صفحة جزء
[ العمل بالسياسة ] وجرت في ذلك مناظرة بين أبي الوفاء ابن عقيل وبين بعض الفقهاء ، فقال ابن عقيل : العمل بالسياسة هو الحزم ، ولا يخلو منه إمام ، وقال الآخر : لا سياسة إلا ما وافق الشرع ، فقال ابن عقيل : السياسة ما كان من الأفعال بحيث يكون الناس معه أقرب إلى الصلاح وأبعد عن الفساد ، وإن لم يشرعه الرسول صلى الله عليه وسلم ولا نزل به وحي ; فإن أردت بقولك " لا سياسة إلا ما وافق الشرع " أي لم يخالف ما نطق به الشرع فصحيح ، وإن أردت ما نطق به الشرع فغلط وتغليط للصحابة ; فقد جرى من الخلفاء الراشدين من القتل والمثل ما لا يجحده عالم بالسير ، ولو لم يكن إلا تحريق المصاحف كان رأيا اعتمدوا فيه على مصلحة ، وكذلك تحريق علي كرم الله وجهه الزنادقة في الأخاديد ، ونفي عمر نصر بن حجاج .

قلت : هذا موضع مزلة أقدام ، ومضلة أفهام ، وهو مقام ضنك في معترك صعب ، فرط فيه طائفة فعطلوا الحدود ، وضيعوا الحقوق ، وجرؤا أهل الفجور على الفساد ، وجعلوا الشريعة قاصرة لا تقوم بمصالح العباد ، وسدوا على أنفسهم طرقا صحيحة من الطرق التي يعرف بها المحق من المبطل ، وعطلوها مع علمهم وعلم الناس بها أنها أدلة حق ، ظنا منهم منافاتها لقواعد الشرع ، والذي أوجب لهم ذلك نوع تقصير في معرفة حقيقة الشريعة والتطبيق بين الواقع وبينها ، فلما رأى ولاة الأمر ذلك وأن الناس لا يستقيم أمرهم إلا بشيء زائد على ما فهمه هؤلاء من الشريعة فأحدثوا لهم قوانين سياسية ينتظم بها مصالح العالم ; فتولد من تقصير أولئك في الشريعة وإحداث هؤلاء ما أحدثوه من أوضاع سياستهم شر [ ص: 284 ] طويل ، وفساد عريض ، وتفاقم الأمر ، وتعذر استدراكه ، وأفرط في طائفة أخرى فسوغت منه ما يناقض حكم الله ورسوله ، وكلا الطائفتين أتيت من قبل تقصيرها في معرفة ما بعث الله به رسوله ; فإن الله أرسل رسله وأنزل كتبه ليقوم الناس بالقسط ، وهو العدل الذي قامت به السموات والأرض ، فإذا ظهرت أمارات الحق ، وقامت أدلة العقل ، وأسفر صبحه بأي طريق كان ; فثم شرع الله ودينه ورضاه وأمره ، والله تعالى لم يحصر طرق العدل وأدلته وأماراته في نوع واحد وأبطل غيره من الطرق التي هي أقوى منه وأدل وأظهر ، بل بين بما شرعه من الطرق أن مقصوده إقامة الحق والعدل وقيام الناس بالقسط ، فأي طريق استخرج بها الحق ومعرفة العدل وجب الحكم بموجبها ومقتضاها .

والطرق أسباب ووسائل لا تراد لذواتها ، وإنما المراد غاياتها التي هي المقاصد ، ولكن نبه بما شرعه من الطرق على أسبابها وأمثالها ، ولن تجد طريقا من الطرق المثبتة للحق إلا وهي شرعة وسبيل للدلالة عليها ، وهل يظن بالشريعة الكاملة خلاف ذلك ؟ ولا نقول : إن السياسة العادلة مخالفة للشريعة الكاملة ، بل هي جزء من أجزائها وباب من أبوابها ، وتسميتها سياسة أمر اصطلاحي ، وإلا فإذا كانت عدلا فهي من الشرع ، فقد حبس رسول الله صلى الله عليه وسلم في تهمة ، وعاقب في تهمة لما ظهرت أمارات الريبة على المتهم ; فمن أطلق كلا منهم وخلى سبيله أو حلفه مع علمه باشتهاره بالفساد في الأرض ونقب الدور وتواتر السرقات - ولا سيما مع وجود المسروق معه - وقال : لا آخذه إلا بشاهدي عدل أو إقرار اختيار وطوع فقوله مخالف للسياسة الشرعية ، وكذلك منع النبي صلى الله عليه وسلم الغال من الغنيمة سهمه ، وتحريق الخلفاء الراشدين متاعه ، ومنع المسيء على أمين سلب قتيله ، وأخذ شطر مال مانع الزكاة ، وإضعافه الغرم على سارق مالا قطع فيه ، وعقوبته بالجلد ، وإضعافه الغرم على كاتم الضالة ، وتحريق عمر بن الخطاب حانوت الخمار ، وتحريقه قرية يباع فيها الخمر ، وتحريقه قصر سعد بن أبي وقاص لما احتجب فيه عن رعيته ، وحلقه رأس نصر بن حجاج ونفيه ، وضربه صبيغا بالدرة لما تتبع المتشابه فسأل عنه ، إلى غير ذلك من السياسة التي ساس بها الأمة فسارت سنة إلى يوم القيامة ، وإن خالفها من خالفها .

ولقد حد أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم في الزنا بمجرد الحبل ، وفي الخمر بالرائحة والقيء ، وهذا هو الصواب ، فإن دليل القيء والرائحة والحبل على الشرب والزنا أولى من البينة قطعا ; فكيف يظن بالشريعة إلغاء أقوى الدليلين ، ومن ذلك تحريق الصديق اللوطي ، وإلقاء أمير المؤمنين علي كرم الله وجهه له من شاهق على رأسه ، ومن ذلك تحريق عثمان المصاحف المخالفة للمصحف الذي جمع الناس عليه ، وهو الذي بلسان قريش ، ومن ذلك تحريق [ ص: 285 ] الصديق الفجاءة السلمي ، ومن ذلك اختيار عمر رضي الله عنه للناس إفراد الحج وأن يعتمروا في غير أشهر الحج ، فلا يزال البيت الحرام معمورا بالحجاج والمعتمرين ، ومن ذلك منع عمر رضي الله عنه الناس من بيع أمهات الأولاد ، وقد باعوهن في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم وحياة أبي بكر رضي الله عنه وأرضاه ، ومن ذلك إلزامه بالطلاق الثلاث لمن أوقعه بفم واحد عقوبة له كما صرح هو بذلك ، وإلا فقد كان على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وصدرا من إمارته هو يجعل واحدة ، إلى أضعاف ذلك من السياسات العادلة التي ساسوا بها الأمة ، وهي مشتقة من أصول الشريعة وقواعدها .

وتقسيم بعضهم طرق الحكم إلى شريعة وسياسة كتقسيم غيرهم الدين إلى شريعة وحقيقة ، وكتقسيم آخرين الدين إلى عقل ونقل ، وكل ذلك تقسيم باطل ، بل السياسة والحقيقة والطريقة والعقل كل ذلك ينقسم إلى قسمين : صحيح ، وفاسد ; فالصحيح قسم من أقسام الشريعة لا قسيم لها ، والباطل ضدها ومنافيها ، وهذا الأصل من أهم الأصول وأنفعها ، وهو مبني على حرف واحد ، وهو عموم رسالته صلى الله عليه وسلم بالنسبة إلى كل ما يحتاج إليه العباد في معارفهم وعلومهم وأعمالهم ، وأنه لم يحوج أمته إلى أحد بعده ، وإنما حاجتهم إلى من يبلغهم عنه ما جاء به ، فلرسالته عمومان محفوظان لا يتطرق إليهما تخصيص : عموم بالنسبة إلى المرسل إليهم ، وعموم بالنسبة إلى كل ما يحتاج إليه من بعث إليه في أصول الدين وفروعه ; فرسالته كافية شافية عامة ، لا تحوج إلى سواها ، ولا يتم الإيمان به إلا بإثبات عموم رسالته في هذا وهذا ، فلا يخرج أحد من المكلفين عن رسالته ، ولا يخرج نوع من أنواع الحق الذي تحتاج إليه الأمة في علومها وأعمالها عما جاء به .

[ بين الرسول جميع أحكام الحياة والموت ] وقد توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وما طائر يقلب جناحيه في السماء إلا ذكر للأمة منه علما ، وعلمهم كل شيء حتى آداب التخلي وآداب الجماع والنوم والقيام والقعود ، والأكل والشرب ، والركوب والنزول ، والسفر والإقامة ، والصمت والكلام ، والعزلة والخلطة ، والغنى والفقر ، والصحة والمرض ، وجميع أحكام الحياة والموت ، ووصف لهم العرش والكرسي والملائكة والجن والنار والجنة ويوم القيامة وما فيه حتى كأنه رأي عين ، وعرفهم معبودهم وإلههم أتم تعريف حتى كأنهم يرونه ويشاهدونه بأوصاف كماله ونعوت جلاله ، وعرفهم الأنبياء وأممهم وما جرى لهم ، وما جرى عليهم معهم حتى كأنهم كانوا بينهم ، وعرفهم من طرق الخير والشر دقيقها وجليلها ما لم يعرفه نبي لأمته قبله ، وعرفهم صلى الله عليه وسلم من [ ص: 286 ] أحوال الموت وما يكون بعده في البرزخ وما يحصل فيه من النعيم والعذاب للروح والبدن ما لم يعرف به نبي غيره ، وكذلك عرفهم صلى الله عليه وسلم من أدلة التوحيد والنبوة والمعاد والرد على جميع فرق أهل الكفر والضلال ما ليس لمن عرفه حاجة من بعده ، اللهم إلا إلى من يبلغه إياه ويبينه ويوضح منه ما خفي عليه ، وكذلك عرفهم صلى الله عليه وسلم من مكايد الحروب ولقاء العدو وطرق النصر والظفر ما لو علموه وعقلوه ورعوه حق رعايته لم يقم لهم عدو أبدا ، وكذلك عرفهم صلى الله عليه وسلم من مكايد إبليس وطرقه التي يأتيهم منها وما يتحرزون به من كيده ومكره وما يدفعون به شره ما لا مزيد عليه ، وكذلك عرفهم صلى الله عليه وسلم من أحوال نفوسهم وأوصافها ودسائسها وكمائنها ما لا حاجة لهم معه إلى سواه ، وكذلك عرفهم صلى الله عليه وسلم من أمور معايشهم ما لو علموه وعملوه لاستقامت لهم دنياهم أعظم استقامة .

وبالجملة فجاءهم بخير الدنيا والآخرة برمته ، ولم يحوجهم الله إلى أحد سواه ، فكيف يظن أن شريعته الكاملة التي ما طرق العالم شريعة أكمل منها ناقصة تحتاج إلى سياسة خارجة عنها تكملها ، أو إلى قياس أو حقيقة أو معقول خارج عنها ؟ ومن ظن ذلك فهو كمن ظن أن بالناس حاجة إلى رسول آخر بعده ، وسبب هذا كله خفاء ما جاء به على من ظن ذلك وقلة نصيبه من الفهم الذي وفق الله له أصحاب نبيه الذين اكتفوا بما جاء به ، واستغنوا به عما ما سواه ، وفتحوا به القلوب والبلاد ، وقالوا : هذا عهد نبينا إلينا ، وهو عهدنا إليكم ، وقد كان عمر رضي الله عنه يمنع من الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم خشية أن يشتغل الناس به عن القرآن ، فكيف لو رأى اشتغال الناس بآرائهم وزبد أفكارهم وزبالة أذهانهم عن القرآن والحديث ؟ فالله المستعان .

وقد قال الله تعالى : { أولم يكفهم أنا أنزلنا عليك الكتاب يتلى عليهم إن في ذلك لرحمة وذكرى لقوم يؤمنون } وقال تعالى : { ونزلنا عليك الكتاب تبيانا لكل شيء وهدى ورحمة وبشرى للمسلمين } وقال تعالى : { يا أيها الناس قد جاءتكم موعظة من ربكم وشفاء لما في الصدور وهدى ورحمة للمؤمنين } وكيف يشفي ما في الصدور كتاب لا يفي هو وما تبينه السنة بعشر معشار الشريعة ؟ أم كيف يشفي ما في الصدور كتاب لا يستفاد منه اليقين في مسألة واحدة من مسائل معرفة الله وأسمائه وصفاته وأفعاله ؟ أو عامتها ظواهر لفظية دلالتها موقوفة على انتفاء عشرة أمور لا يعلم انتفاؤها ، سبحانك هذا بهتان عظيم ، ويا لله العجب ، كيف كان الصحابة والتابعون قبل وضع هذه القوانين التي أتى الله بنيانها من القواعد ، وقبل استخراج هذه الآراء والمقاييس والأوضاع ؟ أهل كانوا مهتدين [ ص: 287 ] مكتفين بالنصوص أم كانوا على خلاف ذلك ؟ حتى جاء المتأخرون فكانوا أعلم منهم وأهدى وأضبط للشريعة منهم وأعلم بالله وأسمائه وصفاته وما يجب له و [ ما ] يمتنع عليه منهم ؟ فوالله لأن يلقى الله [ عبده ] بكل ذنب ما خلا الإشراك خير من أن يلقاه بهذا الظن الفاسد والاعتقاد الباطل .

فصل :

[ كلام أحمد في السياسة الشرعية ]

وهذه نبذة يسيرة من كلام الإمام أحمد رحمه الله في السياسة الشرعية : قال في رواية المروزي وابن منصور : والمخنث ينفى ; لأنه لا يقع منه إلا الفساد والتعرض له ، وللإمام نفيه إلى بلد يأمن فساد أهله ، وإن خاف به عليهم حبسه .

وقال في رواية حنبل ، فيمن شرب خمرا في نهار رمضان ، أو أتى شيئا نحو هذا : أقيم الحد عليه ، وغلظ عليه مثل الذي يقتل في الحرم دية وثلث .

وقال في رواية حرب : إذا أتت المرأة المرأة تعاقبان وتؤدبان .

وقال أصحابنا : إذا رأى الإمام تحريق اللوطي بالنار فله ذلك ; لأن خالد بن الوليد كتب إلى أبي بكر رضي الله عنه أنه وجد في بعض نواحي العرب رجلا ينكح كما تنكح المرأة ، فاستشار أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وفيهم أمير المؤمنين علي كرم الله وجهه ، وكان أشدهم قولا ، فقال : إن هذا الذنب لم تعص الله به أمة من الأمم إلا واحدة ، فصنع الله بهم ما قد علمتم ، أرى أن يحرقوه بالنار ، فأجمع رأي أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم على أن يحرقوه بالنار ، فكتب أبو بكر الصديق رضي الله عنه إلى خالد بن الوليد رضي الله عنهما بأن يحرقوا ، فحرقهم ، ثم حرقهم ابن الزبير ، ثم حرقهم هشام بن عبد الملك .

ونص الإمام أحمد رضي الله عنه فيمن طعن على الصحابة أنه قد وجب على السلطان عقوبته ، وليس للسلطان أن يعفو عنه ، بل يعاقبه ويستتيبه ، فإن تاب ، وإلا أعاد العقوبة .

وصرح أصحابنا في أن النساء إذا خيف عليهن المساحقة حرم خلوة بعضهن ببعض .

وصرحوا بأن من أسلم وتحته أختان فإنه يجبر على اختيار إحداهما ، فإن أبى ضرب حتى يختار .

قالوا : وهكذا كل من وجب عليه حق فامتنع من أدائه ، فإنه يضرب حتى يؤديه .

[ ص: 288 ] وأما كلام مالك وأصحابه في ذلك فمشهور .

وأبعد الناس من الأخذ بذلك الشافعي رحمه الله تعالى مع أنه اعتبر قرائن الأحوال في أكثر من مائة موضع ، وقد ذكرنا منها كثيرا في غير هذا الكتاب .

منها جواز وطء الرجل المرأة ليلة الزفاف ، وإن لم يرها ولم يشهد عدلان أنها امرأته ، بناء على القرائن .

ومنها قبول الهدية التي يوصلها إليه صبي أو عبد أو كافر ، وجواز أكلها والتصرف فيها ، وإن لم يشهد عدلان أن فلانا أهدى لك كذا ، بناء على القرائن ، ولا يشترط تلفظه ولا تلفظ الرسول بلفظ الهبة والهدية .

ومنها جواز تصرفه في بابه بقرع حلقته ودقه عليه ، وإن لم يستأذنه في ذلك .

ومنها استدعاء المستأجر للدار والبستان لمن شاء من أصحابه وضيوفه وإنزالهم عنده مدة ، وإن لم يستأذنه نطقا ، وإن تضمن ذلك تصرفهم في منفعة الدار وإشغالهم الكنيف وإضعافهم السلم ونحوه .

ومنها جواز الإقدام على الطعام إذا وضعه بين يديه وإن لم يصرح له بالإذن لفظا .

ومنها جواز شربه من الإناء وإن لم يقدمه إليه ولا يستأذنه .

ومنها جواز قضاء حاجته في كنيفه وإن لم يستأذنه .

ومنها جواز الاستناد إلى وسادته .

ومنها أخذ ما ينبذه رغبة عنه من الطعام وغيره ، وإن لم يصرح بتمليكه له .

ومنها انتفاعه بفراش زوجته ولحافها ووسادتها وآنيتها ، وإن لم يستأذنها نطقا ، إلى أضعاف أضعاف ذلك .

وهل السياسة الشرعية إلا من هذا الباب .

وهي الاعتماد على القرائن التي تفيد القطع تارة والظن الذي هو أقوى من ظن الشهود بكثير تارة ؟ وهذا باب واسع ، وقد تقدم التنبيه عليه مرارا ، ولا يستغني عنه المفتي والحاكم .

التالي السابق


الخدمات العلمية