الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
              الباب الأول : في إثبات القياس على منكريه وقد قالت الشيعة ، وبعض المعتزلة : يستحيل التعبد بالقياس عقلا ، وقال قوم في مقابلتهم : يجب التعبد به عقلا ، وقال قوم : لا حكم للعقل فيه بإحالة ، ولا إيجاب ، ولكنه في مظنة الجواز . ثم اختلفوا في وقوعه فأنكر أهل الظاهر وقوعه بل ادعوا حظر الشرع له .

              ، والذي ذهب إليه الصحابة رضي الله عنهم بأجمعهم ، وجماهير الفقهاء والمتكلمين بعدهم - رحمهم الله - وقوع التعبد به شرعا ، ففرق المبطلة له ثلاث : المحيل له عقلا ، والموجب له عقلا ، والحاظر له شرعا ، فنفرض على كل فريق مسألة ، ونبطل عليهم خيالهم ، ونقول للمحيل للتعبد به عقلا : بم عرفت إحالته أبضرورة أو نظر ؟ ولا سبيل إلى دعوى شيء من ذلك ، ولهم مسالك .

              الأول : قولهم كل ما نصب الله تعالى دليلا قاطعا على معرفته فلا نحيل التعبد به ، إنما نحيل التعبد بما لا سبيل إلى معرفته ; لأن رجم الظن جهل ، ولا صلاح للخلق في إقحامهم ورطة الجهل حتى يتخبطوا فيه ، ويحكموا بما لا يتحققون أنه حكم الله ، بل يجوز أنه نقيض حكم الله تعالى . فهذان أصلان :

              أحدهما : أن الصلاح واجب على الله تعالى .

              والثاني : أنه لا صلاح في التعبد بالقياس ، ففي أيهما النزاع ؟ والجواب : إننا ننازعكم في الأصلين جميعا ، أما إيجاب صلاح العباد على الله تعالى فقد أبطلناه فلا نسلم ، وإن سلمنا فقد جوز التعبد بالقياس بعض من أوجب الصلاح ، وقال : لعل الله تعالى علم لطفا بعباده في الرد إلى القياس لتحمل كلفة الاجتهاد ، وكد القلب ، والعقل في الاستنباط لنيل الخيرات الجزيلة { يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات } ، وتجشم القلب بالفكر لا يتقاعد عن تجشم البدن بالعبادات .

              فإن قيل : كان الشارع قادرا على أن يكفيهم بالتنصيص كلمات الظن ، وذلك ` أصلح قلنا : من أوجب الصلاح لا يوجب الأصلح ، ثم لعل الله تعالى علم من عباده أنه لو نص على جميع التكاليف لبغوا ، وعصوا ، وإذا فوض إلى رأيهم انبعث حرصهم لاتباع اجتهادهم ، وظنونهم . ثم نقول : أليس قد أقحمهم ورطة الجهل في الحكم بقول الشاهدين ، والاستدلال على القبلة ، وتقدير المثل ، والكفايات في النفقات ، والجنايات ؟ وكل ذلك ظن ، وتخمين .

              فإن قيل : ما تعبد القاضي بصدق الشاهدين ، فإن ذلك لا يقدر عليه ، بل أوجب الحكم عليه عند ظن الصدق ، وأوجب استقبال جهة يظن أن القبلة فيها لا استقبال القبلة . قلنا : ، وكذلك تعبد المجتهد بأن يحكم بشهادة الأصل للفرع إذا غلب على ظنه دلالته عليه ، وشهادته له ، ولا تكليف عليه في تحقيق تلك الشهادة ، بل هو مكلف بظنه ، وإن فسدت الشهادة ، كما كلف الحاكم الحكم بظنه ، وإن كان كذب الشهود ممكنا ، ولا فرق ، ولذلك نقول كل مجتهد مصيب ، والخطأ محال إذ يستحيل أن يكلف إصابة ما لم ينصب عليه دليل قاطع ، وما أنكروه إنما يشكل على من يقول المصيب واحد .

              ، وتحقيقه أنه [ ص: 284 ] لو قال الشارع : حرمت كل مسكر أو حرمت الخمر لكونه مسكرا ، لم يكن التعبد به ممتنعا ; فلو قال : متى حرمت الربا في البر فاسبروا ، وقسموا صفاته ، فإن غلب على ظنكم بأمارة أني حرمته لكونه قوتا ، وحرمت الخمر لكونه مسكرا ، فقد حرمت عليكم كل قوت ، وكل مسكر ، ومن غلب على ظنه أني حرمته لكونه مكيلا فقد حرمت كل مكيل .

              لم يكن بين هذا ، وبين قوله : " إذا اشتبهت عليكم القبلة فكل جهة غلب على ظنكم أن القبلة فيها فاستقبلوها " فرق حتى لو غلب جهتان على ظن رجلين ، فيكون كل واحد مصيبا ، وكما لم يمتنع أن يلحق ظن القبلة بمشاهدتها ، وظن صدق العدل بتحقيق صدق الرسول المؤيد بالمعجزة ، وصدق الراوي الواحد بتحقيق صدق التواتر فكذلك لا يمتنع أن يلحق ظن ارتباط الحكم بمناط بتحقق ارتباطه به بالنص الصريح .

              فإن قيل : فأي مصلحة في تحريم الربا في البر لكونه مكيلا أو قوتا أو مطعوما ؟ قلنا : ومن أوجب الأصلح لم يشترط كون المصلحة مكشوفة للعباد ، وأي مصلحة في تقدير المغرب ثلاث ركعات ، والصبح بركعتين ، وفي تقدير الحدود ، والكفارات ، ونصب الزكوات بمقادير مختلفة ؟ لكن علم الله تعالى في التعبد لطفا استأثر بعلمه ، يقرب العباد بسببه من الطاعة ، ويبعدون به عن المعصية ، وأسباب الشقاوة . حتى لو أضاف الحكم إلى اسم مجرد ثبت ، واعتقدنا فيه لطفا لا ندركه فكيف لا يتصور ذلك في الأوصاف .

              الشبهة الثانية : قولهم : لا يستقيم قياس إلا بعلة ، والعلة ما توجب الحكم لذاتها ، وعلل الشرع ليست كذلك ، فكيف يستقيم التعليل مع أن ما نصب علة للتحريم يجوز أن يكون علة للتحليل ؟ قلنا : لا معنى لعلة الحكم إلا علامة منصوبة على الحكم ، ويجوز أن ينصب الشرع السكر علامة لتحريم الخمر ، ويقول : اتبعوا هذه العلامة واجتنبوا كل مسكر ، ويجوز أن ينصبه علامة للتحليل أيضا ، ويجوز أن يقول : من ظن أنه علامة للتحليل فقد حللت له كل مسكر ، ومن ظن أنه علامة للتحريم فقد حرمت عليه كل مسكر ، حتى يختلف المجتهدون في هذه الظنون ، وكلهم مصيبون .

              الشبهة الثالثة : قوله حكم الله تعالى خبره ، ويعرف ذلك بتوقيف ، فإذا لم يخبر الله عن حكم الزبيب ، فكيف يقال حكم الله في الزبيب التحريم ، والنص لم ينطق إلا بالأشياء الستة ؟ قلنا : إذا قال الله تعالى : قد تعبدتكم بالقياس فإذا ظننتم أني حرمت الربا في البر لكونه مطعوما ، فقيسوا عليه كل مطعوم ، فيكون هذا خبرا عن حكم الزبيب .

              وما لم يقم دليل على التعبد بالقياس لا يجوز القياس عندنا ، فالقياس عندنا حكم بالتوقيف المحض كما قررناه في كتاب أساس القياس لكن هذا النص بعينه ، وإن لم يرد فقد دل إجماع الصحابة على القياس على أنهم ما فعلوا ذلك إلا ، وقد فهموا من الشارع هذا المعنى بألفاظ ، وقرائن ، وإن لم ينقلوها إلينا . الشبهة الرابعة : قولهم : إذا اشتبهت رضيعة بعشر أجنبيات ، أو ميتة بعشر مذكيات ، لم يجز مد اليد إلى واحدة ، وإن وجدت علامات لإمكان الخطأ ، والخطأ ممكن في كل اجتهاد ، وقياس ، فكيف يجوز الهجوم مع إمكان الخطأ ؟ ولا يلزم هذا على الاجتهاد في القبلة ، وعدالة الشاهد ، والقاضي ، والإمام ، ومتولي الأوقاف لمعنيين :

              أحدهما : أن ذلك حكم في الأشخاص ، والأعيان ، ولا نهاية لها ، ولا يمكن تعريفها بالنص .

              والثاني : أن الخطأ فيه غير ممكن ; ; لأنهم متعبدون بظنونهم لا بصدق الشهود .

              قلنا : وكذلك [ ص: 285 ] نحن نعترف بأنه لا خلاص عن هذا الإشكال إلا بتصويب كل مجتهد ، وأن المجتهد ، وإن خالف النص فهو مصيب ، إذ لم يكلف إلا بما بلغه ، فالخطأ غير ممكن في حقه . أما من ذهب إلى أن المصيب واحد ، فيلزمه هذا الإشكال .

              وأما اختلاط الرضيعة بأجنبيات فلسنا نسلم أن المانع مجرد إمكان الخطأ ، فإنه لو شك في رضاع امرأة حل له نكاحها ، والخطأ ممكن ، لكن الشرع إنما أباح نكاح امرأة يعلم أنها أجنبية بيقين ، وحكم أن اليقين لا يندفع بالشك الطارئ ، أما إذا تعارض يقينان ، وهو يقين التحريم ، والتحليل فليس ذلك في معنى اليقين الصافي عن المعارضة ، ولا في معنى اليقين الذي لم يعارضه إلا الشك المجرد ، فلم يلحق به اتباعا لموجب الدليل ، ولو ورد الشرع بالرخصة فيه لم يكن ذلك ممتنعا .

              التالي السابق


              الخدمات العلمية