صفحة جزء
مسألة الذين ذهبوا إلى أن التعبد بالقياس واجب عقلا

متحكمون فمطالبون بالدليل ، ولهم شبهتان :

الأولى : أن الأنبياء مأمورون بتعميم الحكم في كل صورة ، والصور لا نهاية لها ، فكيف تحيط النصوص بها ؟ ، فيجب ردهم إلى الاجتهاد ضرورة ، فنقول : هذا فاسد ; لأن الحكم في الأشخاص التي ليست متناهية إنما يتم بمقدمتين : كلية ، كقولنا : كل مطعوم ربوي ، وجزئية ، كقولنا : هذا النبات مطعوم أو الزعفران مطعوم ، وكقولنا : كل مسكر حرام ، وهذا الشراب بعينه مسكر ، وكل عدل مصدق ، وزيد عدل ، وكل زان مرجوم ، وماعز قد زنى فهو إذا مرجوم ، ، والمقدمة الجزئية هي التي لا تتناهى مجاريها فيضطر فيها إلى الاجتهاد لا محالة ، وهو اجتهاد في تحقيق مناط الحكم ، وليس ذلك بقياس .

أما المقدمة الكلية فتشتمل على مناط الحكم وروابطه ، وذلك يمكن التنصيص عليه بالروابط الكلية ، كقوله : كل مطعوم ربوي بدلا عن قوله : لا تبيعوا البر بالبر ، وكقوله : كل مسكر حرام بدلا عن قوله : حرمت الخمر ، وإذا أتى بهذه الألفاظ العامة وقع الاستغناء عن استنباط مناط الحكم ، واستغني عن القياس ، هذا مع أنه يمكن منازعة هذا القائل بأنه لم يجب استيعاب جميع الصور بالحكم ، ولم يستحل خلو بعضها عن الحكم ، فإنه في المقدمة الجزئية أيضا يمكن أن يرد فيه إلى اليقين ، فيقال : من تيقنتم صدقه ، وما تيقنتم كونه مطعوما أو مسكرا فاحكموا به ، وما لم تتيقنوا به فاتركوه على حكم الأصل ، إلا أن هذا لا يجري في جميع الجزئيات ; لأنه لا سبيل إلى تيقن صدق الشهود ، وعدالة القضاة ، والولاة ، ولا سبيل إلى تعطيل الأحكام ، وكذلك لا سبيل إلى تقدير متيقن في كفاية الأقارب ، وأروش المتلفات ، فإن التكثير فيه إلى حصول اليقين ربما يضر بجانب الموجب عليه كما يضر التقليل بجانب الموجب له ، فالاجتهاد في تحقيق مناط الحكم ضرورة أما في تخريج المناط ، وتنقيح المناط فلا .

الثانية : قولهم : إن العقل كما دل على العلل العقلية دل على العلل الشرعية ، فإنها تدرك بالعقل ، ومناسبة الحكم مناسبة عقلية مصلحة يتقاضى العقل ورود الشرع بها ، وهذا فاسد ; لأن القياس إنما يتصور لخصوص النص ببعض مجاري الحكم ، وكل حكم قدر خصوصه فتعميمه ممكن ، فلو عم لم يبق للقياس مجال ، وما ذكروه من قياس العلة الشرعية بالعلة العقلية خطأ ; لأن من العلل ما لا يناسب ، وما تناسب لا توجب الحكم لذاتها ، بل يجوز أن يتخلف الحكم عنها ، فيجوز أن لا يحرم المسكر ، وأن لا يوجب الحد بالزنا ، والسرقة ، وكذا سائر العلل ، والأسباب . [ ص: 286 ]

التالي السابق


الخدمات العلمية