المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم

أبو العباس القرطبي - ضياء الدين أحمد بن عمر القرطبي

صفحة جزء
3085 (5) باب فيما جاء في الحبس

[ 1736 ] عن ابن عمر، قال: أصاب عمر أرضا بخيبر، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم يستأمره فيها، فقال: يا رسول الله، إني أصبت أرضا بخيبر لم أصب مالا قط هو أنفس عندي منه، فما تأمر به؟ قال: إن شئت حبست أصلها وتصدقت بها. قال: فتصدق به عمر، أنه لا يباع أصلها، ولا يورث ولا يوهب، قال: فتصدق عمر في الفقراء، وفي القربى، وفي الرقاب، وفي سبيل الله، وابن السبيل، والضيف ولا جناح على من وليها أن يأكل منها بالمعروف، أو يطعم صديقا غير متمول فيه. وفي رواية: غير متأثل مالا.

رواه أحمد ( 2 \ 12 )، والبخاري (2737)، ومسلم (1632)، وأبو داود (2878)، والترمذي (1375)، والنسائي ( 6 \ 230 )، وابن ماجه (296).
[ ص: 599 ] (5) ومن باب: الحبس

(قول عمر رضي الله عنه: يا رسول الله ! إني أصبت أرضا بخيبر لم أصب مالا قط هو أنفس منه ) يعني: أنه صارت له هذه الأرض بالقسمة. فإن النبي صلى الله عليه وسلم قسم أرض خيبر التي افتتحت عنوة كما قررناه في الجهاد. والمال النفيس: المغتبط به لجودته. ويسمى هذا المال: ثمغ. ولما كان هذا المال أطيب أموال عمر ، وأحبها إليه أراد أن يتصدق به لينال البر الذي ذكر الله تعالى في قوله: لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون [آل عمران: 92] وهذا كما قال الأنصاري صاحب بيرحاء ، فأرشده رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الأصلح في الصدقة وهو التحبيس؛ من حيث إن صدقته جارية، وأجره دائم في الحياة، وبعد الموت. كما قال صلى الله عليه وسلم: (إذا مات الإنسان انقطع عمله إلا من ثلاثة: صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له).

و (قوله: فما تأمر به؟ ) استشارة من عمر مع حسن أدب، ولذلك أجابه صلى الله عليه وسلم بقوله: (إن شئت حبست أصلها، وتصدقت بها) أي: بثمرها، كما قد قال في الرواية الأخرى، وليس هذا أمرا من النبي صلى الله عليه وسلم له، ولا حكما عليه بالتحبيس. وإنما هي إشارة إلى الأصلح والأولى. ففيه دليل على جواز الاستشارة في الأمور؛ وإن [ ص: 600 ] كانت من نوع القرب. وعلى أن المستشار يجب عليه أن يشير بأحسن ما يظهر له، كما قال صلى الله عليه وسلم: (من أشار على أخيه بأمر يعلم أن الرشد في غيره؛ فقد خانه)، وقال: (المستشار مؤتمن). ولما فهم عمر رضي الله عنه أنه أشار عليه بالأصلح بادر إلى ذلك، فتصدق به على جهة تقتضي تحبيس الأصل، والتصدق بالثمرة، فكان ذلك دليلا لجمهور العلماء على جواز الحبس، وصحته على من شذ ومنعه. وهذا خلاف لا يلتفت إليه. فإن قائله خرق إجماع المسلمين في المساجد، والسقايات؛ إذ لا خلاف في ذلك. وهو أيضا حجة للجمهور على قولهم: إن الحبس لازم، وإن لم يقترن به حكم حاكم. وخالف في ذلك أبو حنيفة ، وزفر ، فقالا: لا يلزم، وهو عطية، يرجع فيها صاحبها، وتورث عنه إلا أن يحكم به حاكم، أو يكون مسجدا، أو سقاية، أو يوصي به، فيكون في ثلثه.

ووجه الحجة عليه من هذا الحديث: أن عمر رضي الله عنه لما فهم عن النبي صلى الله عليه وسلم إشارته بالتحبيس بادر إلى ذلك بحضرة النبي صلى الله عليه وسلم وقال: إنه لا يباع، ولا يوهب، ولا يورث . ثم إنه أمضى ذلك من غير أن يحكم به النبي صلى الله عليه وسلم؛ إذ لم يصدر من النبي صلى الله عليه وسلم أكثر من الإشارة.

وأيضا: فإن الصحابة قد أجمعت على ذلك من غير خلاف بينهم فيه. فقد حبس الأئمة الأربعة رضي الله عنهم وطلحة ، وزيد بن ثابت ، والزبير ، وابن عمر ، وخالد بن الوليد ، وأبو رافع ، وعائشة ، وغيرهم. واستمرت أحباسهم معمولا بها على وجه الدهر، من غير أن يقف شيء من ذلك على حكم حاكم. ولم يحك أن شيئا من تلك الأحباس رجعت إلى المحبس، ولا [ ص: 601 ] إلى ورثته.

ومن جهة المعنى: فإنها عطية على جهة القربة ، فتلزم؛ كالهبة للمساكين، ولذي الرحم، وكالصدقة. ولأنه قد أجمع على تحبيس المساجد من غير حكم. ولا فرق بين تحبيسها وتحبيس العقار لا سيما على الفقراء والمساكين. فإذا ثبت هذا: فالحبس لازم في كل شيء تمكن العطية فيه.

واختلف عن مالك في تحبيس الحيوان؛ كالإبل، والخيل، على قولين: المنع؛ وبه قال أبو حنيفة ، وأبو يوسف .

والصحة: وبه قال الشافعي ، وهو الصحيح؛ لأنه عطية على وجه القربة، يتكرر أجرها، كالعقار، وغيره، ولأن المسلمين على شروطهم، وقد شرط صاحب الفرس في صدقته: أنها لا تباع، ولا توهب، ولا تورث. فينفذ شرطه. وقد تقدم القول على هذا المعنى في باب العمرى.

فإذا فهمت هذا؛ فاعلم: أن الألفاظ الواقعة في هذا الباب إما أن يقترن معها ما يدل على التأبيد أو لا.

فالأول: نحو قوله: لا يباع، ولا يوهب، ولا يورث، أو: أبدا، أو: دائما، أو: على مجهولين، أو: على العقب. فهذا النوع لا يبالي بأي لفظ نسق معه؛ لأنه يفيد ذلك المعنى؛ كقوله: وقف، أو: حبس، أو: صدقة، أو: عطية.

فأما الثاني: وهو إذا تجرد عما يدل على ذلك، فلفظ الوقف صريح الباب، فيقتضي التأبيد، والتحريم. ولم يختلف المذهب في ذلك.

وفي الحبس روايتان: إحداهما: أنه كالوقف. والثانية: أنه يرجع إلى المحبس بعد موت المحبس عليه. والظاهر الأول؛ لأنه يستعمل في ذلك شرعا [ ص: 602 ] وعرفا. وأما الصدقة: فالظاهر منها أنها تمليك الرقبة. وفي رواية: أنها كالوقف. وفيها بعد إلا عند القرينة. واختلف فيما لو جمع بينهما فقال: حبس صدقة. والظاهر: أن حكمه حكم الحبس. وصدقة: تأكيد.

و (قوله: فتصدق بها عمر في الفقراء، وفي القربى، وفي الرقاب، وفي سبيل الله، وابن السبيل، والضيف ) قد تقدم القول في الفقير في كتاب الزكاة، وكذلك: في الرقاب، وفي سبيل الله، وفي ابن السبيل. وأما القربى: فظاهره أنه أراد به قرابته. ويحتمل أن يريد به: قرابة النبي صلى الله عليه وسلم المذكورين في الخمس والفيء. وفيه بعد؛ لأنه قد أطلق على ذلك الحبس صدقة، وهم قد حرموا الصدقة، إلا إن تنزلنا: على أن الذي حرموه هي الصدقة الواجبة فقط. والرافع لهذا الاحتمال الوقوف على ما صنع في صدقة عمر . فينبغي أن يبحث عن ذلك. والأولى حمله على قرابة عمر الخاصة به. والله أعلم.

و (قوله: لا جناح على من وليها أن يأكل منها بالمعروف ) هذا رفع للحرج عن الوالي عليها، والعامل في تلك الصدقة في الأكل منها، على ما جرت به عادة العمال في الحيطان من أكلهم من ثمرها حالة عملهم فيها. فإن المنع من ذلك نادر، وامتناع العامل من ذلك أندر، حتى أنه لو اشترط رب الحائط على العامل فيه ألا يأكل لاستقبح ذلك عادة وشرعا. وعلى ذلك: فيكون المراد بالمعروف: القدر [ ص: 603 ] الذي يدفع الحاجة، ويرد الشهوة، غير أكل بسرف، ولا نهمة، ولا متخذا خيانة ولا خبنة. وقيل: مراد عمر بذلك: أن يأكل العامل منها بقدر عمله. وفيه بعد؛ لأنه لا يصح ذلك حتى يتأول ( يأكل ) بمعنى: (يأخذ) لأن العامل إنما يأخذ أجرته، فيتصرف فيها بما شاء من بيع، أو أكل، أو غير ذلك. و (أكل) بمعنى: (أخذ) على خلاف الأصل، ولأن مساق اللفظ لا يشعر بقصد إلى أن تلك الإباحة إنما هي بحسب العمل وبقدره. فتأمله، لا سيما وقد أردف عليه: ويطعم صديقا غير متأثل مالا ؛ يعني به: صديقا للوالي عليها، وللعامل فيها. ويحتمل: صديقا للمحبس. وفيه بعد. والمتأثل للشيء هو: المتخذ لأصله، حتى كأنه قديم عنده.

ومنه قول الشاعر:


ولكنما أسعى لمجد مؤثل وقد يدرك المجد المؤثل أمثالي



أي: المجد القديم المؤصل. وأثلة الشيء: أصله. وفيه ما يدل على أنه يجوز الحبس على الأغنياء.

التالي السابق


الخدمات العلمية