صفحة جزء
[ ص: 47 ] ( فصل ) ( الحقيقة ) فعيلة من الحق ، ثم إن كان بمعنى الثابت ، فهي اسم فاعل ، وإن كان بمعنى المثبت ، فهي اسم مفعول . وهي أقسام : ( لغوية ) أي منسوبة إلى اللغة ( وهي ) من حيث نسبتها إلى اللغة ( قول ) أي لفظ غير مهمل ( مستعمل ) لأنه قبل الاستعمال لا حقيقة ولا مجاز ( في وضع أول ) مخرج للمجاز ; لأنه بوضع ثان ، ودخل فيه أسماء الأجناس ( وهي ) أقسام . الأول : ( لغوية ) أي منسوبة إلى اللغة ( وهي ) من حيث نسبتها إليها بالنسبة إلى العرفية والشرعية ( الأصل ) أي الأسبق ( كأسد ) وأعلامها كأسامة .

( و ) القسم الثاني : حقيقة ( عرفية ) وهي ( ما ) أي قول ( خص عرفا ) أي في العرف ( ببعض مسمياته ) وإن كان وضعها للجميع حقيقة . ثم اعلم أن الحقيقة العرفية إما أن تكون عامة ، وهي أن لا يختص تخصيصها بطائفة دون أخرى ( كدابة ) فإن وضعها بأصل اللغة لكل ما يدب على الأرض من ذي حافر وغيره ، ثم هجر الوضع الأول ، وصارت في العرف حقيقة ( للفرس ) ولكل ذات حافر .

وكذا ما شاع استعماله في غير موضوعه اللغوي ، كالغائط والعذرة والراوية ، فإن حقيقة الغائط : المطمئن من الأرض ، والعذرة : فناء الدار ، والراوية : الجمل الذي يستقى عليه الماء ( أو ) تكون ( خاصة ) وهي ما خصته كل طائفة من الأسماء بشيء من مصطلحاتهم ، كمبتدإ وخبر ، وفاعل ومفعول . ونعت وتوكيد في اصطلاح النحاة ، ونقض وكسر وقلب في اصطلاح الأصوليين ، وغير ذلك مما اصطلح عليه أرباب كل فن .

( و ) القسم الثالث : حقيقة ( شرعية واقعة منقولة ) وهي ( ما استعمله الشرع كصلاة ، للأقوال والأفعال ، و ) استعمال ( إيمان لعقد بالجنان ، ونطق باللسان وعمل بالأركان ، فدخل كل الطاعات . وهما ) أي الصلاة والإيمان ( لغة ) أي في اللغة ( الدعاء والتصديق بما غاب ) يعني أن الصلاة في اللغة : الدعاء ، والإيمان في اللغة : التصديق بما غاب . ويجوز الاستثناء فيه ، أي في الإيمان بأن تقول : أنا مؤمن إن شاء الله . نص على ذلك الإمام أحمد والإمام الشافعي رحمهما الله .

وحكي عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه وقال ابن عقيل : يستحب ولا يقطع [ ص: 48 ] لنفسه . ومنع ذلك الإمام أبو حنيفة وأصحابه والأكثر ; لأن التصديق معلوم لا يتردد فيه عند تحققه ، ومن تردد في تحققه لم يكن مؤمنا . وإن لم يكن للشك والتردد فالأولى أن يقول : أنا مؤمن حقا ، دفعا للإيهام . واستدل للقول الأول بوجوه :

أحدها : أن الاستثناء للتبرك بذكر الله تعالى ، والتأدب بإحالة الأمور إلى مشيئة الله تعالى ، والتبري من تزكية النفس والإعجاب بحالها . الثاني : أن التصديق الإيماني المنوط به النجاة : أمر قلبي خفي ، له معارضات خفية كثيرة من الهوى والشيطان والخذلان . فالمرء - وإن كان جازما بحصوله - لكنه لا يأمن أن يشوبه شيء من منافيات النجاة ، ولا سيما عند تفاصيل الأوامر والنواهي الصعبة المخالفة للهوى والمستلذات من غير علم له بذلك . فلذلك يفوض حصوله إلى مشيئة الله تعالى .

الثالث : أن الإيمان ثابت في الحال قطعا من غير شك فيه ، لكن الإيمان الذي هو علم الفوز وآية النجاة : إيمان الموافاة . فاعتنى السلف به وقرنوه بالمشيئة ، ولم يقصدوا الشك في الإيمان الناجز . وأما الإسلام : فلا يجوز الاستثناء فيه بأن يقول : أنا مسلم إن شاء الله بل يجزم به . قاله ابن حمدان في نهاية المبتدئين وقيل : يجوز إن شرطنا فيه العمل ( وقد تصير الحقيقة ) اللغوية وهي وضع الدابة لكل ما دب ( مجازا ) في العرف . يعني أنا إذا أطلقنا " الدابة " في العرف لكل ما دب كان ذلك مجازا فيه ( وبالعكس ) أي وقد يصير المجاز ، وهو إطلاق " الدابة " على ذوات الأربع في اللغة حقيقة في العرف ( والمجاز ) وزنه مفعل من الجواز ، وهو العبور والانتقال . فأصله " مجوز " بفتح الميم والواو ، نقلت حركة الواو إلى الجيم ، فسكنت الواو ، وانفتح ما قبلها ، وهو الجيم .

فانقلبت الواو ألفا على القاعدة . فصار مجازا ، والمفعل يكون مصدرا واسم مكان واسم زمان . فالمجاز بالمعنى الاصطلاحي : إما مأخوذ من المصدر ، أو من اسم المكان ، لا من اسم الزمان ، لعدم العلاقة فيه بخلافهما . فإنه إن كان من المصدر فهو متجوز به إلى الفاعل للملابسة ، كعدل بمعنى عادل ، أو من المكان له ، فهو من إطلاق المحل على الحال . ومع ذلك ففيه تجوز آخر ، لأن " الجواز " حقيقة [ ص: 49 ] للجسم لا للفظ ، لأنه عرض لا يقبل الانتقال . فهو مجاز باعتبارين ; لأنه مجاز منقول من مجاز آخر ، فيكون بمرتبتين . فالمجاز هو اللفظ الجائز من شيء إلى آخر ، تشبيها بالجسم المنتقل من موضع إلى آخر . وحده في الاصطلاح ( قول مستعمل ) احترز به عن المهمل ، وعن اللفظ قبل الاستعمال ، فإنه لا حقيقة ولا مجاز ، وقولنا ( بوضع ثان ) احتراز من الحقيقة .

فإن استعماله فيها بوضع أول ، وقولنا ( لعلاقة ) احتراز من الأعلام المنقولة ; لأن نقلها ليس لعلاقة ، والعلاقة هنا : المشابهة الحاصلة بين المعنى الأول والمعنى الثاني ، بحيث ينتقل الذهن بواسطتها عن محل المجاز إلى الحقيقة ; لأنه لو لم تكن علاقة من المعنيين لكان الوضع بالنسبة إلى المعنى الثاني أول . فيكون حقيقة فيهما ، وتعتبر في اصطلاح التخاطب بحسب النوع . وهي بفتح العين على الأصل في المعاني ، وبكسرها على التشبيه بالأجسام من علاقة السوط .

( ولا يعتبر لازم ذهني بين المعنيين ) فإن أكثر المجازات المعتبرة عارية عن اللزوم الذهني ( وصير إليه ) أي إلى المجاز ( لبلاغته ) أي بلاغة المجاز . كصلاحيته للسجع والتجنيس ونحوهما أو ( ثقلها ) على اللسان ، كالعدول عن لفظ الخنفقيق - بفتح الخاء المعجمة ، وسكون النون وفتح الفاء ، وكسر القاف وإسكان المثناة من تحت وآخره قاف - اسم للداهية إلى لفظ النائبة أو الحادثة ( ونحوهما ) أي نحو بلاغة المجاز وثقل الحقيقة من بشاعة اللفظ ، كالتعبير بالغائط عن الخارج . ومن ذلك جهل المخاطب الحقيقة ، أو كون المجاز أشهر منها ، أو كونه معلوما عند المتخاطبين ، ويقصدان إخفاءه عن غيرهما ، أو عظم معناه ، كسلام الله على المجلس العالي . فهو أرفع في المعنى من قوله " سلام الله عليك " أو كون المجاز أدخل في التحقير لمن يريده .

التالي السابق


الخدمات العلمية