صفحة جزء
( الأحكام ) أي : هذا فصل نذكر فيه هنا نبذة من معاني الأحكام . وحيث انتهى الكلام على ما يستمد منه هذا العلم من اللغة شرعنا في ذكر ما يستمد منه من الأحكام إذ لا بد من حكم ، وحاكم ، ومحكوم فيه ، ومحكوم عليه . والكلام الآن في الحكم فنقول ( الحسن والقبح ) يطلق بثلاثة اعتبارات أحدها : ( بمعنى ملاءمة الطبع ومنافرته ) كقولنا : إنقاذ الغريق حسن ، واتهام البريء قبيح الثاني : ما أشير إليه بقوله : ( أو ) بمعنى ( صفة كمال ونقص ) كقولنا : العلم حسن ، والجهل قبيح . وكل منهما ( عقلي ) أي إن العقل يستقل بإدراكهما من غير توقف على الشرع .

( و ) الثالث : إطلاق الحسن والقبح ( بمعنى المدح والثواب ، و ) بمعنى [ ص: 96 ] ( الذم والعقاب : شرعي ، فلا حاكم إلا الله تعالى ، والعقل لا يحسن ولا يقبح ولا يوجب ولا يحرم ) عند الإمام أحمد رضي الله تعالى عنه وأكثر أصحابه والأشعرية . قاله ابن عقيل وأهل السنة والفقهاء ، قال الإمام أحمد : ليس في السنة قياس ، ولا يضرب لها الأمثال ، ولا تدرك بالعقل ، وإنما هو الاتباع .

وقال أبو الحسن التميمي ، من أصحابنا ، والشيخ تقي الدين ، وابن القيم ، وأبو الخطاب ، والمعتزلة ، والكرامية : العقل يحسن ويقبح ، ويوجب ويحرم .

ونقل عن الحنفية والمالكية والشافعية قولان . قال ابن قاضي الجبل : قال شيخنا - يعني الشيخ تقي الدين - وغيره : الحسن والقبح ثابتان ، والإيجاب والتحريم بالخطاب والتعذيب متوقف على الإرسال ورد الحسن والقبح الشرعيين إلى الملاءمة والمنافرة ; لأن الحسن الشرعي : يتضمن المدح والثواب الملائمين .

والقبح الشرعي : يتضمن الذم والعقاب المنافرين . واختار ابن الخطيب في آخر كتبه : أن الحسن والقبح العقليين ثابتان في أفعال العباد . انتهى . وقال ابن قاضي الجبل أيضا : ليس مراد المعتزلة بأن الأحكام عقلية : أن الأوصاف مستقلة بالأحكام ، ولا أن العقل هو الموجب ، أو المحرم ، بل معناه عندهم : أن العقل أدرك أن الله تعالى بحكمته البالغة كلف بترك المفاسد وتحصيل المصالح . فالعقل أدرك الإيجاب والتحريم ، لا أنه أوجب وحرم فالنزاع معهم : في أن العقل أدرك ذلك أم لا . فخصومهم يقولون : ذلك جائز على الله تعالى ، ولا يلزم من الجواز الوقوع ، وهم يقولون : بل هذا عند العقل من قبل الواجبات . فكما يوجب العقل أنه يجب أن يكون الله عليما قديرا متصفا بصفات الكمال كذلك أدرك وجوب مراعاة الله تعالى للمصالح وللمفاسد . فهذا محل النزاع . انتهى .

ومن قواعد القائلين بأنه " لا حاكم إلا الله تعالى " : أن حسن الفعل وقبحه ليسا لذات الفعل ولا لأمر داخل في ذاته ولا خارج لازم لذاته ، حتى يحكم العقل بحسن الفعل ، أو قبحه بناء على تحقق ما به من الحسن والقبح . والحنفية وإن لم يجعلوا العقل حاكما صريحا فقد قالوا : حسن بعض الأشياء وقبحها لا يتوقف [ ص: 97 ] على الشرع ، بمعنى أن العقل يحكم في بعض الأشياء بأنها مناط للثواب والعقاب وإن لم يأت نبي ولا كتاب .

وبعض تلك الأحكام بديهي ، وبعضها كسبي ( ولا يرد الشرع بما يخالف ما يعرف ببداهة العقول وضرورياتها ) قال القاضي والحلواني وغيرهما : ما يعرف ببداهة العقول وضرورياتها - كالتوحيد وشكر المنعم وقبح الظلم - لا يجوز أن يرد الشرع بخلافه . وما يعرف بتوليد العقل استنباطا أو استدلالا ، فلا يمتنع أن يرد بخلافه . ومعناه لأبي الخطاب . فإنه قال : ما ثبت بالعقل ينقسم قسمين . فما كان منه واجبا لعينه - كشكر المنعم والإنصاف وقبح الظلم - فلا يصح أن يرد الشرع بخلاف ذلك . وما كان واجبا لعلة أو دليل مثل : الأعيان المنتفع بها التي فيها الخلاف . فيصح أن يرتفع الدليل والعلة ، فيرتفع ذلك الحكم . وهذا غير ممتنع . كفروع الدين كلها . تثبت بأدلة ثم تنسخ الأدلة فيرتفع الحكم ، وقال : وقد قيل : إن الشرع يرد بما لا يقتضيه العقل إذا كان العقل لا يحيله كتكليف ما لا يطاق ، وإن الله سبحانه وتعالى يريد جميع أفعال العباد حسنها وقبيحها ويعاقبهم على القبيح وغير ذلك

التالي السابق


الخدمات العلمية