صفحة جزء
النظر الثاني في الصيغة

، وقد حكى بعض الأصوليين خلافا في أن الأمر هل له صيغة ؟ وهذه الترجمة خطأ ، فإن قول الشارع : أمرتكم بكذا أو أنتم مأمورون بكذا ، أو قول الصحابي : أمرت بكذا . كل ذلك صيغ دالة على الأمر ، وإذا قال : أوجبت عليكم أو فرضت عليكم ، وأمرتكم بكذا ، وأنتم معاقبون على تركه ، فكل ذلك يدل على الوجوب ، ولو قال : أنتم مثابون على فعل كذا ، ولستم معاقبين على تركه ، فهو صيغة دالة على الندب . فليس في هذا خلاف ، وإنما الخلاف في أن قوله : " افعل " هل يدل على الأمر بمجرد صيغته إذا تجرد عن القرائن ؟ فإنه قد يطلق على أوجه ، منها الوجوب كقوله : { أقم الصلاة } ، والندب ، كقوله : { فكاتبوهم } ، والإرشاد كقوله : { ، واستشهدوا } والإباحة كقوله { فاصطادوا } ، والتأديب كقوله لابن عباس كل مما يليك ، والامتنان كقوله : { كلوا مما رزقكم الله } ، والإكرام ، كقوله : { ادخلوها بسلام آمنين } ، والتهديد ، كقوله : { اعملوا ما شئتم } ، والتسخير ، كقوله : { كونوا قردة خاسئين } ، والإهانة ، كقوله : { ذق إنك أنت العزيز الكريم } ، والتسوية ، كقوله : { فاصبروا أو لا تصبروا } ، والإنذار ، كقوله : { كلوا وتمتعوا } ، والدعاء كقوله : { اللهم اغفر لي } ، والتمني كقول الشاعر "

ألا أيها الليل الطويل ألا انجلي

" . ولكمال القدرة كقوله : { كن فيكون } ، وأما صيغة النهي ، وهو قوله : " لا تفعل . فقد تكون للتحريم وللكراهية ، والتحقير كقوله : { لا تمدن عينيك } ولبيان العاقبة ، كقوله : { ولا تحسبن الله غافلا عما يعمل الظالمون } وللدعاء كقوله : { ولا تكلنا إلى أنفسنا طرفة عين } ولليأس كقوله : { لا تعتذروا اليوم } [ ص: 205 ] وللإرشاد كقوله : { لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم } فهذه خمسة عشر وجها في إطلاق صيغة الأمر ، وسبعة أوجه في إطلاق صيغة النهي فلا بد من البحث عن الوضع الأصلي في جملة ذلك ما هو ، والمتجوز به ما هو ، وهذه الأوجه عدها الأصوليون شغفا منهم بالتكثير ، وبعضها كالمتداخل ، فإن قوله : كل مما يليك " جعل للتأديب ، وهو داخل في الندب ، والآداب مندوب إليها .

وقوله : { تمتعوا } للإنذار قريب من قوله : { اعملوا ما شئتم } الذي هو للتهديد ، ولا نطول بتفصيل ذلك ، وتحصيله فالوجوب ، والندب ، والإرشاد ، والإباحة أربعة وجوه محصلة ، ولا فرق بين الإرشاد ، والندب ، إلا أن الندب لثواب الآخرة ، والإرشاد للتنبيه على المصلحة الدنيوية فلا ينقص ثواب بترك الإشهاد في المداينات ، ولا يزيد بفعله ، وقال قوم : هو مشترك بين هذه الوجوه الخمسة عشر كلفظ " العين " والقرء ، وقال قوم : يدل على أقل الدرجات ، وهو الإباحة ، وقال قوم : هو للندب ، ويحمل على الوجوب بزيادة قرينة ، وقال قوم : هو للوجوب فلا يحمل على ما عداه إلا بقرينة ، وسبيل كشف الغطاء أن نرتب النظر على مقامين ، الأول : في بيان أن هذه الصيغة هل تدل على اقتضاء ، وطلب أم لا ؟ والثاني : في بيان أنه إن اشتمل على اقتضاء فالاقتضاء موجود في الندب ، والوجوب على اختيارنا في أن الندب داخل تحت الأمر ، فهل يتعين لأحدهما أو هو مشترك ؟

المقام الأول : في دلالته على اقتضاء الطاعة .

فنقول : قد أبعد من قال إن قوله " افعل مشترك بين الإباحة ، والتهديد الذي هو المنع ، وبين الاقتضاء ، فإنا ندرك التفرقة في وضع اللغات كلها بين قولهم " افعل " و " لا تفعل " و " إن شئت فافعل " و " إن شئت فلا تفعل " حتى إذا قدرنا انتفاء القرائن كلها ، وقدرنا هذا منقولا على سبيل الحكاية عن ميت أو غائب لا في فعل معين من قيام ، وقعود ، وصيام ، وصلاة بل في الفعل مجملا سبق إلى فهمنا اختلاف معاني هذه الصيغ ، وعلمنا قطعا أنها ليست أسامي مترادفة على معنى واحد ، كما أنا ندرك التفرقة بين قولهم في الإخبار " قام زيد " ويقوم زيد " " وزيد قائم " في أن الأول للماضي ، والثاني للمستقبل ، والثالث للحال هذا هو الوضع ، وإن كان قد يعبر بالماضي عن المستقبل وبالمستقبل عن الماضي لقرائن تدل عليه ; ، وكما ميزوا الماضي عن المستقبل ميزوا الأمر عن النهي ، وقالوا في باب الأمر " افعل " ، وفي باب النهي " لا تفعل " ، وإنهما لا ينبئان عن معنى قوله : " إن شئت فافعل " " وإن شئت فلا تفعل " فهذا أمر لعلمه بالضرورة من العربية ، والتركية ، والعجمية ، وسائر اللغات لا يشككنا فيه إطلاق مع قرينة التهديد ، ومع قرينة الإباحة في نوادر الأحوال .

فإن قيل : بم تنكرون على من يحمله على الإباحة لأنها أقل الدرجات فهو مستيقن ؟ قلنا هذا باطل من وجهين :

أحدهما : أنه محتمل للتهديد ، والمنع ، فالطريق الذي يعرف أنه لم يوضع للتهديد يعرف أنه لم يوضع للتخيير .

الثاني : أن هذا من قبيل الاستصحاب لا من قبيل البحث عن الوضع ، فإنا نقول هل تعلم أن مقتضى قوله " افعل " للتخيير بين الفعل ، والترك ؟ فإن قال نعم فقد باهت ، واخترع ، وإن قال : لا ، فنقول : فأنت شاك في معناه فيلزمك التوقف . فيحصل من هذا أن قوله " افعل " يدل على ترجيح جانب الفعل على جانب الترك [ ص: 206 ] بأنه ينبغي أن يوجد ، وقوله : " لا تفعل " يدل على ترجيح جانب الترك على جانب الفعل ، وأنه ينبغي أن لا يوجد ، وقوله : أبحت لك فإن شئت فافعل ، وإن شئت فلا تفعل " يرفع الترجيح .

المقام الثاني : في ترجيح بعض ما ينبغي أن يوجد ، فإن الواجب ، والمندوب كل واحد منهما ينبغي أن يوجد ، ويرجح فعله على تركه ، وكذا ما أرشد إليه ; إلا أن الإرشاد يدل على أنه ينبغي أن يوجد ، ويرجح فعله على تركه لمصلحة العبد في الدنيا ، والندب لمصلحته في الآخرة ، والوجوب لنجاته في الآخرة هذا إذا فرض من الشارع ، وفي حق السيد إذا قال لعبده افعل " أيضا يتصور ذلك مع زيادة أمر ، وهو أن يكون لغرض السيد فقط كقوله : " اسقني " عند العطش ، وهو غير متصور في حق الله تعالى ، فإن الله غني عن العالمين ، ومن جاهد فإنما يجاهد لنفسه .

وقد ذهب ذاهبون إلى أن وضعه للوجوب ، وقال قوم : هو للندب ، وقال قوم : يتوقف فيه . ثم منهم من قال : هو مشترك كلفظ العين ، ومنهم من قال : لا ندري أيضا أنه مشترك أو وضع لأحدهما ، واستعمل في الثاني مجازا ، والمختار أنه متوقف فيه ، والدليل القاطع فيه أن كونه موضوعا لواحد من الأقسام لا يخلو إما أن يعرف عن عقل أو نقل ، ونظر العقل إما ضروري أو نظري ، ولا مجال للعقل في اللغات ، والنقل إما متواتر أو آحاد ، ولا حجة في الآحاد ، والتواتر في النقل لا يعدو أربعة أقسام ، فإنه إما أن ينقل عن أهل اللغة عند وضعهم أنهم صرحوا بأنا وضعناه لكذا أو أقروا به بعد الوضع ، وإما أن ينقل عن الشارع الإخبار عن أهل اللغة بذلك أو تصديق من ادعى ذلك ، وإما أن ينقل عن أهل الإجماع ، وإما أن يذكر بين يدي جماعة يمتنع عليهم السكوت على الباطل .

فهذه الوجوه الأربعة هي وجوه تصحيح النقل ، ودعوى شيء من ذلك في قوله " افعل " أو في قوله " أمرتك بكذا ، وقول الصحابي أمرنا بكذا " لا يمكن فوجب التوقف فيه . كذلك قصر دلالة الأمر على الفور أو التراخي ، وعلى التكرار أو الاتحاد يعرف بمثل هذه الطريق ، وكذلك التوقف في صيغة العموم عمن توقف فيها . هذا مستنده ، وعليه ثلاثة أسئلة بها يتم الدليل ، ونذكر شبه المخالفين .

السؤال الأول : قولهم إن هذا ينقلب عليكم في إخراج الإباحة ، والتهديد من مقتضى اللفظ مع أنه لا يدل عليه عقل ، ولا نقل ، فإنه لم ينقل عن العرب صريحا بأنا ما وضعنا هذه الصيغة للإباحة ، والتهديد ، لكن استعملنا فيهما على سبيل التجوز . قلنا : ما يعرف باستقراء اللغة ، وتصفح وجوه الاستعمال أقوى مما يعرف بالنقل الصريح ، ونحن كما عرفنا أن الأسد وضع لسبع ، والحمار وضع لبهيمة ، وإن كان كل واحد منهما يستعمل في الشجاع ، والبليد فيتميز عندنا بتواتر الاستعمال الحقيقة من المجاز ، فكذلك يتميز صيغة الأمر ، والنهي ، والتخيير تميز صيغة الماضي ، والمستقبل ، والحال ، ولسنا نشك فيه أصلا وليس كذلك تميز الوجوب عن الندب .

السؤال الثاني : قولهم إن هذا ينقلب عليكم في الوقف ، فإن الوقف في هذه الصيغة غير منقول عن العرب ، فلم توقفتم بالتحكم ؟ قلنا : لسنا نقول : التوقف مذهب ، لكنهم أطلقوا هذه الصيغة للندب مرة وللوجوب أخرى ، ولم يوقفونا على أنه موضوع لأحدهما دون الثاني ، [ ص: 207 ] فسبيلنا أن لا ننسب إليهم ما لم يصرحوا به ، وأن نتوقف عن التقول والاختراع عليهم ، وهذا كقولنا بالاتفاق إنا رأيناهم يستعملون لفظ الفرقة ، والجماعة ، والنفر تارة في الثلاثة ، وتارة في الأربعة ، وتارة في الخمسة ، فهي لفظة مرددة ، ولا سبيل إلى تخصيصها بعدد على سبيل الحكم وجعلها مجازا في الباقي .

السؤال الثالث : قولهم إن هذا ينقلب عليكم في قولكم : إن هذه الصيغة مشتركة اشتراك لفظ الجارية بين المرأة ، والسفينة ، والقرء بين الطهر ، والحيض ، فإنه لم ينقل أنه مشترك .

قلنا : لسنا نقول إنه مشترك ، لكنا نقول نتوقف في هذه أيضا فلا ندري أنه وضع لأحدهما ، وتجوز به عن الآخر أو وضع لهما معا ، ويحتمل أن نقول إنه مشترك بمعنى أنا إذا رأيناهم أطلقوا اللفظ لمعنيين ، ولم يوقفونا على أنهم وضعوه لأحدهما ، وتجوزوا به في الآخر فنحمل إطلاقهم فيهما على لفظ الوضع لهما ، وكيفما قلنا فالأمر فيه قريب .

شبه المخالفين الصائرين إلى أنه للندب : وقد ذهب إليه كثير من المتكلمين ، وهم المعتزلة وجماعة من الفقهاء ، ومنهم من نقله عن الشافعي ، وقد صرح الشافعي في كتاب " أحكام القرآن " بتردد الأمر بين الندب ، والوجوب ، وقال : النهي على التحريم ، فقال : إنما أوجبنا تزويج الأيم لقوله تعالى : { فلا تعضلوهن } ، وقال : لم يتبين لي وجوب إنكاح العبد لأنه لم يرد فيه النهي عن العضل ، بل لم يرد إلا قوله تعالى : { ، وأنكحوا الأيامى } الآية فهذا أمر ، وهو محتمل الوجوب ، والندب .

الشبهة الأولى : لمن ذهب إلى أنه للندب : أنه لا بد من تنزيل قوله " افعل " ، وقوله " أمرتكم على أقل ما يشترك فيه الوجوب ، والندب ، وهو طلب الفعل ، واقتضاؤه ، وأن فعله خير من تركه ، وهذا معلوم ، وأما لزوم العقاب بتركه فغير معلوم فيتوقف فيه ، وهذا فاسد من ثلاثة أوجه :

الأول : أن هذا استدلال والاستدلال لا مدخل له في اللغات ، وليس هذا نقلا عن أهل اللغة أن قوله " افعل " للندب .

الثاني : أنه لو وجب تنزيل الألفاظ على الأقل المستيقن لوجب تنزيل هذا على الإباحة ، والإذن ، إذ قد يقال : " أذنت لك في كذا فافعله " فهو الأقل المشترك ، أما حصول الثواب بفعله فليس بمعلوم كلزوم العقاب بتركه لا سيما على مذهب المعتزلة ، فالمباح عندهم حسن ، ويجوز أن يفعله الفاعل لحسنه ، ويأمر به ، وكذلك يلزم تنزيل صيغة الجمع على أقل الجمع ، ولم يذهبوا إليه .

الثالث : وهو التحقيق : أن ما ذكروه إنما يستقيم أن لو كان الواجب ندبا ، وزيادة فتسقط الزيادة المشكوك فيها ، ويبقى الأصل ، وليس كذلك بل يدخل في حد الندب جواز تركه ، فهل تعلمون أن المقول فيه " افعل " يجوز تركه أم لا ؟ فإن لم تعلموه فقد شككتم في كونه ندبا ، وإن علمتموه فمن أين ذلك ، واللفظ لا يدل على لزوم المأثم بتركه فلا يدل على سقوط المأثم بتركه أيضا ؟ فإن قيل : لا معنى لجواز تركه إلا أنه لا حرج عليه في فعله ، وذلك كان معلوما قبل ورود السمع فلا يحتاج فيه إلى تعريف السمع بخلاف لزوم المأثم .

قلنا : لا يبقى لحكم العقل بالنفي بعد ورود صيغة الأمر حكم ، فإنه معين للوجوب عند قوم فلا أقل من احتمال ، وإذا احتمل حصل الشك في كونه ندبا فلا [ ص: 208 ] وجه إلا التوقف . نعم يجوز الاستدلال به على بطلان قول من يقول : إنه منهي عنه محرم لأنه ضد الوجوب ، والندب جميعا .

الشبهة الثانية : التمسك بقوله عليه السلام : { إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم ، وإذا نهيتكم عن شيء فانتهوا } ففوض الأمر إلى استطاعتنا ، ومشيئتنا ، وجزم في النهي طلب الانتهاء . قلنا : هذا اعتراف بأنه من جهة اللغة ، والوضع ليس للندب ، واستدلال بالشرع ، ولا يثبت مثل ذلك بخبر الواحد لو صحت دلالته ، كيف ، ولا دلالة له إذا لم يقل فافعلوا ما شئتم بل قال ما استطعتم ، كما قال : { فاتقوا الله ما استطعتم } ، ، وكل إيجاب مشروط بالاستطاعة ، وأما قوله : { فانتهوا } كيف دل على وجوب الانتهاء ؟ وقوله : { فانتهوا } صيغة أمر ، وهو محتمل للندب .

شبه الصائرين إلى أنه للوجوب : وجميع ما ذكرناه في إبطال مذهب الندب جار هاهنا ، وزيادة ، وهو أن الندب داخل تحت الأمر حقيقة كما قدمنا ، ولو حمل على الوجوب لكان مجازا في الندب ، وكيف يكون مجازا فيه مع وجود حقيقته ؟ إذ حقيقة الأمر ما يكون ممتثله مطيعا ، والممتثل مطيع بفعل الندب ولذلك إذا قيل " أمرنا بكذا حسن أن يستفهم فيقال : أمر إيجاب أو أمر استحباب ، وندب ؟ ولو قال : رأيت أسدا ، لم يحسن أن يقال : أردت سبعا أو شجاعا لأنه موضوع للسبع ، ويصرف إلى الشجاع بقرينة . وشبههم سبع : الأولى : قولهم إن المأمور في اللغة ، والشرع جميعا يفهم وجوب المأمور به حتى لا يستبعد الذم ، والعقاب عند المخالفة ، ولا الوصف بالعصيان ، وهو اسم ذم ولذلك فهمت الأمة وجوب الصلاة ، والعبادات ، ووجوب السجود لآدم بقوله : { اسجدوا } ، وبه يفهم العبد ، والولد وجوب أمر السيد ، والوالد . قلنا هذا كله نفس الدعوى ، وحكاية المذهب ، وليس شيء من ذلك مسلما ، وكل ذلك علم بالقرائن فقد تكون للأمر عادة مع المأمور ، وعهد ، وتقترن به أحوال ، وأسباب بها يفهم الشاهد الوجوب ، واسم العصيان لا يسلم إطلاقه على وجه الذم إلا بعد قرينة الوجوب ، لكن قد يطلق لا على وجه الذم كما يقال : أشرت عليك فعصيتني ، وخالفتني .

الشبهة الثانية : أن الإيجاب من المهمات في المحاورات ، فإن لم يكن قولهم " افعل " عبارة عنه فلا يبقى له اسم ومحال إهمال العرب ذلك . قلنا : هذا يقابله أن الندب أمر مهم فليكن " افعل " عبارة عنه ، فإن زعموا أن دلالته قولهم " ندبت ، وأرشدت ، ورغبت " فدلالة الوجوب قولهم " أوجبت ، وحتمت ، وفرضت ، وألزمت " . فإن زعموا أنه صيغة إخبار أو صيغة إرشاد ، فأين صيغة الإنشاء ؟ عورضوا بمثله في الندب ، ثم يبطل عليهم بالبيع ، والإجارة ، والنكاح إذ ليس لها إلا صيغة الإخبار ، كقولهم : " بعت ، وزوجت " ، وقد جعله الشرع إنشاء إذ ليس لإنشائه لفظ . الشبهة الثالثة : أن قوله " افعل " إما أن يفيد المنع أو التخيير أو الدعاء ، فإذا بطل التخيير ، والمنع تعين الدعاء ، والإيجاب . قلنا : بل يبقى قسم رابع ، وهو أن لا يفيد واحدا من [ ص: 209 ] الأقسام إلا بقرينة كالألفاظ المشتركة .

فإن قيل : أليس قوله " لا تفعل " أفاد التحريم ، فقوله " افعل " ينبغي أن يفيد الإيجاب ؟ قلنا : هذا قد نقل عن الشافعي ، والمختار أن قوله " لا تفعل " متردد بين التنزيه ، والتحريم كقوله افعل " ، ولو صح ذلك في النهي لما جاز قياس الأمر عليه ، فإن اللغة تثبت نقلا لا قياسا . فهذه شبههم اللغوية ، والعقلية . أما الشبه الشرعية فهي أقرب ، فإنه لو دل دليل الشرع على أن الأمر للوجوب لحملناه على الوجوب لكن لا دليل عليه ، وإنما الشبهة الأولى قولهم : نسلم أن اللغة ، والعقل لا يدل على تخصيص الأمر بالوجوب ، لكن يدل عليه من جهة الكتاب قوله تعالى : { ، وأطيعوا الله وأطيعوا الرسول } ثم قال : { فإن تولوا فإنما عليه ما حمل وعليكم ما حملتم } .

وهذا لا حجة فيه ; لأن الخلاف في قوله { وأطيعوا } قائم أنه للندب أو الوجوب ، وقوله : { فعليه ما حمل وعليكم ما حملتم } أي كل واحد عليه ما حمل من التبليغ ، والقبول ، وهذا إن كان معناه التهديد ، والنسبة إلى الإعراض عن الرسول عليه السلام فهو دليل على أنه أراد به الطاعة في أصل الإيمان ، وهو على الوجوب بالاتفاق ، وغاية هذا اللفظ عموم فنخصه بالأوامر التي هي على الوجوب ، وكل ما يتمسك به من الآيات من هذا الجنس فهي صيغ أمر يقع النزاع في أنه للندب أم لا ، فإن اقترن بذكر وعيد فيكون قرينة دالة على وجوب ذلك الأمر خاصة ، فإن كان أمرا عاما يحمل على الأمر بأصل الدين ، وما عرف بالدليل أنه على الوجوب ، وبه يعرف الجواب عن قوله تعالى { ، وما آتاكم الرسول فخذوه } ، وقوله تعالى : { وإذا قيل لهم اركعوا لا يركعون } ، وقوله تعالى : { فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم } فكل ذلك أمر بتصديقه ، ونهي عن الشك في قوله ، وأمر بالانقياد في الإتيان بما أوجبه .

الشبهة الثانية : تمسكهم بقوله : { فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم } قلنا : تدعون أنه نص في كل أمر أو عام ؟ ، ولا سبيل إلى دعوى النص ، وإن ادعيتم العموم فقد لا نقول بالعموم ، ونتوقف في صيغته كما نتوقف في صيغة الأمر ، أو نخصصه بالأمر بالدخول في دينه بدليل أن ندبه أيضا أمره ، ومن خالف عن أمره في قوله تعالى : { فكاتبوهم إن علمتم فيهم خيرا } ، وقوله : { ، واستشهدوا شهيدين } ، وأمثاله لا يتعرض للعقاب . ثم نقول : هذا نهي عن المخالفة ، وأمر بالموافقة أي : يؤتى به على وجهه ، إن كان واجبا فواجبا ، وإن كان ندبا فندبا ، والكلام في صيغة الإيجاب لا في الموافقة ، والمخالفة . ثم لا تدل الآية إلا على وجوب أمر الرسول عليه السلام ، فأين الدليل على وجوب أمر الله تعالى ؟

الشبهة الثالثة : تمسكهم من جهة السنة بأخبار آحاد لو كانت صريحة صحيحة لم يثبت بها مثل هذا الأصل ، وليس شيء منها صريحا ، فمنها { قوله عليه السلام لبريرة ، وقد عتقت تحت عبد ، وكرهته لو راجعتيه فقالت : بأمرك يا رسول الله ، فقال : لا إنما أنا شافع فقالت : لا حاجة لي فيه } فقد علمت أنه لو كان أمرا لوجب ، وكذلك عقلت الأمة .

قلنا هذا وضع [ ص: 210 ] على بريرة ، وتوهم ، فليس في قولها إلا استفهام أنه أمر شرعي من جهة الله تعالى حتى تطيع طلبا للثواب أو شفاعة لسبب الزوج حتى تؤثر غرض نفسها عليه . فإن قيل شفاعة الرسول عليه السلام أيضا مندوب إلى إجابتها ، وفيها ثواب . قلنا : وكيف قالت : لا حاجة لي فيه ، والمسلم يحتاج إلى الثواب فلا يقول ذلك ، لكنها اعتقدت أن الثواب في طاعته في الأمر الصادر عن الله تعالى ، وفيما هو لله لا فيما يتعلق بالأغراض الدنيوية ، أو علمت أن ذلك في الدرجة دون ما ندبت إليه فاستفهمت أو أفهمت بالقرينة أنها شكت في الوجوب فعبرت بالأمر عن الوجوب فأفهمت .

، ومنها قوله عليه السلام { لولا أني أخاف أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك عند كل صلاة } فدل على أنه للوجوب ، وإلا فهو مندوب . قلنا لما كان قد حثهم على السواك ندبا قبل ذلك أفهم أنه أراد بالأمر ما هو شاق أو كان قد أوحي إليه إنك لو أمرتهم بقولك : استاكوا لأوجبنا ذلك عليهم فعلمنا أن ذلك يجب بإيجاب الله تعالى عند إطلاقه صيغة الأمر ، ومنها قوله عليه السلام لأبي سعيد الخدري لما دعاه ، وهو في الصلاة فلم يجبه : " أما سمعت الله تعالى يقول { { استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم } ؟ } فكان هذا التوبيخ على مخالفة أمره . قلنا : لم يصدر منه أمر بل مجرد نداء ، وكان قد عرفهم بالقرائن تفهيما ضروريا وجوب التعظيم له ، وأن ترك جواب النداء تهاون ، وتحقير بأمره بدليل أنه كان في الصلاة ، وإتمام الصلاة واجب ، ومجرد النداء لا يدل على ترك واجب بل يجب تركه بما هو أوجب منه كما يجب ترك الصلاة لإنقاذ الغرقى ، ومجرد النداء لا يدل عليه .

ومنها قول الأقرع بن حابس أحجنا هذا لعامنا هذا أم للأبد ؟ فقال عليه السلام : " للأبد ، ولو قلت نعم لوجب " فدل على أن جميع أوامره للإيجاب . قلنا : قد كان عرف وجوب الحج بقوله تعالى : { ولله على الناس حج البيت } ، وبأمور أخر صريحة ، لكن شك في أن الأمر للتكرار أو للمرة الواحدة ، فإنه متردد بينهما ، ولو عين الرسول عليه السلام أحدهما لتعين ، وصار متعينا في حقنا ببيانه فمعنى قوله لو قلت نعم لوجب " أي : لو عينت لتعين .

الشبهة الرابعة : من جهة الإجماع زعموا أن الأمة لم تزل في جميع الأعصار ترجع في إيجاب العبادات ، وتحريم المحظورات إلى الأوامر ، والنواهي ، كقوله : { أقيموا الصلاة وآتوا الزكاة } ، وغيرها و { قاتلوا المشركين كافة } ، وقوله : { ولا تقربوا الزنا } و { لا تأكلوا الربا } { ، ولا تأكلوا أموالهم إلى أموالكم } { ، ولا تقتلوا أنفسكم } { ، ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم } ، وأمثاله ، والجواب : أن هذا وضع ، وتقول على الأمة ، ونسبة لهم إلى الخطأ ، ويجب تنزيههم عنه . نعم يجوز أن يصدر ذلك من طائفة ظنوا أن ظاهر الأمر للوجوب ، وإنما فهم المحصلون ، وهم الأقلون ذلك من القرائن ، والأدلة بدليل أنهم قطعوا بوجوب الصلاة ، وتحريم الزنا ، والأمر محتمل للندب ، وإن لم يكن موضوعا له ، والنهي يحتمل التنزيه ، وكيف قطعوا مع الاحتمال لولا أدلة قاطعة ، وما قولهم إلا كقول من يقول : الأمر للندب بالإجماع ، لأنهم حكموا بالندب في الكتابة والاستشهاد ، وأمثاله لصيغة الأمر ، والأوامر التي حملتها الأمة على الندب أكثر فإن النوافل ، والسنن ، والآداب أكثر من الفرائض ، إذ ما من فريضة إلا ، ويتعلق [ ص: 211 ] بها ، وبإتمامها ، وبآدابها سنن كثيرة ، أو نقول هي للإباحة بدليل حكمهم بالإباحة في قوله : { فاصطادوا } ، وقوله : { فإذا قضيت الصلاة فانتشروا في الأرض } ، وإن كان ذلك للقرائن فكذلك الوجوب .

فإن قيل ، وما تلك القرائن ؟ قلنا : أما في الصلاة فمثل قوله تعالى : { إن الصلاة كانت على المؤمنين كتابا موقوتا } ، وما ورد من التهديدات في ترك الصلاة ، وما ورد من تكليف الصلاة في حال شدة الخوف ، والمرض إلى غير ذلك ، وأما الزكاة فقد اقترن بقوله تعالى : { وآتوا الزكاة } ، وغيرها ، وقوله تعالى : { والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله } إلى قوله : { فتكوى بها جباههم وجنوبهم وظهورهم } . وأما الصوم فقوله : { كتب عليكم الصيام } ، وقوله { فعدة من أيام أخر } ، وإيجاب تداركه على الحائض ، وكذلك الزنا ، والقتل ورد فيهما تهديدات ، ودلالات تواردت على طول مدة النبوة لا تحصى ، فلذلك قطعوا به لا بمجرد الأمر الذي منتهاه أن يكون ظاهرا فيتطرق إليه الاحتمال .

التالي السابق


الخدمات العلمية