صفحة جزء
[ المراد من إيجاب الله قبول إنذار من نفر للتفقه في الدين ]

الوجه السابع والخمسون : قولكم : " وقد قال تعالى : { فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم } فأوجب قبول نذارتهم ، وذلك تقليد لهم " جوابه من وجوه : أحدها : أن الله سبحانه إنما أوجب عليهم قبول ما أنذروهم به من الوحي الذي ينزل في غيبتهم عن النبي صلى الله عليه وسلم في الجهاد ، فأين في هذا حجة لفرقة التقليد على تقديم آراء الرجال على الوحي ؟ الثاني : أن الآية حجة عليهم ظاهرة ; فإنه سبحانه نوع عبوديتهم وقيامهم بأمره إلى نوعين : أحدهما : نفير الجهاد ، والثاني : التفقه في الدين ، وجعل قيام الدين بهذين الفريقين ، وهم الأمراء والعلماء أهل الجهاد وأهل العلم ; فالنافرون يجاهدون عن القاعدين ، والقاعدون يحفظون العلم للنافرين ، فإذا رجعوا من نفيرهم استدركوا ما فاتهم من العلم بإخبار من سمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهنا للناس في الآية قولان ; أحدهما : أن المعنى " فهلا نفر من كل فرقة طائفة تتفقه وتنذر القاعدة " فيكون المعنى في طلب العلم ، وهذا قول الشافعي وجماعة من المفسرين ، واحتجوا به على قول خبر الواحد ; لأن الطائفة لا يجب أن تكون عدد التواتر .

والثاني أن المعنى " فلولا نفر من كل فرقة طائفة تجاهد لتتفقه القاعدة وتنذر النافرة للجهاد إذا رجعوا إليهم ويخبرونهم بما نزل بعدهم من الوحي " وهذا قول الأكثرين ، وهو الصحيح ; [ ص: 179 ] لأن النفير إنما هو الخروج للجهاد كما قال النبي صلى الله عليه وسلم : { وإذا استنفرتم فانفروا } وأيضا فإن المؤمنين عام في المقيمين مع النبي صلى الله عليه وسلم والغائبين عنه ، والمقيمون مرادون ولا بد فإنهم سادات المؤمنين ، فكيف لا يتناولهم اللفظ ؟ وعلى قول أولئك يكون المؤمنون خاصا بالغائبين عنه فقط ، والمعنى " وما كان المؤمنون لينفروا إليه كلهم ، فلولا نفر إليه من كل فرقة منهم طائفة " وهذا خلاف ظاهر لفظ المؤمنين ، وإخراج للفظ النفير عن مفهومه في القرآن والسنة ، وعلى كلا القولين فليس في الآية ما يقتضي صحة القول بالتقليد المذموم ، بل هي حجة على فساده وبطلانه ; فإن الإنذار إنما يقوم بالحجة ، فمن لم تقم عليه الحجة لم يكن قد أنذر ، كما أن النذير من أقام الحجة ، فمن لم يأت بحجة فليس بنذير ، فإن سميتم ذلك تقليدا فليس الشأن في الأسماء ، ونحن لا ننكر التقليد بهذا المعنى ، فسموه ما شئتم ، وإنما ننكر نصب رجل معين يجعل قوله عيارا على القرآن والسنن ; فما وافق قوله منها قبل وما خالفه لم يقبل ، ويقبل قوله بغير حجة ، ويرد قول نظيره أو أعلم منه والحجة معه ، فهذا الذي أنكرناه ، وكل عالم على وجه الأرض يعلن إنكاره وذمه وذم أهله .

الوجه الثامن والخمسون : قولكم : " إن ابن الزبير سئل عن الجد والإخوة فقال : أما الذي قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لو كنت متخذا من أهل الأرض خليلا لاتخذته خليلا - يريد أبا بكر رضي الله عنه - فإنه أنزله أبا " فأي شيء في هذا مما يدل على التقليد بوجه من الوجوه ؟ وقد تقدم من الأدلة الشافية التي لا مطمع في دفعها ما يدل على أن قول الصديق في الجد أصح الأقوال على الإطلاق ، وابن الزبير لم يخبر بذلك تقليدا ، بل أضاف المذهب إلى الصديق لينبه على جلالة قائله ، وأنه ممن لا يقاس غيره به ، لا ليقبل قوله بغير حجة وتترك الحجة من القرآن والسنة لقوله ; فابن الزبير وغيره من الصحابة كانوا أتقى لله ، وحجج الله وبيناته أحب إليهم من أن يتركوها لآراء الرجال ولقول أحد كائنا من كان ، وقول ابن الزبير : " إن الصديق أنزله أبا " متضمن للحكم والدليل معا .

التالي السابق


الخدمات العلمية