ترك قول من قال: لا ربا إلا في النسيئة

[ 1687 ] عن أبي نضرة قال: سألت ابن عمر، وابن عباس عن الصرف فلم يريا به بأسا، فإني لقاعد عند أبي سعيد الخدري فسألته عن الصرف فقال: ما زاد فهو ربا، فأنكرت ذلك لقولهما، فقال: لا أحدثك إلا ما سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم: جاءه صاحب نخله بصاع من تمر طيب، وكان تمر النبي صلى الله عليه وسلم هذا اللون، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: "أنى لك هذا؟ ". قال: انطلقت بصاعين فاشتريت به هذا الصاع، فإن سعر هذا في السوق كذا وسعر هذا كذا، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أربيت، إذا أردت ذلك فبع تمرك بسلعة، ثم اشتر بسلعتك أي تمر شئت". قال أبو سعيد: فالتمر بالتمر أحق أن يكون ربا أم الفضة بالفضة؟ قال: فأتيت ابن عمر بعد، فنهاني ولم آت ابن عباس، قال: فحدثني أبو الصهباء: أنه سأل ابن عباس عنه فكرهه.

رواه أحمد ( 3 \ 60 )، ومسلم (1594) (100).
[ ص: 484 ] (30) ومن باب ترك قول من قال: لا ربا إلا في النسيئة

(قول أبي نضرة : سألت ابن عمر ، وابن عباس عن الصرف فلم يريا به بأسا ) يعني به: صرف الذهب بالذهب، أو الفضة بالفضة. سألهما عن التفاضل بينهما، فأفتياه بالجواز أخذا منهما بظاهر قوله صلى الله عليه وسلم: ( إنما الربا في النسيئة ) فإن هذا اللفظ ظاهره الحصر، فكأنه قال: لا ربا إلا في النسيئة. وهكذا وقع هذا اللفظ في البخاري ، وهو مقتضى قوله هنا: ( لا ربا فيما كان يدا بيد ) فينتفي ربا الفضل. وقد قدمنا: أن هذا الخلاف شاذ، متقدم، مرجوع عنه، كما قد نص عليه هنا من رجوع ابن عمر ، وابن عباس عنه. وممن قال بقولهما من السلف: عبد الله بن الزبير ، وزيد بن أرقم ، وأسامة بن زيد . ولا شك في معارضة هذا الحديث لحديث عبادة ، وأبي سعيد ، وغيرهما. فإنها نصوص في إثبات ربا الفضل.

ولما كان كذلك اختلف العلماء في كيفية التخلص من ذلك على أوجه، أشبهها وجهان:

أحدهما: أن حديث ابن عباس منسوخ بحديث عبادة وأبي سعيد ، غير أنهم لم ينقلوا التاريخ نقلا صريحا، وإنما أخذوه من رجوع ابن عباس عن ذلك، ومن عمل الجمهور من الصحابة وغيرهم من علماء المدينة على خلاف ذلك.

[ ص: 485 ] قلت: وهذا لا يدل على النسخ، وإنما يدل على الأرجحية.

وثانيهما: إن قوله: ( لا ربا إلا في النسيئة ). إنما مقصوده نفي الأغلظ الذي حرمه الله بنص القرآن، وتوعد عليه بالعقاب الشديد، وجعل فاعله محاربا لله، وذلك بقوله تعالى: الذين يأكلون الربا لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس [البقرة: 275] إلى آخر الآيات، وما كانت العرب تعرف ربا إلا ذلك، فكانت إذا حل دينها قالت للغريم: إما أن تقضي، وإما أن تربي؛ أي: تزيد في الدين. وهذا هو الذي نسخه النبي صلى الله عليه وسلم يوم عرفة لما قال: (ألا إن كل ربا موضوع، وإن أول ربا أضعه ربانا ربا عباس ). وهذا كما تقول العرب: إنما المال الإبل، وإنما الشجاع علي ، وإنما الكريم يوسف ابن نبي الله. ولا عالم في البلد إلا زيد . ومثله كثير. يعنون بذلك نفي الأكبر والأكمل، لا نفي الأصل. وهذا واضح. ومما يقرب فيه هذا التأويل جدا رواية من روى: (لا ربا فيما كان يدا بيد) أي: لا ربا كثير أو عظيم، كما قال: (لا صلاة لجار المسجد إلا في المسجد) أي: لا صلاة كاملة.

قلت: ويظهر لي وجه آخر وهو حسن؛ وذلك: أن دلالة حديث ابن عباس على نفي ربا الفضل دلالة بالمفهوم، ودلالة إثباته دلالة بالمنظوم. ودلالة المنظوم راجحة على دلالة المفهوم باتفاق النظار، والحمد لله.

و (قول أبي سعيد : كان تمر رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا اللون ) يشير به إلى أنه نوع [ ص: 486 ] رديء من التمر، وهو الذي سمي في الحديث المتقدم بالجمع.

و (قوله: فالتمر بالتمر أحق أن يكون ربا، أم الفضة بالفضة؟ ) استدلال نظري ألحق فيه الفرع بالأصل بطريق الأولى والأحق. وهي أقوى طرق القياس. ولذلك وافق على القول بها أكثر منكري القياس، وقد بيناه في الأصول، وكأن أبا سعيد رضي الله عنه إنما عدل إلى هذه الطريقة لأنه لم يحضره شيء من نصوص حديث عبادة ، وفضالة المتقدمة. وهي أحق وأولى بالاستدلال بها على ذلك.

التالي السابق


الخدمات العلمية