صفحة جزء
الفصل الثاني : في جواز إسماع العموم من لم يسمع الخصوص

إسماع العموم من لم يسمع الخصوص .

وقد اختلفوا في جوازه فقيل : لا يجوز ذلك ; لأن فيه إلباسا ، وتجهيلا ، ونحن نقول : يجب على الشارع أن يذكر دليل الخصوص إما مقترنا ، وإما متراخيا على ما ذكرناه من تأخير البيان ، وليس من ضرورة كل مجتهد بلغه العموم أن يبلغه دليل الخصوص ، بل يجوز أن يغفل عنه ، ويكون حكم الله عليه العمل بالعموم ، وهذا القدر الذي بلغه ، ولا يكلف ما لم يبلغه .

ودليل جوازه وقوعه بالإجماع ، فإن من الأدلة المخصصة ما هي عقلية غامضة عجز عنها الأكثرون إلا الراسخون في العلم ، وغلطوا فيها ، فالألفاظ المتشابهة في القرآن الموهمة للتشبيه بلغت الجميع ، والأدلة العقلية الغامضة لم ينتبه لها الجميع ، ولم يرد الشرع صريحا بنفي التشبيه ، وقطع الوهم ، وذلك سبب للجهل ، والدليل عليه وقوع الجهل للمشبهة . فإن قيل : العقل الذي يدل على التخصيص عتيد لكل عاقل فالحوالة عليه ليس بتجهيل . قلنا : وأي شيء ينفع كونه عتيدا ، ولم يزل به جهل الأكثرين ، وكان يزول بالتصريح ، والنص الذي لا يوهم التشبيه أصلا .

احتجوا بشبهتين .

الأولى : أنه لو جاز ذلك لجاز أن يسمعهم المنسوخ دون الناسخ ، والمستثنى دون الاستئناء . قلنا : ذلك جائز في النسخ ، وعليه العمل بالمنسوخ إلى أن يبلغه الناسخ ، وليس عليه إلا تجويز النسخ ، والتصفح عن دليله ، فإذا لم يبلغه فلا تكليف عليه بما لم يبلغه كما إذا عجز عن معرفة التخصيص بعد البحث عمل بالعموم ، وأما الاستثناء فيشترط اتصاله فكيف لا يبلغه ؟ نعم يجوز أن يسمعه الأول ، فينزعج عن المكان لعارض قبل سماع الاستثناء فلا يسمعه فلا يكون [ ص: 256 ] مكلفا بما لم يبلغه الشبهة الثانية : قولهم تبليغ العام دون دليل الخصوص تجهيل ; فإنه يعتقد العموم ، وهو جهل .

قلنا : الجهل من جهته إن اعتقد جزما عمومه ، بل ينبغي أن يعتقد أن ظاهره العموم ، وهو محتمل للخصوص ، ومكلف بطلب دليل الخصوص إلى أن يبلغه أو يظهر له انتفاؤه ; لأنه إن اعتقد أنه عام قطعا أو خاص قطعا أو لا عام ، ولا خاص أو هو عام ، وخاص معا فكل ذلك جهل ، فإذا بطل الكل لم يبق إلا اعتقاد أنه ظاهر في العموم محتمل للخصوص ، وبهذا يتبين بطلان مذهب أبي حنيفة حيث قال : قوله : { فتحرير رقبة } يجب أن يعتقد عمومه قطعا حتى يكون إخراج الكافرة نسخا ، وقوله : { وليطوفوا بالبيت العتيق } يجب اعتقاد إجزائه قطعا حتى يكون اشتراط الطهارة بدليل آخر نسخا .

، وهو خطأ بل يعتقده ظاهرا محتملا أو يتوقف عن القطع ، والجزم نفيا ، وإثباتا فإنه ليس بقاطع .

التالي السابق


الخدمات العلمية